السبت 27 ابريل 2024

محمد كريم.. البطل الثائر


محمد كريم

مقالات21-3-2022 | 17:44

د. أحمد محمد علي غباشي

جاء نابليون بونابرت إلى مصر قائدًا لحملة الشرق في الأول من يوليه 1798م مفعمًا بآمال عديدة وطموحات لا نهاية لها في بناء قاعدة فرنسية في الشرق تكون نقطة انطلاق نحو السيطرة على طريق التجارة العالمية، وتوجيه ضربة لإنجلترا بقطع الطريق بينها وبين مستعمراتها في الهند، فضلًا عن الاستفادة من كل الخيرات والموارد المصرية.

استطاعت الحملة خلال السنوات الثلاث التي مكثتها في مصر أن تحدث هزة ارتدادية في المجتمع المصري الذي كان يعاني تحت الحكم العثماني. سعى نابليون لإحداث هذه الهزة على اتباع طريقين أحدهما أو كلاهما، فكان الأول استخدام العنصر الديني واللعب على جذب دين الأغلبية من خلال المنشور الذي أرسله نابليون إلى المصريين من على ظهر الباخرة أوريان قبل وصوله إلى سواحل الإسكندرية، مدعيًا الإسلام، وأنه جاء إلى مصر منقذًا ومخلصًا لا غازيًا أو محتلًا، أراد نابليون من وراء ذلك هزيمة المصريين نفسيًا قبل هزيمتهم عسكريًا، وزعزعة العديد من الثوابت الموجودة في المجتمع المصري. أما الطريقة الثانية فاعتمدت على خلق القابلية للاستعمار من خلال إبهار المصريين بالعلوم الحديثة والمدنية مثل توظيف المجمع العلمي للقيام بهذا الدور.

ومما لا شك فيه، فقد نجحت الحملة الفرنسية في إحداث بعض التغييرات بل أقول تأثيرات في المجتمع المصري مثل إنشاء ديوان القاهرة، المجمع العلمي، إدخال الطباعة، اكتشاف حجر رشيد والذي أدى فك رموزه فيما بعد إلى ظهور علم المصريات والتعرف على أسرار الحضارة المصرية، ولكن من ناحية أخرى فإن التأثير الأهم وغير المباشر للحملة الفرنسية هو إيقاظ الروح الوطنية، وترسيخ فكرة المقاومة الشعبية، وظهور الزعامة، وخروج المصريين في ثورة هي الأولى في تاريخ مصر الحديث وهي ثورة القاهرة الأولى في 21 أكتوبر 1798 والتي قادها علماء الأزهر.

ومن بين هذه الأسماء التي سطرت الصفحات الأولى من تاريخ المقاومة الشعبية ضد الوجود الفرنسي، البطل الثائر "محمد كريم"، حاكم الإسكندرية، والذي وقف صامدًا في وجه الاحتلال الفرنسي، رافضًا تسليم المدينة للفرنسيين، قائلًا لهم (ليس للفرنسيين أو سواهم شيء في هذا البلد فاذهبوا أنتم عنا)

ولد محمد كريم بحي الأنفوشي في مدينة الإسكندرية قبل منتصف القرن الثامن عشر، ونشأ يتيمًا فكفله عمه، وافتتح له دكانًا صغيرًا في الحي، وكان محمد كريم دائم التردد على المساجد باستمرار بغرض التعلم وحضور الندوات، لذا ذاع صيته بين أهالي الإسكندرية لما اشتهر به من صفات محمودة.
وقد قام مراد بك بتوليته أمر الديوان والجمرك بثغر الإسكندرية، فأصبح صاحب الكلمة العليا والحاكم الفعلي لها.

أما عن الإسكندرية، فقد بلغ عدد سكانها في هذا التوقيت نحو 8000 نسمة، عمرانها متهدم، وبيوتها أشبه بمباني القرى، وشوارعها ضيقة كثيرة التعاريج، ومعظم سكانها فقراء.

وكانت الإسكندرية هي أول مدينة قصدتها الحملة الفرنسية، بعد خروج العمارة الفرنسية من مالطة. وقبل وصول الحملة إلى الإسكندرية، وفي يوم 28 يونيه 1798، وصل الأسطول الإنجليزي بقيادة الأميرال "نيلسن" يبحث عن الأسطول الفرنسي، فأرسل إلى حاكم الإسكندرية محمد كريم ينبهه إلى احتمال وصول القوات الفرنسية إلى الإسكندرية، وسأله في أن يأذن له دخول الثغر، لكن الحاكم رفض هذا الطلب خشية منه في احتلال أجنبي لمصر، وظل "نيلسون" بأسطوله 24 ساعة ثم أقلع بسفنه إلى الأناضول.

ومع وصول قوات نابليون إلى الإسكندرية، وسماعه بمجيء الأسطول الإنجليزي، خشى من عودته مرة أخرى، فأمر جنوده بالنزول برًا جهة العجمي، والتي تبعد عن الإسكندرية نحو 12 كيلومتر وذلك في ليلة 2 يوليو 1798م ونزل نابليون إلى البر بنفسه في تمام الساعة الحادية عشرة مساء، وظل نزول الجنود مستمرًا طوال الليل، حتى وصل عدد الجنود الذين نزلوا للبر زهاء خمسة آلاف جندي. وبعد أن استراحوا قليلًا، أمر نابليون الجنود بالزحف نحو الإسكندرية لمباغتة أهالي الإسكندرية حيث لا يجدون وقتًا للتنظيم، ووصلت بالفعل تجاه أسوار المدينة عند شروق الشمس وأخذت تحاصرها، ووقف نابليون على قاعدة عمود السواري واتخذها معسكره العام لمراقبة الحركة وإصدار أوامره لقواد جيشه وجنوده.

أما أهالي الإسكندرية، فمع ظهور السفن الفرنسية، بدأ الاستعداد للمقاومة، فأرسل "محمد كريم" حاكم الإسكندرية إلى إخبار مراد بك، وطلب منه النجدة.

ومن ناحية أخرى، احتشد أهالي الإسكندرية للدفاع عن مدينتهم، فحصنوا الأسوار، والقلاع، ووزعوا الأسلحة، ووضعوا المدافع العتيقة على أسوار المدينة استعدادًا للكفاح.

ومع إطلاق النيران من المدافع تجاه القوات الفرنسية، حاصروا أسوار المدينة، ولكن المقاومة لم تدم طويلًا، واقتحم الجنود الفرنسيون الأسوار، ودخلوا المدينة، ووصلوا إلى الجهة المسكونة، فهاجموا الناس في بيوتهم، وأخذ الأهالي يدافعون عن أنفسهم ويطلقون الرصاص من البيوت على الفرنسيين، وكاد نابليون نفسه أن يقتل، لولا الحظ الذي نجاه من الموت!!

وعلى الرغم من دخول الفرنسيين للمدينة، وكف الأهالي عن المقاومة. ظل محمد كريم يدافع بكل جهد عن المدينة، معتصمًا بطابية قايتباي ومعه فريق من المقاتلين، حتى خارت قواه، فكف عن القتال وسلم القلعة، فتلقاه نابليون وقابله بشكل جيد، وأبقاه حاكمًا على الإسكندرية، ونزلت بقية الجنود وأمتعتها إلى الميناء الغربية.

وقد كتب الجنرال "برتييه" في رسالة إلى وزارة الخارجية الفرنسية بتاريخ 6 يوليو 1798م وصف احتلال الفرنسيين للإسكندرية فقال:

(إن الأهالي دافعوا عن أسوار المدينة دفاعًا مستميتًا، وقد أصيب في هذه الموقعة الجنرال كليبر بعيار ناري في جبهته، فجرح جرحًا بليغًا، وأصيب الجنرال مينو بضربة حجر أسقطته من أعلى السور، وأصيب الجنرال إسكال بجرح في ذراعه من عيار ناري، وقتل اللواء ماكس وخمسة ضباط آخرون)

عزم نابليون فور دخوله الإسكندرية على إبداء حسن نواياه، وتقرب للأهالي بالكلام الطيب والوعود الحسنة، فبادر بمقابلة مشايخ المدينة وأعيانها، وأوضح لهم أنه لا يقصد بالأهالي أي سوء، وصارحهم الرأي في إصلاح حالة البلاد، وأمنهم على أموالهم وحياتهم. ومن الأمور التي قام بها نابليون أن رد على السيد محمد كريم سلاحه وقال له في مجلس من أعيان المدينة

(لقد أخذتك والسلاح في يدك وكان لي أن أعاملك معاملة الأسير، ولكنك استبسلت في الدفاع، والشجاعة متلازمة مع الشرف، لذلك أعيد إليك سلاحك وآمل أن تبدي للجمهورية الفرنسية من الإخلاص ما كنت تبديه لحكومة سيئة)

وأوصى نابليون جنوده باحترام شعائر المصريين الدينية وعدم التعرض لنسائهم وحذرهم من الاعتداء على أموالهم وبيوتهم. ومن أهم القرارات الصادرة أن يستمر الأهالي في أداء شعائرهم الدينية، ويحظر على الفرنسيين جميعًا دخول المساجد أو الاجتماع على أبوابها.
وقبل أن يغادر نابليون الإسكندرية، أمر بإبقاء السيد محمد كريم حاكمًا لها وأعرب له عن ارتياحه لمسلكه الذي اتخذه من يوم قدوم الجيش الفرنسي.

ومع استمرار عمليات المقاومة ضد الفرنسيين، بدأت القيادة الفرنسية من ذلك الحين ترتاب في نيات محمد كريم، وأنه وراء الهياج والعصيان في نفوس الأهالي.

فأمر كليبر بالقبض على السيد محمد كريم يوم 20 يوليه، وبعث به إلى ظهر السفينة (ديبوا) فأقلته إلى أبو قير، حيث كان الأسطول الفرنسي راسيًا واعتقل بالسفينة (أوريان).

 وقد اتهم كليبر محمد كريم أنه له يد في المقاومة التي لقيتها كتيبة الجنرال "ديبوي" ما بين الإسكندرية ودمنهور، وكان محمد كريم قبل القبض عليه قد دافع عن أهل المدينة بسبب فرض إتاوة إجبارية في شكل سلفة يدفعها تجار الإسكندرية للجيش الفرنسي، فعارض محمد كريم هذا الأمر وتلكأ في الموافقة عليها ومساعدة السلطة الفرنسية في تحصيلها، فأسرها كليبر في نفسه، ومع استمرار مقاومة وهجوم الأهالى على القوات الفرنسية، ساءت ظنونه في السيد محمد كريم فقرر القبض عليه.

وبعد القبض على محمد كريم، جمع الجنرال كليبر أعيان المدينة وأبلغهم باعتقاله، وطلب منهم أن يختاروا حاكمًا للمدينة بدلًا منه، فاختاروا السيد "محمد الشوربجي الغرياني" وبعد اعتقال محمد كريم، أخلد الأهالي إلى السكينة، وكفوا عن المظاهرات. وتم نقل محمد كريم بعد ذلك إلى القاهرة يوم 12 أغسطس مساء وظل سجينًا رهن التحقيق، وكان الجنرال "ديبوي" حاكم القاهرة وهو من يقوم بالتحقيق معه. وفي يوم 5 سبتمبر 1798م، أصدر نابليون أمره بإعدام محمد كريم رميًا بالرصاص ومصادرة أملاكه وأمواله وسمح له بأن يفتدي نفسه بدفع غرامة 30 ألف ريال في 24 ساعة، فرفض محمد كريم أن يدفع هذا المبلغ وقال (إذا كتب علي الموت فلا ينجيني المال، وإذا قدر لي البقاء فلماذا أدفع؟!) 

وتم بالفعل تنفيذ حكم الإعدام يوم 6 سبتمبر 1798م في ميدان الرميلة بالقلعة.

ومن غرائب القدر أن محمد كريم قد غادر الباخرة أوريان يوم 30 يوليه قبل أن تغرق ويموت كل من بها في موقعة أبو قير البحرية يوم 1 أغسطس، ولكن القدر الذي نجاه من الموت في أبو قير، سلمه إلى يد الجلاد في القاهرة، ولكل أجل كتاب، وما تدري نفس بأي أرض تموت.

كان إعدام محمد كريم سببًا مباشرًا في ثورة الشعب المصري التي عرفت بثورة القاهرة الأولى في 21 أكتوبر 1798م، فكانت حياته من أجل المقاومة والدفاع عن الوطن، وموته سببًا في إيقاظ الروح الوطنية.

وفي عام 1952، قام مجلس قيادة ثورة يوليو بوضع صورة السيد محمد كريم مع صور محافظي الإسكندرية تخليدًا لذكراه، وأطلق اسمه على شارع من أهم شوارع الإسكندرية، كما أطلق اسمه أيضًا على المسجد الذي يحمل الآن اسمه والكائن بجوار سراي رأس التين، ووضعت في واجهة المسجد لوحة رخامية تذكارية نقشت عليها العبارة الآتية:

(إكبارًا للبطولة وتكريمًا للذكرى واعتزازًا بالوطنية، وإنصافًا للتاريخ رأت وزارة الأوقاف أن يطلق اسم السيد محمد كريم على هذا المسجد في حي رأس التين، والسيد محمد كريم هو حاكم الإسكندرية وابنها البار وشهيدها العظيم، اعتقله الجيش الفرنسي، وقتله رميًا بالرصاص في مدينة القاهرة بجوار القلعة يوم 6 سبتمبر 1798 وهو يدافع عن أخته ويذود دنس الاحتلال عن شرف وطنه العزيز)

وقد افتتح هذا المسجد للصلاة يوم الجمعة 27 نوفمبر 1952 بحضور أعضاء مجلس قيادة الثورة حيث أدوا فيه صلاة الجمعة.

المرء يفنى وبعد الموت تذكره آياته الغر بالحسنى وتحييه

Dr.Randa
Dr.Radwa