الثلاثاء 21 مايو 2024

«النائب» الذي زرع الشر.. «ديك تشيني» الصندوق الأسود في البيت الأبيض

مقالات13-3-2022 | 21:16

«الفيلم التالي قِصة حقيقية، أو حقيقية بالقَدر الذي تَوصلنا إليه، حيث يُعتبر «ديك تشيني» أكثر القادة غُموضًا وسِرية في التَاريخ، لكننا قُمنا بأقصى جهد.».. هكذا بدأ المُخرج والمُؤلف الحاصل على الأوسكار «آدم مكاي» كوميديته السَوداء «النائب» «vice»، ليبدأ تشريح عميق لرؤية الحِزب الجُمهوري لأمريكا والعالم، من خِلال تَتبع السيرة الذاتية لـ«ديك تشيني»، نائب الرئيس الأمريكي «جورج بوش الابن»، في الفَترة من 2001 إلى 2009، واحد من أقوى رِجال السُلطة، وأكثرهم تأثيرًا في التاريخ الحديث.

قصة يجب ألا نعرفها

يَرصد فيلم «النائب vice» قصة حياة «ديك» الذي بدأ حياته السياسية كمُتدرب لدى عضو الكونغرس «وليام شتايجر»، وبدأ مسيرته المهنية على يد «دونالد رامسفيلد» مُعلمه ومثله الأعلى، وشق «تشيني» طريقه إلى البيت الأبيض خلال زمن ولاية الرئيسين الجمهوريين «نيكسون» و«فورد».

ويبدو أن «آدم مكاي» وكَتيبة ضخمة مِن النُجوم والفنيين، قَرروا عقد مُحاكمة لسياسات الحِزب الجُمهوري الأمريكي، في فترة حُكم الرئيس «جورج بوش الابن»، وتحليل قضية صِناعة الإرهاب، وجدوى الحرب ضده، والتي كان «تشيني» هو المحرك الأساسي لها.

بعد نجاح فيلمه «الصفقة الضخمة – the Big Short» إنتاج 2015، وحصوله على أوسكار أفضل سيناريو، وعلى نفس درب آخر أعماله «Don't Look Up - لا تنظر للأعلى» إنتاج 2021، قَدم صانع الأفلام «آدم مكاي» عام 2018 السيمفونية السينمائية الواقعية السوداء «نائب الرئيس – Vice»، من تأليفه وإخراجه، ومن بطولة «كريستيان بيل – ديك تشيني»، «إيمي آدمز – ليني تشيني»، «ستيف كاريل – دونالد رامسفيلد» و«سام روكويل – جورج بوش الابن»، وغَيرهم الكثير من نُجوم هوليود الرئيسيين وضُيوف الشرف.

تشريح سينمائي لأقوى نائب رئيس في تاريخ العالم الحديث

ويتتبع الفيلم السيرة الذاتية لـ«ديك تشيني»، أقوى نائب رئيس أمريكي في تاريخها القَصير، وأكثرهم غُموضًا، الرجل الذي غير شَكل العالم من وراء الكواليس، ولم يترك «مكاي» عنصر من عناصر صناعة الفيلم إلا واستخدمه في مُحاكمته للحزب الجمهوري الأمريكي، متمثلًا في «ديك تشيني» و«بوش الابن».

كان من المُفترض أن يكون الاسم الأول للفيلم هو «تشيني»، لكن تم تغييره إلى «vice» أو «النائب»، وليس «vice president» كما هو مُتداول، فمِن المعروف أن وظيفة «نائب الرئيس» في الدستور الأمريكي وظيفة رمزية، -كما جاء على لسان «تشيني»-، لكنه وبالصلاحيات والسُلطة شِبه المطلقة التي حصل عليها، جعل من مهنة «النائب» وظيفة مُجردة بذاتها، ليكون اسم الفيلم «النائب» فقط بدلًا من نائب الرئيس، وفي دلالة واضحة على قُوته التي تجاوزت قوة الرئيس نفسه.

استخدم «آدم مكاي» أسلوب الراوي لسَرد الأحداث، ورَبط الخيوط والفترات الزمنية المٌتشابكة، وجعل علاقة الراوي بـ«تشيني» مُفاجأة في آخر الفيلم، حيث نتعرف على الراوي الساخر «كيرت - جيسي بليمونز» كمواطن أمريكي بسيط، يحب أسرته ومُغرم بـ«سبونج بوب»، ولا يكف عن نَقل وجهة نظر المُخرج في كافة التفاصيل، نشاهده يصف «تشيني – بيل» في بداية مشواره السياسي، بأنه «صاحب الأفكار الأكثر وحشية وتطرف التي تبدو دائمًا مدروسة وقابلة للتنفيذ»، كما وصفه عند لقائه الأول مع «دونالد رامسفيلد - ستيف كاريل» في الستينيات، أنه تميز بالطاعة العمياء وعدم المناقشة والجدال، وقد مثلت هذه الصفات الطريق المثالي للوصول للسُلطة كما أخبره «رامسفيلد».. لكن من أين جاء «ديك تشيني»، وكيف تَكونت شخصيته؟، طرح «مكاي» السؤال في بداية الأحداث، «ما الذي يَجعل الشخص يصل لما هو عليه؟».

من المُفارقات الساخرة، ظُهور «ديك تشيني – كريستيان بيل» في بداية مشواره كسكير فاشل دراسيًا، قومته زوجته «ليني تشيني – إيمي آدمز» ووجهته للطَريق الصَحيح، طريق «البيت الأبيض»، كذلك أول ظهور لـ«جورج بوش الابن – سام روكويل» في الفيلم كسكير طائش في إحدى الحفلات، وكأن «مكاي» يُحاول التوصيف العميق لشخصيات اليمين الجمهوري باستخدام كُل الدلالات المتاحة، ولم يخلو هذا التشريح النفسي من تَوصيف «رامسفيلد – كاريل»، حيث استعان بالمونتاج في التعريف به كلاعب مُتمرس بالسلاح الأبيض، لن يتراجع عَن إصابة من يُحاول الوقوف في طريقه، وسخّر المونتاج في كثير من المشاهد التي تؤكد طبيعة «تشيني» كصياد ماهر في استخدام الطُعم والسنارة للحصول على ما يريد.

قَسَم «مكاي» حياة «ديك تشيني» بشكل مُبتكر إلى مَرحلتين، ما قبل وأثناء «جورج بوش الابن»، حيث نُشاهد في الدقيقة خَمسين مِن عُمر الفيلم، ظهور شارة النهاية، بعد ابتعاد «تشيني – بيل» عَن العمل السياسي؛ لسيطرة الليبراليين على السُلطة، واكتشافه المثلية الجنسية لابنته «ماري»، التي رُبما تُشكل عائقًا في مسيرته السياسية، ثُم تتوقف شارة النهاية مع صوت جَرس هاتف!، مُكالمة من «جورج بوش الابن – سام روكويل»، يَطلب الاستعانة بخبرة «تشيني» كنائب رئيس في انتخابات الرئاسة الأمريكية سنة 2000، وعند انتهاء المُكالمة يظهر كادر يضم «تشيني» وزوجته بحوار لوحة ضَخمة، تَتكون اللوحة مِن كلب ضخم يحمل في فَمه عصا خشبية، وأمامه كلب صَغير يلهَث للحُصول عليها، دلالة طبيعة العلاقة الجديدة بين «تشيني» وابن «بوش» المُدلل الذي يُحاول الهروب مِن جلباب أبيه، والبَحث عَن مَجدٍ خاصٍ بمُساعدة العَجوز الخبير.

وأكد «مكاي» ببراعة على طبيعة هَذه العَلاقة في المشاهد البديعة التي جَمَعت بين الفتى الأهوج «بوش – روكويل» و«تشيني – بيل»، حيثُ يُقرر الأخير استغلال شخصية «بوش الابن» الهشة لتمكين نفسه من مَفاصل أمريكا، والوصول إلى أجهزتها الحيوية، ولم يخلو هذا الاجتماع الثنائي المكتوب بحرفية من دلالات وضحت رؤية كلا منهما للعالم، لاسيما نيتهما المُبيتة للنيل من العراق وغزوها، والسيطرة على الشَرق الأوسط عسكريًا، فنحن نعلم بعد هذا اللقاء رَغبة «بوش الابن» في صناعة مَجد عن طَريق الحرب، وإعادة تَشكيل الإعلام الأمريكي، وإبراز قوة أمريكا المُفرطة للعالم، فيعترف كل منهم أن قادة الحروب هُم الأكثر شُهرة.

بدأت المُفاوضات بالرفض ثُم القَبول، يطلب «تشيني – بيل» السيطرة التامة على أجهزة أمريكا الحساسة، مِثل المُخابرات والبنتاجون، ويطلب التَمهيد للسَماح بزواج المِثليين لتفادي مشكلة قَد تطرأ بسبب ابنته «ماري» المِثلية، كما تبدأ مَرحلة جَديدة في حياة المُواطن الأمريكي البَسيط، الذي يتم طحنه بالضرائب مثل «ضريبة الموت» لصالح الأغنياء، وهُنا تظهر صورة سَريعة لرئيس أمريكا الحالي «دونالد ترامب» يحمل أكوامًا من الدولارات في سعادة، وفجأة تأتي اللحظة الفارقة في تاريخ البَشرية الحَديث، الهُجوم الإرهابي 11 سبتمبر 2001 على أبراج «مانهاتن» التجارية، والهُجوم على البنتاجون، الذي اعتبره «تشيني» فُرصة لإشعال حرب، على عكس العالم الذي اعتبره مأساة.

عند هذه المرحلة غير المفهومة عند مُعظم المواطنين الأمريكان، يؤسس «تشيني» مَدرسة جديدة في الإعلام المُوجه وغسيل المخ، يتَحكم في الرأي العام، يَرفع نِسبة المُوافقة على الحرب من 30٪ إلى 70٪، يَصنع عدوًا إرهابيًا واضحًا يرضي عَقل المُواطن البسيط، الذي لم يُدرك من هو العدو في هذه الحرب، ينتهز الصياد «تشيني» الفُرصة فيضع «أفغانستان» و«العراق» و«إيران» كأعداء واضحين، يصنع منهم الإعلام الجديد شياطين العصر، برغم استنكار الكثير من صناع القرار، تورط العراق في هجمات سبتمبر الإرهابية، على رأسهم «كولين باول – تايلر بيري»، الذي رفض الحَرب على دولة ذات سيادة.

 

«حين تقوم أمريكا بالتعذيب لا يسمي تعذيبًا، وإنما يطلق عليه طريقة مبتكرة لتطوير الاستجواب!»

تَشتعل الحرب الفوضوية، تُشارك «إنجلترا» وتنسحب «فرنسا» و«ألمانيا» و«إسرائيل» التي رأت أن هذه الحَرب تُمثل خطرًا على وجودها، وزعزعة لاستقرار المنطقة، نُشاهد ضيف الشَرف المُبدع «الفريد مولينا» في مَشهد شديد العبثية، حيث يعمل «مولينا» نادلًا في مطعم، ويَعرض -بدلًا من قائمة الطعام- الخيارات المُتعددة لمُنتجعات التعذيب، وأشهرها «جوانتامو»، يختار «تشيني» كل ما تم عرضه من وسائل التعذيب، وبالنسبة لاتفاقية جنيف لحقوق الانسان، يقول أن «أمريكا حين تقوم بالتعذيب لا يسمي تعذيبًا، وإنما يطلق عليه طريقة مبتكرة لتطوير الاستجواب»، يقوم «كولين باول – تايلر بيري» بإلقاء بيان خطير في الأمم المُتحدة، اعتبره «مكاي» البِداية الحَقيقية لنشأة تنظيم «داعش»، حيث ذكر «بأول» في بيانه اسم قواد وتاجر مُخدرات عَربي مَجهول، كمسئول أساسي عن الهجمات الإرهابية، هذا الشخص هو «أبو مصعب الزرقاوي»، الذي صار -بعد البيان- أشهر شخصية في العالم بين ليلة وضحاها، يفر «الزرقاوي» من أفغانستان إلى العراق بعد بيان «بأول»، ويؤسس تنظيم القاعدة في العراق، النواة الأولى لتنظيم «داعش»، وعلق «بأول» فيما بعد على بيانه، ووصفه بأنه «أسوأ شيء صَنعه في حياته».

استخدم «مكاي» أكثَر من طريقة في المونتاج لرسم لوحة سينمائية عَبثية تُوضح الجانب المُظلم من سياسات الحزب الجمهوري، الذي لا يؤمن سوى بالقوة الغَاشمة، ويرى العَالم حَرفيًا كغابة مُوحشة، البقاء فيها للأقوى، وقد عَبر مونتير الفيلم «هانك كوروين» بلقطات مُتعددة من البرية للتأكيد علي رؤية «مكاي»، تارة يستخدم لقطات لفهد يُطارد غزال، أو تمساح، أو صياد، أو يستخدم صور ثابتة لابتسامة الأبطال الجشعة والوحشية، ولن ننسى الحِرفية في تقطيع مِشهد «تشيني» وفريقه بَعد فوز «جورج بوش الابن» في انتخابات الرئاسة الأولى، حَيث خَرج المَشهد كأنه لعبة شطرنج سياسية، قام فيها «تشيني» وفريقه الذي ضم أستاذه «رامسفيلد – كاريل» بتطهير كل المَكاتب الحساسة مِن أي شَخص خارج أهل الثقة، ولو كان من أتباع «بوش الابن» نفسه، حتى استوت له السُلطة تمامًا.

 قام بتصوير الفيلم الأسترالي «جريج فراسير»، ومن أعماله الشهيرة «روج وان» و«ماريا المجدلية»، ونجح في إظهار إمكانيات المُمثلين، وجمال وواقعية المكياج المتقن، الذي استحق بجدارة جائزة الأوسكار، وقد ذهبت الجائزة لكل من «جريج كانوم» الحائزعلى أربع جوائز أوسكار، و«كيت بيسكو» و«باتريشيا ديهاني».

وسخّر «مكاي» الديكور في رَصد تطور شخصية «تشيني»، مثلًا يبدو مكتبه شبه فارغ في أول مَسيرته، وينتهي بتعدد المكاتب وازدحام عناصرها في مراحل تَطور الشَخصية، دلالة على التمكين الذي حصَل عليه «تشيني» المُحرك الأساسي للسياسة الأمريكية، ويظهر «بوش الابن» دومًا كواجهة لصنع القرار الذي يصنَعه العَجوز مِن وراء الكواليس، واستخدم المُؤلف الموسيقي «نيكولاس بريتل» -الحاصل علي جائزتي أوسكار-، موسيقي تصويرية تُناسب الجو الساخر الديناميكي، فلا تكاد تَشعر بالمُوسيقى مُنفصلة لتداخلها الشديد مع التفاصيل وإيقاع المونتاج، خصوصًا في المشاهد الحوارية بين «تشيني» و«جورج الابن»، وقد قام بإنتاج الفيلم 15 فنان، من أشهرهم «براد بيت»، «ويل فاريل» و«آدم مكاي» نفسه، وبلغت ميزانية إنتاجه 60 مليون دولار، وحصد  48 مليون دولار في أمريكا حتى مارس 2019.

ذهب «مكاي» لتشريح جوانب مُتعددة مِن جوانب شخصية «ديك»، واهتم بعدة عناصر لتعميق جوانبها مثل الحالة الصحية، فقد كان «تشيني» يُعاني من أزمات قلبية مزمنة، وتفوق «كريستيان بيل» على نفسه في الدور، والذي اعتبره المُتقمِص الأول في هوليود حاليًا، بعد اعتزال «دانيال داي لويس»، فقد درس «بيل» تطور الصوت في المَراحل السنية المُختلفة، والضحكة التي بدأت بلهاء وانتهت ماكرة ناضجة، ووحشية أحيانًا، وحجم الجسد حيث زاد وزنه، وقص شعره تمامًا، بحيث أنك ستَنسى المُمثل تمامًا، ولن تُشاهد سوى الشَخصية الحَقيقية لنائب الرئيس الأمريكي.

المَشهد الخِتامي للفيلم حَمل الكثير من الدلالات والرسائل التي تعمد «مكاي» إرسالها للشَعب الأمريكي والعالم، ويُعتبر نهاية المُحاكمة، نُشاهد «تشيني» في حَديث تلفزيوني، وسط اتهامات وتساؤلات كثيرة، عن جدوى الحرب على العراق، التي راح ضحيتها آلاف العراقيين والأمريكان، وزادت معدلات الانتحار، فيقول «تشيني- بيل» موجهًا حديثة للكاميرا باستخدام الزاوية القريبة «كلوز أب» في قسوة هادئة، أنه لا يَندم على أي شيء، بالعكس، يشعر بالفخر لكل ما صنع، ويصف العالم الواقعي بأنه شَديد الوَحشية، وقد فَعل ما فعل لمَصلحة أمان أمريكا والأمريكان، ثُم وجه كلمته الأخيرة للأمريكان قائلًا: «لقد اخترتموني، ولم أفعل إلا ما طلبتم».