الخميس 25 ابريل 2024

سد الرمق.. أشعار للحياة وروح التحدي

مقالات13-4-2022 | 17:24

منذ مدة طويلة يبدو شعر العامية نوعا أدبيا مهمشا ويعاني من غبن شديد لا يتناسب ومكانته في حياتنا الأدبية وتاريخه وفاعليته الممتدة في أدب العصر الحديث، ويتضاعف الغبن حين يكون الشعر بعيدا عن القاهرة أو عن الأسماء المركزية المعهودة في الشعر العامي من أعلامه المشهورين مثل الأبنودي وسيد حجاب، في حين تبدو خريطة شعر العامية حافلة بالإنتاج ومشتبكة بروح الإنسان المصري وعاداته وتقاليده ويومياته ونبضه الحياتي، ويبدو هذا اللون الشعري على قدر كبير من العبقرية والتميز لارتباطه بالموروث الشعبي والشفاهي وهذا التغلغل العميق في نسيج الحياة اليومية والاجتماعية، وارتباطه بمقومات صوتية وإيقاعية مميزة. حين قرأت ديوان "سد الرمق" للشاعر المبدع خضر إسماعيل الصادر عن دار الربيع 2021 استمعت كثيرا وعدت إلى فرادة هذه الأصوات الشعرية الراسخة لدينا، وهو في الحقيقة ديوان ثري وحافل بالجمال الإنساني ويعيد الثقة في شعر العامية، ويؤشر نحو طاقات إبداعية وجمالية هائلة، ويؤكد قدرة العامية على تمثل جماليات من نوع خاص ويكشف عن كونها لغة خاصة قادرة على إنتاج الشعرية واستيلادها من هذا المستوى الخاص من اللغة التي ربما تكون في تحد جمالي من البداية وربما من قبل انطلاق القول، فاللغة التي تتماس أو تتطابق في سماتها مع لغة الحياة اليومية أو مع الدارج والمعتاد من لغة الكلام هي بإزاء تحديات خاصة وتحتاج إلى جماليات من نوع خاص لأن الشعرية حينئذ ستكون ملفوفة فيما نتخيل أنه العادي أو الدارج أو المعتاد وربما تتجسد فيما يمكن أن نتصور أنه قد يكون مبتذلا، وهذه كلها تحديات أمام شاعر العامية بشكل عام، ولهذا فإن شعر العامية القادر على التأثير وإنتاج الجمال الأدبي هو أمر ليس بالسهل ويحتاج إلى جهد نقدي كبير.

 ولكن في المقابل نجد أن للعامية نقطة قوة مهمة لا يقدرها إلا الشعراء الراسخين أو المنتمين لهذا النوع الشعري انتماء العشاق والمتيمين، وهو قدر ما تكتنز من البساطة والتدفق والسلاسة والقدرة الاستثنائية على النفوذ أو التسلل إلى قلب المتلقي وعقله ووجدانه، والحقيقة أن شعر الأستاذ المخضرم خضر إسماعيل من هذه الخامة ويبدو من أول أسطر القصيدة وربما من أول كلماتها، فهو من الشعراء المحتفين بالثراء الإيقاعي واللغة الرنانة اللافتة في قصيدة العامية ومن المستثمرين بشكل جيد لتكوين الصوتي في القصيدة وفي تقديري أنه أمر جيد بخلاف ما قد نتصور لأول وهلة ونحن مسلوبين ببعض المقولات الحداثية الدارجة أو المكررة عن أن الشعر ليس ظاهرة صوتية، ففي تقديري أن هذه مقولة تحتاج إلي إعادة نظر. ويمكن وصف الشاعر في هذا الديوان بأنه واحد من المدركين والمحبين لخصوصية الإيقاع والنسج الموسيقي والطاقات الصوتية والسماعية في شعر العامية، والحقيقة أن هذا جانب مهم ولا يمكن إلغاؤه لأن الشعرية وفق التصورات البنيوية أنطولوجيا متكاملة وروح تسري في اللغة تتشكل من عدد من الجوانب والأبعاد التي لا يمكن فصلها من حيث الأثر الجمالي أو الدلالي، وكذلك الأمر وفقا لتصورات نقاد ما بعد الحداثة لا يمكن إغفال فاعلية الأثر الموسيقي أو نفوذ وفاعلية الإيقاع، وهكذا فإن هذا التناغم الإيقاعي وهذه اللغة الحيوية في مكونها الصوتي هي المشكل لبناء شعري تبدو واضحة بقوة قابليته للإلقاء والغناء ولفت انتباه المتلقين وجذبهم، والحقيقة أن البدء بالإشارة إلى هذه السمة لا يعني الاقتصار عليها أو انحصار طاقات نصوص هذا الديوان فيها، فهناك الكثير من السمات والخصائص والقيم الجمالية والدلالية الأخرى في قصائد الديوان التي تتنوع في موضوعاتها بين مشاهد الحب والغزل والعشق أو الامتنان وحالات أخرى بين الانتماء للمكان أو مشاعر الوطنية والعاطفة الدينية وقصائد تعبر عن حالات إنسانية أخرى كثيرة بين الأمل ومحبة الحياة والتحدي والمناجاة وغيرها الكثير من المعاني والموضوعات، منها ما يرتبط كذلك بحالات من الحنين للأب أو الأم أو الحوار الجمالي والمسرحي مع الحفيدة أو الزوجة وهي قصائد مهمة بذاتها لكونها تشكل ملامح تجربة إنسانية ثرية وتجعل المتلقي يستشعر الإطار الأسري والاجتماعي للشاعر ويراه ملتحما بالحياة ومحبا للناس ووفيا لهم ومحاطا بحبهم ويلاحظ في الشاعر جوانب إنسانية شفيفة مثل تقديره للمرأة بشكل خاص ويتجلى كذلك حجم مشاعر الوفاء للناس لديه. وكذلك القصائد التي يقارب فيها بنبرة إنسانية مشاعر فقد البصر وقدر ما لدى الذات الشاعرة من التحدي وإرادة الحياة وحبها أو عشقها.

ولكن ما يلفت الانتباه بقوة بعد ذلك هو بعض الصور الشعرية الجديدة التي تظل خاصة بهذا الصوت الشعري وتؤكد على أصالة إبداعه وحيويته والتحامه بالحياة ونبضه الإنساني، والحقيقة أن الصورة الشعرية بشكل خاص من المكونات التي تدل على عمق الرؤية الشعرية وخصوصيتها، لأن الصورة دالة على قدرة المخيلة على الربط بين الأشياء ودالة على إحساس خاص بعناصر الوجود وأشيائه أو مكوناته المختلفة.

وفي هذا الديوان حالة شعرية طريفة وجميلة تنتج عن المفارقات المدهشة التي يجسدها الشاعر في قصص الحب، وكيف يصور الشاعر ذاته بحالات من السخرية من الذات أو هجائها أو وصف حالات الضعف الذاتي وهو ما يستثمره على نحو مثالي من الناحية الشعرية ويجعلها تأخذ الطرف الثاني في قطبي المفارقة مع تلك الجميلة المكتملة التي يجعلها نموذجا للجمال يسعى وراءها ويحاول الوصول إليها، فهنا تتشكل شعرية خاصة في الحقيقة هي ليست جديدة تماما بل كانت من الأبواب الثرية للشعرية في التراث العربي، حيث كان الشاعر يصنع حالا من الهزل ووصف الشيب أو الضعف وفي المقابل يصف حبيبته بكل صفات الجمال والكمال، وذلك ليشكل مفارقة من هذين النموذجين المتناقضين، ولتدل على قدر ما يواجه هذا الحب من التحديات أو يبدو كما لو أنه معجزة إن تحقق، أو حينها يبدو الشاعر باحثا عن المستحيل. وهذا ما نجده في قصيدة الشاعر حين يقول:

أنت بصحيح ست الحسن

وانا راجل كبير في السن

منش شاطر ولا خيال

وأنت أميرة وجميلة

وأنا راجل منش فارس

ولا عندي حصان أبيض

ولا شايل سيف عنتر

في إيدي يدوب عكازي

بيه أمشي وأتحرك،

ساعات أوصل،

ساعات أقع وأتعتر

لكن بوصل

قوليلي ليه تحبيني؟

فهذه الوضعية المصطنعة والجميلة التي اهتدى إليها الشعراء القدامي هي في الحقيقة منطوية على عبقرية من نوع فريد لأنها بالأساس تجعل الشعر في وضعه الطبيعي باحثا عن المستحيل، وتجعل من الشاعر سيد المفارقات وقادرا دائما على طرح الأسئلة العصية أو اكتشاف الأزمات الوجودية في أبسط الأسئلة وأهونها، فسؤال الحب هو بالأساس سؤال عن الحق في الحياة، سؤال يتجاوز تماما حدود العلاقة الثنائية بين رجل وامرأة، بل هو سؤال عن علاقة إنسان بالحياة وسؤال عن الخلود والمتعة وبحث عن الأبدية، والأجمل حين يكون هذا السؤال قد انطلق أو طرح في إطار من اعتراف الشاعر بضعفه وعدم استحقاقه، ولكن الروح مازالت راغبة في الجمال، وكأنه لا يملك للحياة مهرا غير إرادة فيها وحبها لها. إنها حال شعرية مشوقة وإنسانية وفيها غلاف من الشفافية المضنية التي تجعل المتلقي يتفاعل معها أو يبدو منحازا ومتعاطفا مع هذه الذات الشاعرة التي تدرك ضعفها لكنها كذلك لا تمل من محاولات نيل حقها في الحياة متسلحة بالإرادة ومحبة الجمال.

وتبدو القصيدة عند خضر إسماعيل ذات تحولات وقدرة على المناورة وصناعة المفاجأة ولا تمضي في مسار أو اتجاه نمطي ثابت لا على مستوى الإيقاع أو في مستوى الدلالة، فيمكن أن يصنع تحولا مفاجئا في القصيدة في آخرها يكشف عن لغز أو يصنع مفاجأة أو يكسر أفق التلقي أو توقع القارئ، فعلى سبيل التمثيل نجد أن هذه الحبيبة التي وصفها بست الحسن وجسد نفسها مطاردا لها وراغبا في عشقها يمكن أن نجده في آخر القصيدة قد كشف عنها شخصية أخرى مختلفة تماما أو تشكل مفاجأة ، فتكون هي الحفيدة مثلا أو تكون هي شخصية مصر التي جسدها في بعض القصائد بصورة المعشوقة المحبوبة التي مرة يعاتبها ومرة يحاورها أو يجادلها في حالها وأحوالها.

والحقيقة أن الأستاذ خضر إسماعيل صاحب دواوين أخرى كثيرة، وكان قد أصدر في التسعينيات ديوانا مميزا، ونشر عددا من القصائد المتميزة والمختلفة في هذه الفترة نفسها في بعض الصحف والمجلات مثل أخبار الأدب في فترة الأديب الكبير جمال الغيطاني، وله قصيدة لافتة وهي (بتارين) التي وضع أول سطر شعري فيها عنوانا لديوانه الثاني الذي هو ديوان مميز وثري، وهو نايات للزينة مش للعزف. وفيها عدد مهم من القصائد الممتعة منها ما هو وطني ومنها ما يرتبط بالأم أو بشخصيات معينة مؤثرة في مدينة بورسعيد التي يبدو بوضوح أن الشاعر قد عشقها وكان مغرما بتاريخها البطولي وأمجادها ورجالها في عصور المقاومة التي امتدت من 56 وحتى بعد 73 ولم تهدأ إلا لفترات قليلة، ونجد أنه ينقب في نماذج منطقته وشخصياتها وأنماطها الإنسانية ويستولد الجمال الشعري مما يحيط به من المعالم وينقب في التاريخ والحكايات، ويبدو عاشقا للتراث الغنائي لمصر متمثلا في عدد كبير من الأسماء للشعراء الكبار والبارزين الذين يفيد منهم ويحاورهم في قصيدته، وبخاصة تلك التي ترتبط بشهر رمضان أو المسحراتي أو بعض التراث الشفاهي الشائع أو الدراج ربما على ألسنة الباعة الجائلين.

ليكون شعر خضر إسماعيل وتجربته مع الكتابة والإبداع حالة فريدة ومزيج من الالتزام الوطني والجمالي وجزء من سيرورة شاعر يؤمن بجمال الكلمة ويعشق المعنى أو كل ما يمكن أن يجعل للحياة معنى أو يكشف عن عمقها الإنساني، وليشكل نموذجا مختلفا وجميلا في حياتنا يستحق الإشادة والتقدير والاهتمام والدرس، فهو يمكن مثلا أن يتحدث لساعات طويلة عن شعر المقاومة في إقليم القناة وسيناء ويذكر عديد الأسماء من الأبطال الذين التحموا بالشعر أو التحم بهم الشعر، وكذلك يذكر العديد من المواقف التاريخية والبطولية عن المقاومة أو حرب أكتوبر أو حرب الاستنزاف وغيرها من البطولات المصرية، فيبدو أنه نموذج لامتزاج الوطني بالجمالي بالشعري بالحكايات الشفاهية، ويبدو عاشقا للتاريخ المصري منذ الفراعنة وحتى اللحظة الراهنة مدركا لكم التحديات التي عاشتها مصر على مدار تاريخها وكانت تقاوم بالفن والإبداع والكلمة والقدرة على الحب وإرادة الحياة.  

 

Dr.Randa
Dr.Radwa