إن الفكرة الأساسية التي يسعى إدوارد سعيد إلى إبرازها في كتابه «المثقف والسلطة» ترجمة وتقديم دكتور محمد عناني، هى ضرورة استقلال كل مثقف عن السلطة؛ بمعنى عدم الارتباط بقيود تحد من تفكيره أو تُوجِّه مسار فكره، والمثقف الحق في نظره هو من لديه أفكار يعبر عنها لغيره (أي للجمهور) في محاضرة أو حديث أو مقال أو كتاب؛ ويؤكد سعيد ضرورة تمسك المثقف بقيم عليا مثل الحرية والعدل، وعدم قبول الحلول الوسط فيما يتعلق بهذه القيم، خصوصًا حين يدرك أنه بإقدامه على الكتابة أو على مخاطبة جمهور ما، قد أصبح يشارك في «الحياة العامة»، وأصبح يمثل غيره ممن لا يمثلهم أحد في دوائر السلطة.
وتتعدد صور السلطة في الكتاب: من صورة صاحب العمل الذي يمارس المثقف مهنته لديه، إلى صورة الشركات التجارية التي تسعى لتحقيق أرباح طائلة؛ ولا يهمها في سبيل تحقيق ذلك سقوط ضحايا من الفقراء والمحرومين، إلى صورة الحكومة التي تُسخِّر جهازًا بل أجهزة كاملة للحفاظ على مواقعها، إلى صورة الأيديولوجيات الدينية والسياسية الجذابة الكذابة التي قد لا يدري العامة والبسطاء ما وراءها.
يتحلى المثقف أو المفكر بروح المعارضة لا القبول والخنوع، تلك الروح التي تستولى على مجامع فكره ووجدانه مصدرها الخلاف والانشقاق على «الوضع الراهن»؛ في الوقت الذي يبدو فيه الكفاح من أجل الجماعات المحرومة والتي لا يمثلها أحد (في دوائر السلطة) كفاحًا يواجه عقبات وُضِعَت ظُلمًا في طريقه. فالهوة التي تفصل بين الأغنياء والفقراء تزداد اتساعًا كل يوم في الغرب وفي العالَم العربي، ومن الغريب أن تؤدي إلى قدر بشع من اللامبالاة المصحوبة بالإعجاب بالنفس عند المفكرين والمثقفين القريبين من دوائر الحكم.
حاول إدوارد سعيد في محاربة التجريدات والمفاهيم الوهمية والمعتقدات الخرافية، وهو يردد مرارًا وتكرارًا إن تلك التجريدات الخرافية أكاذيب، شأنها في ذلك شأن شتى الأقوال التي تنسب المسئولية إلى عامل أوحد من العوامل دون غيره. وهو يرى أن كل الثقافات بالغة التداخل، ويرفض رفضًا قاطعًا «النقاء العنصري» لثقافة ما، وهو يؤكد إنه من العسير إن لم يكن من المستحيل؛ إجراء جراحات لفصل الثقافات بعضها عن بعض، وهى جراحات – إن تمت – فسوف تكون «أيديولوجية» في معظم الأحوال؛ مثل محاولة فصل ما هو «شرق» عما يسمى «الغرب». ينبغي على المثقف أن يتوجه إلى أكبر شريحة ممكنة من الجمهور لأن هذا الجمهور الواسع هو السند الطبيعي الذي يستمد منه المثقف قوته. وعلى المثقف أيضًا التمسك بمعيار واحد للسلوك البشري، بمعنى أنه مثلما يدين الأعمال العدوانية التي يرتكبها الأعداء ضد وطنه دون وجه حق، فعليه أيضًا ألا يتردد في إدانة حكومته إذا قامت بغزو بلد أضعف.
أدرك المؤلف العجز الذي كثيرًا ما يشعر به المثقف أو المفكر في مواجهة صنوف ضغوط «السلطات الاجتماعية والسياسية والدينية»؛ مثل أجهزة الإعلام، والحكومة، والشركات، وغيرها؛ بل قد تؤدي تلك الضغوط إلى سد منافذ التعبير أمام المثقف؛ مما يحدو به في حالات كثيرة، مع الأسف الشديد، إلى الانزواء والعزلة. إن تهميش المثقف في أي مجتمع يؤدي حتمًا إلى فقدان هذا المجتمع البوصلة التي ترشده إلى طريق السلامة وتجنبه طريق الندامة.
ليس على المثقف أو المفكر أن يكون شكّاء بكّاء لا يعرف الابتسام. وما أبعد هذه الأوصاف عن كبار المنشقين النشطاء مثل نعوم تشومسكي وجور فيدال. وليست مشاهدة حالة مؤسفة حين لا يكون المرء في موقع السلطة تجربة رتيبة وذات لون واحد، بل إنها نشاط يتضمن ما وصفه ميشيل فوكو ذات يوم بأنه «التبحر في العلم دون هوادة»، فهو يتضمن فحص وتمحيص المصادر البديلة، ونبش واستخراج الوثائق الدفينة، وإحياء الروايات التاريخية المنسية (أو المهجورة). وهو نشاط يتضمن الإحساس بالصراع والتمرد، كما يتضمن أيضًا استغلال المثقف لقدرته على الكلام إلى أقصى حد فيما يتاح له من فرص نادرة، إن أوضاع المفكرين الذين ليست لديهم مكاتب أو مناصب يريدون حمايتها، ولم يكسبوا «أرضًا» يريدون دعمها وحراستها، هم أقرب إلى التعبير المباشر منهم إلى التردد والتلعثم في الكلام. ولكن لا مفر من مواجهة الحقيقة المحتومة وهى أن أمثال هذه «الاحتجاجات» من جانب المثقفين أو المفكرين لن تأتي لهم بأصدقاء في أعلى المناصب ولن تتيح لهم أن يحظوا بمظاهر التكريم الرسمي، ومن ثم يجد المثقف أو المفكر نفسه في عزلة، لكن هذه العزلة خير من شهرة ترمي إلى قبول الأوضاع على ما هى عليه من عوار.
يشير إدوارد سعيد إلى خطورة النظر إلى المثقف بوصفه أحد المهنيين وحسب، أو مجرد رقم ندرجه ضمن تيار من التيارات الاجتماعية. ويؤكد سعيد إنه لا يمكن اختزال صورته بحيث تصبح صورة مهنيِّ مجهول الهوية، أي مجرد فرد كفء ينتمي إلى طبقة ما ويمارس عمله وحسب. والحقيقة الأساسية التي يؤمن بها المؤلف هى أن المثقف فرد يتمتع بموهبة خاصة تمكنه من حمل رسالة ما، أو تمثيل وجهة نظر ما، أو موقف ما، أو فلسفة ما، أو رأي ما، وتجسيد ذلك والإفصاح عنه إلى مجتمع ما وتمثيل ذلك باسم هذا المجتمع. وهذا الدور فعَّال ومؤثر، ولا يمكن للمثقف أداؤه إلا إذا أحس بأنه شخص عليه أن يقوم علنًا بطرح أسئلة محرجة، وأن يواجه ما يجري مجرى الصواب أو يتخذ شكل الجمود المذهبي، وأن يكون فردًا يصعب على الحكومات أو الشركات أن تستقطبه، وأن يكون مبرر وجوده نفسه هو تمثيل الأشخاص والقضايا التي عادةً ما يكون مصيرها النسيان أو التجاهل والإخفاء. ويقوم المثقف بهذا العمل على أساس المبادئ العامة العالمية، وهى أن جميع أفراد البشر من حقهم أن يتوقعوا معايير ومستويات سلوك لائقة مناسبة من حيث تحقيق الحرية والعدل من السلطات الدنيوية أو الأمم، وأن أي انتهاك لهذه المستويات والمعايير السلوكية، عن عمد أو دون قصد، لا يمكن السكوت عليه، بل لابد من فضحه ومحاربته بجسارة.
إن المثقفين أو المفكرين لهم رسالة، سواء كانوا يتحدثون أو يكتبون أو يُعَلِّمون الطلاب أو يظهرون في التليفزيون، وتتمثل أهمية هذه الرسالة في إمكان الاعتراف بها علنًا، وإلى أنها تتضمن الالتزام والمخاطرة في الوقت نفسه، وكذلك الجسارة واحتمال التعرض للضرر، ولذلك فعندما نقرأ جان بول سارتر أو برتراند رسل نجد أن ما يؤثر في القارئ لهما هو الحضور الخاص لكل واحد منهما، إلى جانب الحجج التي يقدمانها؛ لأن كل واحد منهما يعرب بصدق ووضوح عن معتقداته. ومن المحال أن نتصور أن أحدهما موظف بيروقراطي مجهول.