الجمعة 26 ابريل 2024

الفريق عبد المنعم رياض وحرب الاستنزاف

مقالات10-3-2022 | 20:52

لم نصدق أنفسنا ونحن نرى الدخان الذي يعقب الانفجارات في صباح يوم 5 يونيو 1967.. نعم الحرب قد بدأت ولكن ما هذا الدخان.. شاهدته وأنا في صحبة زوجة أخي، خرجنا لنحضر التموين الشهري من دكان على قارعة الشارع الرئيسي في مدينتي بالعريش ولا يبعد عن بيتنا كثيرًا.. وميكروفون الهيئة العامة للاستعلامات يعلن وصول القطار الذي يحمل طلائع الجيش الكويتي والعراقي إلى محطة العريش وأن المعركة قد بدأت وأن هناك رؤوس حان قطافها ومبنى الاستعلامات يكاد يكون ملتصقا ببيتنا ولا يفصله إلا بضع محلات تجارية، وهو الذي كان يواصل الشحن في الأيام الماضية بالأغاني والأناشيد الوطنية ناهيك عن العبارات التي تم طبعها على أسوار المدارس والمصالح الحكومية بطريقة الكرتون المفرغ والرش مثل "إسرائيل ولدت لتموت".. "النصر لنا"..."فلسطين عربية".. وهكذا.

ويشتد الوطيس على نهاية اليوم وتتوقف البيانات التي كانت تحصي إسقاط مئات الطائرات.. وعدى النهار.. وصدر قرار الانسحاب المشئوم.. ولكن المقاومة مستمرة وما هي إلا عشية أو ضحاها كان العدو على مشارف العريش ويجتاحها وتعلوا ذروة المقاومة بما تبقى من الجنود والضباط وانضمت إليها المقاومة الشعبية.. وخرجنا إلى الشوارع بعد أيام الرعب والصواريخ التي كانت تمر فوق رؤوسنا وزخات الرصاص التي كنا نسمعها ونراها في بيتنا على بعد خطوات من الشارع الرئيسي وفي وسط المدينة والبيت مكشوف "دار بها بعض الغرف تتوسطها شجرتي الزيتون والليمون".. لنرى خيرة شباب الوطن من الجنود والضباط وقد قضوا نحبهم على قارعة الطريق ناهيك عمن تم قتلهم بدم بارد وعن الأسرى الذين تم تصفيتهم.. لنبدأ جمع الشباب والأشلاء في حفرة كبيرة في ساحة مسجد تحفيظ القرأن وقد تم فيما بعد ضمها إلى المسجد وهي تحمل في بطنها أديم أجساد الرجال الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه فقضوا نحبهم.. وحُمّلوا "بضم الحاء وكسر الميم" أوزار قيادتهم التي فشلت حتى في تأمين عودتهم كما فشلت في وضع سيناريو للحرب، بل لم يقدموا الحد الأدنى من التكتيك العسكري.

ويحضرني هنا كتاب كنت قرأته في مطلع السبعينات من القرن الماضي اسمه "المرأة التي حكمت مصر" للصحفي الإنجليزي بيتر دلفن ويقصد به السيدة برلنتي عبد الحميد "ممثلة"، زوجة المشير عامر الثانية، والتي كانت مسئولة عن ترتيب السهرات الجميلة والأنس والفرفشة، بالاشتراك أحيانا مع زوجة مدير مكتبه على شفيق، والذي تم اغتياله في لندن في وقت لاحق  المطربة مها صبري، وذلك كما جاء في الكتاب، وعلى حد قوله وإن كنا لم نتحقق من صحة ما جاء فيه، ولكنه كان يثير المرار والاشمئزاز حيث يسجل أنه كان هناك حفل جمع عدد كبير من قيادات الجيش مع المشير في مطار المليز قبل الحرب بساعات وبرغم من تحذير الرئيس عبد الناصر أن الحرب قد تكون في 5 يونيو إلا أن المشير قال لرفاقه بعدها "يعني هو الريس بيقرا الغيب"، وجاء في هذا الكتاب انه أثناء هذا الحفل ضلت الطريق سيارة جيب محملة بوثائق وخرائط واستطاع العدو الحصول عليها ويشرح التفاصيل.

وبرغم الهزيمة لم نكن نصدق مثل هذه الافتراءات لأن إيماننا بعبد الناصر ووطنيته كان يفوق الحدود.. وخرجت مظاهرات الجامعات تطالب بمحاكمة القيادات المسئولة عن النكسة كما كان يحلو لنا أن نسميها، وقد حدث بالفعل.. ولكن كل هذا لن يشفى غليل أسر الشهداء الذين أحسوا أن أرواح أبنائهم ضاعت هدرًا.. إلى أن اندلعت حرب الاستنزاف وكانت حامية الوطيس وخاصة بعد تحقيق بعض النجاحات في معركة الطيران الكبرى في سماء المنصورة وتدمير رصيف إيلات وإطلاق الصواريخ على المدمرة ليبرتي وإغراقها وصمود رأس العش، وبعض العمليات خلف خطوط العدو، وتحتدم المعارك ويخرج علينا الزعيم في يوم 8 مارس لينعي إلى الأمة الشهيد البطل عبد المنعم رياض والذي لاقى ربه في الصفوف الأمامية على الجبهة ويتصدر الجنازة في ظهر اليوم التالي فيكون 9 مارس هو يوم الشهيد.

ولاشك أن هذا كان تاريخا فاصلا في حياة المصريين وفارقا يبهر عين الشمس بين قائد يستشهد على خط النار بين جنوده، وقادة عاشوا الترف والبذخ والليالي الملاح وزجوا بالرجال في معركة لم يضعوا لها أي خطط.

فكان رياض هو أيقونة الانتصار التي شحنت الشعب والجيش وكل القوى الوطنية ليوم الخلاص الأعظم وبرغم النجاحات التي حققتها  حرب الاستنزاف والتي استمرت ثلاث سنوات إلى أن طلبت إسرائيل وقف إطلاق النار بموجب مبادرة روجر وزير الخارجية الأمريكي. إلا أن استشهاد هذا الرجل الذي وهب حياته لمصر فلم يتزوج وكان الجيش كل حياته ولم ينجب ولد صالح يدعوا له، ولكنه ترك أمة كاملة تدعوا له بالرحمة والمغفرة لما دشنه في حياته، حيث بنى الجيش من الصفر مع الفريق محمد فوزي، ولما تركه من إرث مسح به كل آثام وآثار الماضي حيث رسخ مفهومًا جديدًا في قلب وعقل كل جندي وضابط وهو أن أعلى رتبة عسكرية استشهدت هنا في الخط الأمامي.. مقبل غير مدبر، فكانت نبراسًا للأجيال وشحذًا للهمم في إحراز النصر التاريخي على العدو الإسرائيلي.

Dr.Randa
Dr.Radwa