بقلم – د. عاصم الدسوقى
فى تاريخ كل بلد من بلاد الدنيا تظهر شخصية من أهل البلد تقودها الظروف إلى كرسى الحكم فيأخذ صاحبها لقب «الرئيس»، سواء جاء ذلك عبر حركة وطنية ضد احتلال أجنبى للبلاد، أو من خلال عملية انتخابات رئاسية بمقتضى التصويت العام للناخبين، أو بناء على انقلاب يطيح بالسلطة السياسية القائمة ويتولى قائد الانقلاب رئاسة الحكم ويبدأ فى إدارة دفة شئون الحكم والسياسة.
وفى كل هذه الأحوال نادرا ما يصبح الرئيس الحاكم زعيما، ذلك أن الزعيم صفة يخلعها الشعب على الرئيس الحاكم أو القائد حين يدرك أبناء البلد أن هذا الرئيس بمثابة الأب لهم، الذى يتفهم مشكلاتهم ويعمل على حلها وعلى مواجهة المصاعب التى تحيط بالبلد عن طريق مكاشفتهم ومصارحتهم بحقيقة الأوضاع، حتى يتحمل كل فرد من أهل البلد مسئوليته وأولهم الرئيس الزعيم، ولتأكيد ذلك نقول إن كلمة الزعيم فى اللغة تعنى «الكفيل» أى الشخص الذى يكفل غيره ويتحمل مسئولية جماعته كاملة فى مواجهة المواقف ويقود أبناء الوطن إلى بر الأمان.
وبناء على هذا التحديد اللغوى سوف نجد أن قليلا من رؤساء كثير من الدول عبر الزمن خلعت عليهم شعوبهم لقب الزعيم، من ذلك على سبيل المثال جورج واشنطن الذى قاد ثورة شعوب المستعمرات البريطانية فى الأرض الجديدة (أمريكا) إلى الاستقلال وإعلان قيام الولايات المتحدة الأمريكية، وإبراهام لينكولن بطل تحرير العبيد فى أمريكا (١٨٦١-١٨٦٥) والحفاظ على وحدة الوطن الأمريكى (الشمال والجنوب) فى مواجهة التفرقة العنصرية، ثم فرانكلين روزفلت (الحزب الديمقراطي) الذى قاد بلاده إلى بر الأمان فى مواجهة الأزمة الاقتصادية العالمية (١٩٢٩) لنصرة الطبقة الوسطى والعمال حتى لقد تم انتخابه ثلاث مرات وتوفى فى منتصف المرة الثالثة، قبل أن ينجح الجمهوريون فى الكونجرس (١٩٥١) فى تعديل الدستور الأمريكى لكى يجعل فترة الرئيس مدتين متتاليتين فقط، ولا يرشح نفسه مرة أخرى.
وفى روسيا تجد لينين يأخذ لقب الزعيم، لأن عينه كانت على تحقيق المساواة بين أبناء طوائف الاتحاد السوفييتى من خلال التنظيم السياسى الواحد الذى تقوم فكرته على مبدأ «الكل فى واحد»، بحيث لا يسمح لأصحاب رأس المال أن ينفردوا بقيادة البلاد نحو مصالحهم على حساب باقى فئات الشعب. وفى الصين لا تجد إلا ماو تسى تونج زعيما نهض ببلاده عبر المجتمع الإقطاعى إلى مجتمع المساواة والتكافل، وحين وجد انحرافا عن هذه الصيغة من حيث تعالى أصحاب الياقات البيضاء على طبقة العمال، لم يتردد فى القيام بما عرف بالثورة الثقافية (منتصف ستينيات القرن العشرين).
وفى بلدان العالم الثالث لا تجد إلا القليل مثل: غاندى فى الهند الذى ذهب لمقابلة ملك إنجلترا بملابس مهلهلة ونعل مثقوب، فلما قيل له: هل تقابل جلالة ملك بريطانيا بهذا الثوب العاري، فرد قائلا: إننى أمثل أمة من العرايا والجوعى ولا أستطيع أن أكون مختلفا عنهم، مع أنه كان من أسرة من الطبقة العليا فى المجتمع. ومن بعده نهرو الذى أخرج بلاده وبلاد العالم الثالث من دائرة التبعية المهينة للغرب الأوربى الاستعماري، فكان «تجمع الحياد الإيجابي» (أبريل ١٩٥٥)، ولما صرح جون فوستر دالاس وزير خارجية أمريكا إن الحياد الإيجابى هذا موقف لا أخلاقى immoral ابتسم نهرو، وقال: لقد كشفوا عن حقيقة نياتهم فى إذلال الشعوب؛ وهناك أحمد سوكارنو فى إندونيسيا، وكاسترو فى كوبا، وشافيز فى فنزويلا، وأبطال حركة التحرر الوطنى فى إفريقيا مثل: أحمد سيكوتورى فى غينيا، وكوامى نكروما فى غانا، وموديبو كيتا فى مالى وغيرهم من أبطال حركة تحرير بلادهم من الاستعمار وقيادة شعوبهم إلى بر الأمان مع القوة والعزة والمنعة.
وفى كل هذه النماذج التى عرضنا لها وهى غيض من فيض كما يقال اكتسب هؤلاء صفة الزعامة من شعوبهم فأصبحت حقا مقدسا لهم ولم ينتحلها أحدهم، وذلك بسبب أن كلا منهم كرس نفسه لخدمة شعبه بما توفرت له من صفات وخصال جعلته يرتفع فوق ذاته ويضع نفسه تحت طلب شعبه ليقوده إلى بر الأمان.
أما فى بلدنا مصر فسنجد أن جمال عبد الناصر ينفرد بصفة الزعامة التى خلعها عليه المصريون، حين تبينوا أنه يضع مصلحة الوطن فوق كل شيء وقبل أى شيء ويصارحهم بحقيقة الموقف ويطلب منهم مساعدته على تخطى العقبات وتجاوز الصعاب، ولا يؤثر نفسه عليهم، ولا يميز أولاده بأية ميزة لا يستحقونها، بل إنهم كانوا يخضعون لذات القواعد المعمول بها فى المجتمع. ولعلنا نتذكر كيف كان يشرك الجماهير معه فى الهموم التى كان يواجهها بعبارات ساخرة حتى يدركوا حقيقة الأزمة ومن ثم يقفون إلى جانبه. ومن الذى ينسى حديثه أمام الجماهير عن حسن الهضيبى مرشد الإخوان المسلمين فى سبتمبر ١٩٥٢ حين طلب منه المرشد أن يصدر قرارا بتعميم الحجاب على المرأة المصرية فأجابه ساخرا: هذا شأن رب الأسرة ولا ينبغى التدخل فيه، ثم إن ابنتك طالبة فى كلية الطب ولا تضع طرحة على رأسها، فتضج الجماهير بالضحك وهى تسمعه، أو قوله حين بدأ الغرب الأوربي-الأمريكى يفرض حصارا اقتصاديا على مصر بسبب رفض ناصر الانضمام للتحالفات الغربية ضد الاتحاد السوفييتي، وإقدامه على تأميم قناة السويس (يوليه ١٩٥٦) حين صارح الجماهير قائلا: بسيطة .. أى واحد بيشرب أربع مرات شاى فى اليوم كفاية مرة أو اتنين .. وكفاية أربع مرات لحمة فى الأسبوع “يوم ويوم”. وقوله فى مناسبة أخرى: إن كل ما نريده: نشغل الولد ونجوز البنت .. وقوله الحكيم الذى كشف به أعداء مصر: إذا عدوى مدحنى يبقى أنا ماشى غلط، أى فى سكة العدو .. طول م عدوى بيشتمنى فأنا ماشى صح .. أى فى طريق خدمة الوطن والجماهير. ولم يكن يقول هذا وذاك من باب التظاهر، بل على العكس كان الظاهر عنده هو الباطن، والباطن هو الظاهر .. لا يطالب الجماهير بتصرف يفعل هو عكسه، ومن هنا أحبه الناس لأنه الكفيل بإزاحة الغمة والتغلب على الصعاب مهما كانت ..
تابع التفاصيل في العدد الجديد في المصور الموجود حالياً في الأسواق .