الجمعة 10 مايو 2024

الشهيد.. عنوان التضحية والفداء


د.رانيا أبو الخير

مقالات21-3-2022 | 19:12

د.رانيا أبو الخير

في التاسع من مارس من كل عام، تحيي مصر بقيادتها السياسية وشعبها الوفيّ يومًا وطنيًا عنوانه التضحية والفداء، وهو "يوم الشهيد"، ذلك اليوم الذى يمثل ذكرى عطرة لكل من قدم روحه فداء لهذا الوطن، صحيح أنه لا يقتصر إحياء ذكرى الشهيد على هذا اليوم فحسب، بل تظل ذاكرة حية في فكر ووجدان الجميع، اعترافًا بجميل صنعهم وفضلهم، مع الأخذ في الاعتبار أن إحياء هذه الذكرى تتشارك فيها جميع دول العالم، حيث تختار كل دولة يوما لإحياء ذكرى شهدائها الذين ضحوا بأرواحهم لتنعم أوطانهم، ولكن ما يميز الاحتفال المصرى بيوم شهيدها أمران مهمان: الأول، أن ذكرى هذا اليوم ترجع بجذورها إلى عام 1969 وهو ذكرى استشهاد الفريق أول عبد المنعم رياض، حينما توجه للجبهة فى اليوم الثانى لحرب الاستنزاف ليتابع بنفسه نتائج قتال اليوم الأول، وليكون بين أبناء قواته المسلحة فى فترة جديدة تتسم بطابع قتالى عنيف ومستمر لاستنزاف العدو، وأثناء مروره على القوات فى الخطوط الأمامية شمال الإسماعيلية، أصيب إصابة قاتلة بنيران مدفعية العدو الإسرائيلي أثناء الاشتباك بالنيران وفارق الحياة خلال نقله إلى مستشفى الإسماعيلية، ليخرج الشعب حينها بجميع طوائفه فى وداعه مشيعين جثمانه بإجلال واحترام ممزوجين بالحزن العميق. 

واختيار هذا اليوم الذى بدأ الاحتفال به عقب انتصارات أكتوبر، يحمل العديد من الدلالات سواء تلك المتعلقة بالتوقيت ذاته (خلال فترة حرب الاستنزاف) أو بالفريق عبد المنعم رياض وما قدمه لمصر ولأبنائه من القوات المسلحة، فكانت ذكرى استشهاده الذكرى الأنسب لإحياء يوم الشهيد.

أما الأمر الثانى، يتعلق بالدولة المصرية، حيث تعد الدولة الأكبر عددا في العالم في تقديم الشهداء منذ فجر ما قبل التاريخ، فتكون مصر الدولة الأقدم في العالم وصاحبة أقدم الحضارات الإنسانية، فقد قدمت أكبر عدد من الشهداء الذين ضحوا بأرواحهم في حماية وطنهم في مواجهة الاعتداءات الخارجية؛ ضد الهكسوس والتتار والمغول، كما قدمت خيرة شبابها ورجالها إبّان الحملة الفرنسية وطيلة فترة الاحتلال الإنجليزي من أجل جلاء المستعمر، وتجلت بطولة أبنائها أثناء العدوان الثلاثي، وخلال حرب الاستنزاف، وفى حرب أكتوبر المجيدة التي ثأرت فيها مصر لكرامتها محطمة أسطورة الجيش الإسرائيلي الذي لا يهزم، وصولا إلى  شهدائها في مواجهة الإرهاب الأسود الغاشم الذي حصد خيرة أبنائها من الضباط بل ومن المدنيين أيضا.

ولم يقتصر الأمر على ذلك فحسب، إذ لا يمكن ان يُنكر أحد تضحيات الجندي المصري الباسل في سبيل الذود عن الأمن العربى، فكان فى مقدمة المدافعين عن فلسطين في حرب 1948 وغيرها من المعارك التي تؤكد على شجاعة وشرف شهدائنا داخل الوطن وخارجه، ليقدموا للعالم بأسره أعظم ملاحم البطولة والفداء. 

والحقيقة أن احتفال القوات المسلحة بيوم الشهيد لا يعني أنه احتفال خاص، بل هو احتفال يشارك فيه الشعب المصرى كله، إذ أنه في مثل هذا اليوم تتوحد مشاعر المواطنين، وتتآلف قلوبهم، مثلما تتعاضد سواعدهم في ميادين العمل الوطني من أجل رفعة الوطن وتقدمه وريادته، وهو ما يستوجب أن نؤكد عليه في ذكرى الاحتفال بهذا اليوم، بمجموعة من النقاط ذات الدلالات العميقة والتي يمكن أن نجملها في ثلاث نقاط، هي:

الأولى، إن قضية الشهادة في سبيل الذود عن الوطن وحياضه وأراضيه وحقوقه قضية إيمانية إلى جانب أنها قضية مجتمعية، حيث تعد هذه القضية من القضايا الواجب أن تركز عليها مؤسسات التربية والتعليم والتنشئة والثقافة والإعلام، حتى لا تكون ثمة ثغرة ينفذ منها أعداء الوطن في التفرقة بين التضحية والفداء من أجل الوطن والتضحية والفداء من أجل الدين، وهى الثغرة التي تستغلها جماعات التطرف والإرهاب في مختلف دول العالم بما فيها الدول الإسلامية، وهو ما يستوجب أن تتبنى المنظمات الدولية والإقليمية المعنية بالثقافة والعلوم والآداب هذه الرؤية لتصحيح المفاهيم المغلوطة والمشوشة التي نجحت مثل هذه الجماعات المتطرفة في ترسيخها في عقول أبناء الوطن، إذ أن قبول هذه الفكرة المغلوطة لدى المواطن يمثل الخطوة الأولى نحو تهديد الدولة الوطنية بمكوناتها الرئيسية والتي تعد المواطنة الركيزة الأساسية في الحفاظ على تماسكها وترابط أبنائها.

فمن الأهمية بمكان أن يُعاد التأكيد على أن الذود عن الوطن جوهر الذود عن الدين، بل لا يمكن الانفصام بينهما، ولعل النموذج الذى يقدمه الجيش المصرى يعد النموذج الأكثر إبداعا في ترسيخ المواطنة بصورتها المثالية، فهو ليس جيشا طائفيا أو قَبَليًا أو دينيًا أو عقائديًا، وإنما هو جيش وطنى يتشارك فيه جميع أبناء الوطن بغض النظر عن انتماءاتهم الدينية أو الفكرية او الأيديولوجية، ولذا، فشهداؤه هم شهداء الوطن، وهنا تكمن الأزمة التي يحدث عندها الخلط لدى البعض في النظر إلى من يقدم روحه فداء للدفاع عن الوطن وشرفه ومكانته، ومن يقدم روحه دفاعا عن جماعة أو تنظيم تحت مسميات دينية أو أفكار عقائدية تهدم الأوطان وتفكك الدول. 

الثانية، إن قضية إحياء ذكرى الشهيد يجب أن يُنظر إليها من زاوية الحقوق بمفهومها الشامل، صحيح أن الدولة المصرية لم تدخر جهدا في إيلاء الاهتمام بالشهداء وأسرهم وذويهم، إلا أن هذا الاهتمام يجب أن ينسحب على كل أفراد ومؤسسات المجتمع، فحينما تقدم الدولة مساعدات عينية أو مادية لأسر الشهداء وأبنائهم إيمانا منها بعظمة دورهم وقيمة عطائهم، فإن المواطن يجب أن يدرك أن ما قامت به الدولة لا يغني عن دوره في كيفية التواصل مع أسر هؤلاء الشهداء ومعاونتهم، وهو الدور ذاته الذى ينسحب على مؤسسات المجتمع المدنى العاملة في جميع التخصصات وليس المجال الخدمي فحسب، بل تظل المؤسسات العاملة في المجال الحقوقى والسياسى هي الأكثر مسئولية في الدفاع عن حقوق الشهداء، ليس فقط في الداخل المصري، وإنما في الخارج، وخاصة لدى منظمات حقوق الإنسان التي تتشدق في تقاريرها عن أوضاع المتهمين من العناصر الإرهابية، وكأن القانون الدولى الإنساني لم يتحدث عن حقوق الضحايا بقدر ما تحدث عن حقوق المعتدين؛ وتمثل هذه القضية محورا مهمًا في تصحيح المفاهيم والصور لدى الرأي العام الوطنى والدولى في نظرته إلى واقع المجتمعات التي تعاني الجرائم الإرهابية التي يروح ضحيتها شهداء أبرياء من العسكريين والشرطيين والمدنيين، إذ تظل حقوقهم الأولى بالاهتمام؛ بدءًا من حقهم في الحياة مرورًا بحقوق ذويهم وأسرهم وصولا إلى حقوق وطنهم. 

الثالثة، إن قضية إحياء ذكرى الشهيد يجب ألا تقتصر على الاحتفال بيوم محدد للشهيد، وإنما يجب أن تكون لدينا في مجتمعاتنا وخاصة لدى النشء والشباب ثقافة صحيحة عن معنى الشهادة والاستشهاد، وقيمة الفداء والعطاء والتضحية، وأن الشهادة في سبيل الأوطان لا تقتصر على من نالها في ميدان المعركة ضد العدوان الخارجي، بل ينالها كل من قدم روحه دفاعًا عن وطنه وقضاياه وأبنائه وأمنه واستقراره وتنميته، فالشهادة مفهوم واسع شريطة أن يكون منضبط الغاية وصحيح الهدف، لأننا في علم الفقه نرسخ قاعدة بأن الوسائل لها حكم المقاصد، وهى قاعدة تبعد كلية عن القاعدة التي تتبناها جماعات التطرف والإرهاب بأن الغاية تبرر الوسيلة، وهى قاعدة مرفوضة شرعا وثقافة ومجتمعًا، ولذا، فمن المهم أن يدرك الجميع أنه رغم اتساع مفهوم الشهادة وصورها إلا أنها تظل صحتها محصورة في غايتها، وهى الذود عن الوطن وأمنه، فبقدر الابتعاد عن الغاية يكون الانحراف بالوسيلة المتبعة. 

نهاية القول إن إحياء ذكرى يوم الشهيد رغم ما تحمله من أشجان وأحزان بفقدانهم وغيابهم عن أهليهم وذويهم، إلا أنها تحمل رسالة امتنان وتقدير وإجلال واحترام من المجتمع بأسره والدولة بمؤسساتها بفضل هؤلاء الشهداء ومكانتهم التي يحظون بها لدى أبناء وطنهم، فيحيون ذكراهم تأكيدا على عظيم دورهم من ناحية، وتقديمهم كنماذج مشرفة وقدوات متميزة تحيي الانتماء والوطنية لدى أبنائنا فى أن هناك أناسًا قدموا أرواحهم تضحية لتسليم قيادة الأوطان إلى أجيال تصون العهد وتتحمل المسئولية بشرف ووطنية حتى تتمكن من تسليمها إلى أبنائهم وأحفادهم كما تسلموها من أجدادهم وآبائهم، تلك هي سنة الحياة، في أن كل جيل يسلم الراية للجيل الذى يليه حفاظا على الحقوق وصونًا للحريات وضمانًا للأمن والاستقرار، وهو ما عبرت عنه بوضوح كلمة الرئيس عبد الفتاح السيسي في احتفالية يوم الشهيد العام الماضي (9 مارس 2021) حينما أكد أن:"سيرة الشهيد تقول لنا خدوا بالكم من بلدكم، فالشهداء قدموا دماءهم وأرواحهم لكي تعيش البلد بخير، ويجب على أهلها أن يحافظوا عليها ولا يخربوها، وإلا ستكون تلك التضحيات ليست في محلها".

 فتحية خالدة للشهداء في يومهم، وتقديرًا لهم على عطائهم، وامتنانًا منّا بجميل صنعهم.

Dr.Radwa
Egypt Air