السبت 27 يوليو 2024

الشهيد إبراهيم عبدالتواب وموقعة "كبريت"

مقالات21-3-2022 | 18:05

شاءت  الأقدار أن أتعرف على الكثير مما حدث وكان بموقع نقطة "كبريت الحصينة"، بعد أن عبرت الكتيبة 603 بقيادة العقيد ﺇبراهيم عبدالتواب، وسيطرت عليها وأسرت أفرادها.. بينما تم اقتحام موقع وحدتي الطبية (المستشفى الميداني رقم 5) المسالمة غير المسلحة، وانتقلنا ﺇلى موقع بديل بالقرب من كبريت، تلك المنطقة التي تقع بين الجيش الثالث والثاني.. فبلغني الكثير عن بطولات تلك الكتيبة وقادتها، ويشاء القدر أن أتقابل مع بعض أفرادها فيما بعد.

معركة كبريت من أكثر المعارك التي أظهرت بسالة وجدية المقاتل المصري أثناء حرب أكتوبر. ظهر ذلك في صمودهم أمام الحصار، أطول حصار خلال الحرب. ولا تفسير عندي للكثير من الأحداث التي مرت بي وعرفتها منها، ما إن نجحت الكتيبة في مهمة السيطرة على الدشمة الحصينة، توجه القائد ﺇلى بعض الرفاق من الضباط والجنود وقال لهم: "كفنوني بعلم مصر، وسلموا ابنتي منى المصحف والمسبحة".. تلك هي وصية العقيد القائد المنتصر في التاسع من أكتوبر 1973م.

قبل المعارك تولى العقيد/ إبراهيم عبدالتواب بنفسه تشكيل كتيبة من أفراد ومعدات، كانت مهمة الكتيبة هي اقتحام البحيرات المرة الصغرى تحت تغطية من نيران المدفعية والقصف الجوى للطائرات المصرية، ثم التحرك شرقــًا على طريق (الطاسة) ثم طريق (الممرات) لتهاجم وتستولى على المدخل الغربي لممر (متلا)، وبالفعل وفي فترة زمنية صغيرة، بفضل القيادة الواعية لعبدالتواب، ورغم العقبات التي واجهت كتيبة البطل وشراسة العدو المصاب بالذهول، استمرت مهمة البطل ورجاله في تلك المنطقة وكبدوا العدو الإسرائيلي خسائر هائلة في الأرواح والمعدات.. كان الهدف هو منع العدو القادم من التقدم إلى سيناء.

دشمة كبريت الحصينة

ولما كانت النقطة الحصينة في كبريت مقرا لقيادة إسرائيلية،‮ تشكل خط بارليف، و‬يمكن من خلالها السيطرة على كل التحركات شرقا أو‮ غربا منطقة كبريت،‮ كما تتميز المنطقة؛ بموقع يتوسط الجيشين الثانى والثالث،‮ ‬كما تقع في أضيق منطقة بين البحيرات المرة الكبرى والصغرى والمسافة بين الشاطئين الشرقي والغربي عند هذه المنطقة لا تزيد على 500 ‬مترا،‮ وتوجد في الوسط جزيرة‮ ‬يستطيع من خلالها العدو تطويق الجيش الثالث والوصول لمدينة السويس‮ الباسلة! ‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬

كما عرف عن هذا الموقع الحصين أنه يتحمل الموجات الانفجارية لجميع أنواع القنابل حتى زنة ألف رطل‮،‬ ‬حيث يتوفر داخل النقطة إمكانات الاكتفاء الذاتي لمدة شهر ويزيد،‮ وغرفة عمليات جراحية كاملة التجهيز، وكميات كبيرة من الأدوية والمعدات الطبية، لعل كل من زار الموقع الحصين فيما بعد المعارك، تنال منه الدهشة لشدة التحصينات وأنواع الأسلحة التي يمكن استخدامها، بداية من المسدس حتى الدبابة! ‬‬‬‬‬‬

اقتحام الموقع

وصلت معلومات للقيادة العامة للقوات المسلحة تفيد بأن الإسرائيليين بدأوا في تجميع قواتهم نحو نقطة كبريت للقيام بعملية اختراق عميق للقوات المصرية، وكانت النقطة القوية في كبريت لم تسقط بعد في العبور الأول. فكلفت الكتيبة 603 مشاة باقتحام هذه النقطة والاستيلاء عليها. 
.. في تمام الساعة ‮6:30 ‬من يوم التاسع من أكتوبر تحركت الكتيبة في اتجاه كبريت،‮ ‬وكانت الخطة تقضي باستغلال نيران المدفعية والدبابات لاقتحام الموقع من اتجاهي الشرق والجنوب بسرية مشاة،‮ ‬في الوقت الذي تقوم باقي وحدات الكتيبة بالحصار من جميع الاتجاهات لمنع تقدم قوات احتياطي العدو الإسرائيلي‮.‬ تمت مهاجمة النقطة القوية واقتحامها الساعة ‮21:30 ‬نفس اليوم‮.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬

فورا أبلغ القائد بتمام تنفيذ الأوامر، كان رد القيادة العليا بالاستمرار في تنفيذ المهمة والتمسك بالموقع والسيطرة على المنطقة المحيطة به مهما كلف ذلك من تضحيات،‮ ‬وكلف قائد الكتيبة عناصر المهندسين بزرع حقول الألغام المضادة للدبابات على طرق الاقتراب المحتملة للقوات الإسرائيلية وتجهيز مداخل المنطقة بحقول ألغام‮.‬‬‬‬‬‬‬

الحصار

بعد فترة الارتباك والذهول التي نالت من العدو فور العبور مباشرة وبعد الاستيلاء على النقط الحصينة، ومنها حصن كبريت، وبعد ثلاثة أيام من الاستيلاء على الموقع كانت تحركات العدو تشير ﺇلى استعداده للهجوم لاستعادة النقطة. كانت أوامر القائد إبراهيم عبدالتواب، الإعداد لعمليات استباقية، ولا ينتظرون مهاجمة العدو لهم، بل هم من ينفون الهجوم والقضاء على أكبر عدد منهم مع كل الخسائر الممكنة فى المعدات. بدأت بتنفيذ غارات ليلية على القوات المتجمعة بالقرب من الحصن وإحداث أكبر خسائر بها، وكانت المجموعات تتكون من ضابط وأربعة أفراد فقط، ومع ذلك نجحت فى مهمتها، وقد أدت هذه الغارات ﺇلى إشاعة الذعر بين صفوف الإسرائيليين وتكبيدهم خسائر كبيرة. 
‬‬

فبدأت الغارات الجوية المكثفة للعدو واستمرت،‮ ‬بمعدل‮ ‬غارة كل ‮٥ ‬دقائق‮.‬ أكثر من 2500 ‬طن من مادة 'T.N.T' ‬تم إلقاؤها من الطائرات على الموقع.. ثم بدأت مواقع المدفعية الإسرائيلية المجاورة توجه ضرباتها إلى موقع حصن كبريت أيضا..‮ ‬غير أن إبراهيم عبدالتواب أمر الجنود من أفراد الكتيبة عدم الرد إلا بإشارة منه،‮ ‬وطلب من الجميع أن يبقوا في وضع الاستعداد‮.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬

فلما أبلغ ضابط نقطة المراقبة الخارجية الذي مهمته رصد التحركات خارج منطقة الحصن،‮ ‬بتقدم الدبابات الإسرائيلية بحوالي 20 ‬دبابة من جهة الغرب،‮ ‬غير أن الدبابات دخلت في حقل ألغام كانت قد زرعته القوات المصرية‮.. لم يقلق القائد الشهيد ثم انتظر حتى أبلغه الضابط نفسه قائلا:‬ (أصيب الإسرائيليون بحالة من الذعر الشديد وتم تدمير حوالي 16 ‬دبابة إسرائيلية مما اضطر الآخرين إلى الهروب‮).. فصلى الشهيد ركعتين حمدا وشكرا لله.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬

بعد فترة قصيرة حاولت سيارة إسرائيلية الاقتراب من الموقع،‮ ‬فقام أحد أفراد الكتيبة بضربها،‮ ‬فانقلبت وتم أسر ثلاثة جنود إسرائيليين كانوا على متنها. وقام القائد بمهمة التحقيق معهم بنفسه.. كانت الأخبار الجديدة التي قال بها جنود العدو؛ ‬غارة إسرائيلية ضخمة يعد لها بهدف دك الكتيبة في الخامسة مساء. ‬بالفعل نفذت أربع طائرات فانتوم المهمة ودكت الموقع بشراسة‮.‬ ولكن رغم ذلك ظلت القوات صامدة‮.‬ ولم يستطع الإسرائيليون اقتحام الموقع مجددا..‬‬ بل تم تدمير 27 ‬دبابة وعربة مدرعة إسرائيلية حول الموقع.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬

نبوءة الشهادة: (مما رصدته فى روايتى "السمان يهاجر شرقا"/ حول بطولة الشهيد)

قبل استشهاد إبراهيم عبدالتواب، وعندما زادت الغارات الشرسة على الموقع، طلب ورقة وقلم وكتب هذا القَسَم الذي تداولته الأيادي والعيون: (أقسم بالله العظيم أن أظل محتفظا بالأرض مخلصا لمصر.. مضحيا في سبيلها بكل غال.. زاهدا من أجلها في كل نفيس، والله على ما أقول شهيد)وبعد سويعات قليلة وأثناء استطلاع المنطقة المتقدمة للموقع برفقة أحد الضباط قال له: (لو استشهدت، كفنونى بعلم مصر، وادفنوني هنا) وأشار إلى بقعة من الأرض، وهي نفسها البقعة التى دفن فيها فى اليوم التالي بعد غارات جوية استمرت طوال ساعات اليوم.

كان ذلك في يوم 14 يناير1974.. وظلت الكتيبة صامدة في موقعها لمدة 114 يوما.. حتى جاء يوم 20 فبراير1974، وانسحبت إسرائيل إلى خط المضايق الجبلية تنفيذا لاتفاقية فك الاشتباك ورفع الحصار عن الموقع.