ألا يجب أن نتوقف أمام الأزمة الروسية- الأوكرانية طويلاً بالبحث والدراسة.. وهل هى حرب عادية وتقليدية أم مجموعة من الحروب يمكن أن نطلق عليها الحرب الشاملة؟.. ولقد ظهرت فى الأفق.. مصطلحات وتعبيرات كثيرة مثل حرب العقوبات والطاقة والغاز والحروب الأممية والحروب بالوكالة والمرتزقة.. وسقوط حروب الأيدلوجيات، لتتحول إلى حروب المصالح والحروب الاقتصادية.. والإعلامية والتزيبف والفبركة والتشويه.
كل ذلك يستوجب أن نأخذ الحرب الروسية- الأوكرانية بالدراسة والتحليل وان نضعها أمامنا على مائدة النقاش فى إجراء محاكاة وتماثل لمثل مقومات ونشوب وإجراءات وفعاليات الحرب وكيفية اتخاذ القرار وبناء تقدير الموقف؟.. وإدارة الملفات الاقتصادية والإعلامية والدعائية وحماية الوعى والروح المعنوية.. وكيفية قراءة الأجواء النفسية ولغة الجسد ناهيك عن الدراسات العسكرية الدقيقة لكل كبيرة وصغيرة لما تضمنته الحرب منذ نشوبها.
الأزمة الروسية- الأوكرانية مجموعة من الحروب والمواجهات علينا أن نتوقف أمامها بالبحث والتحليل والمعايشة والمحاكاة لتأهيل أجيال محترفة وقادرة على مجابهة مثل هذه التحديات
إذا كانت الأزمة الروسية- الأوكرانية فرضت واقعاً جديداً.. وتداعيات قاسية.. فإنها بطبيعة الحال منحتنا دروساً كثيرة وغزيرة علينا أن نتدرب عليها ونتعامل معها حتى نكون جاهزين لمثل هذه الحالات والتداعيات خاصة وأنها ليست مجرد حرب تقليدية يظهر فيها القتال بالسلاح براً وجواً وبحراً ولكنها كوكتيل من الحروب المختلفة تجد فيها حروباً عسكرية تقليدية وحروباً غير تقليدية حديثة وحروباً اقتصادية وأخرى للعقوبات.. وحروب الإجراءات والإجراءات المضادة، وحروب الغاز والطاقة والحروب الأممية والتلاعب واستخدام وتوظيف المؤسسات الدولية وكذلك الحروب بالوكالة باستخدام قوات أرض أو مرتزقة.
الأزمة الروسية- الأوكرانية هى حرب عالمية بكل ما تحمله الكلمة من معان سواء فى أطرافها أو تداعياتها.. قاطراتها معسكرات وقوى جديدة تتشكل فى مواجهة القوى القديمة أو المعسكر القديم أو ضد أحادية القطبية.. فالولايات المتحدة وأوروبا أو الغرب يشكلون المعسكر التقليدى الراغب فى استمرار الهيمنة والانفراد بالقوة والسيطرة على العالم وله مصلحة فى استمرار القطب الأوحد والذى يسعى إلى تكسير عظم القوى الصاعدة مثل الصين وروسيا وهما يشكلان المعسكر الثانى بالاضافة إلى الهند وبعض القوى الأخرى الرافضة للهيمنة الأمريكية والمتضررة من ممارساتها وانحيازاتها ومؤامراتها وخطط الشيطان التى توظفها لإسقاط الدول أو تأليب شعوبها أو التخلى عن حلفائها وأصدقائها حتى ترسخ فى عقول البشر ان "المتغطى بالأمريكان.. عريان".
الحرب الروسية- الأوكرانية.. مزيج من الحروب التقليدية وغير التقليدية.. فهناك حرب الأسلحة مثل الطائرات والمقاتلات والهليوكوبتر والمسيرات حتى دخلت على الخط المسيرات الانتحارية والتى يقال إنها تدار من واشنطن وحرب المدن والعصابات.. ويبدو فى المشهد أن أوكرانيا هى من تواجه روسيا وهذا غير صحيح على الإطلاق.. فالمعسكر الأمريكي- الغربى موجود على الأرض بكل أنواع الدعم من المقاتلين والسلاح والمساعدات والدعم العسكرى واللوجيستى والسياسى والأممى والإعلامى أيضا والعقوبات ضد روسيا.. تستطيع أن ترى الدعم الأمريكي- الغربى من أنواع خاصة من التسليح مثل مضادات الدروع المحمولة على الكتف أو المضادات الأخرى التى يسهل حملها ويخف وزنها ويزداد تأثيرها.. فالمضادة تستهدف تحركات المدرعات والآليات الروسية وهناك أيضاً الصواريخ الأمريكية- الغربية ومضادات الطائرات ومضادات الهليوكوبتر.. وكل هذه النوعية من التسليح تظهر فى حروب المقاومة أو المدن أو العصابات عندما تتحيد التكنولوجيا والسلاح الحديث ليبقى الرهان على البندقية.. وقد يقول البعض ان الأسلحة الحديثة مثل المقاتلات قد تسوى العدو الأرض.. نعم تدمر الكثير من الأهداف.. لكنها لا تمكن من الاستقرار على الأرض وتحقيق النصر بما لا يسمح بوجود ضربات أو مقاومة مضادة.. من هنا فإن الأمريكان يراهنون على استنزاف القوات الروسية المهاجمة.. لكن ما أريد أن أقوله ان أوكرانيا مجرد واجهة تحارب روسيا.. لكن هى حروب معسكرات وحلفاء والسؤال المهم هل ترسم (الأزمة الروسية- الأوكرانية) ملامح نظام عالمى جديد؟.. وهل سيكون للأمم المتحدة ومجلس الأمن وجود فى هذا النظام؟.. ثم هل أصبحت للمؤسسات الدولية التى تدار بالريموت الأمريكى والغربى مصداقية بعد هذه الأزمة؟.
الحروب غير التقليدية والجديدة فى الحرب الروسية- الأوكرانية.. تبدو كثيرة ومتعددة فما بين الحروب الاقتصادية والعقوبات والإجراءات المضادة وحروب الغاز والطاقة والمواد الخام والسلع الأساسية.. فأوروبا تعيش على مصادر الطاقة الروسية وتعتمد فى توفير احتياجاتها بنسبة 40٪ من الغاز من روسيا.
العقوبات الأمريكية والغربية من كل شكل ولون على روسيا.. إلا أن موسكو لم تصمد وصادرت كل الشركات والأموال الغربية فى روسيا وأصدرت عقوبات على الغرب والأخطر ربطت الروبل الروسى بالغاز.. بمعنى أنه من يريد شراء الغاز الروسى عليه أن يدفع بالروبل وربط الروبل الروسى بالذهب.. نحن أمام محاولات تكسير عظام لكل معسكر للآخر.. فالمعسكر الأمريكي- الأوروبى أو الغرب يواجه المعسكر الروسي- الصيني- الهندى الذى يبحث عن مصالحه.. ونتائج وضحايا وخسائر هذه الحرب بين الحليفين تخنق الدول الأخرى وتؤدى إلى زيادة معدلات التضخم وارتفاع الأسعار وصعوبة فى الحصول على السلع والطاقة والمواد الخام وهو ما يؤدى إلى ارتفاع وتيرة الأسعار.
الحروب بالوكالة أيضاً تخيم على الأزمة الروسية- الأوكرانية.. فأوكرانيا نفسها تحارب بالوكالة نيابة عن المعسكر الأمريكي- الغربى وقد حشدت قوات ومرتزقة وأسلحة من مختلف الأيدلوجيات حتى انه تردد عند وجود كتيبة مسلحة تحارب إلى جانب الأوكران وأيضا هناك النازيون الأوكران والمتطوعون من دول أخرى التى ترعاهم أمريكا والغرب.. فى المقابل فإن المعسكر الروسى احتاج إلى خبرات فى حروب المدن والعصابات ولعل القوات الشيشانية المسلمة تقاتل مع القوات الروسية ضد الأوكران وربما تكون هناك قوات أو متطوعون من سوريا.. فالحرب نموذج لحروب المصالح والحروب بالوكالة تختفى فيها الأيدلوجيات.
الحروب التكنولوجية وتجربة نظم التسلح والحروب النفسية من خلال الصور والمشاهد والتصريحات والفيديوهات.. أيضاً حروب الفبركة وتصوير المشاهد لادعاء المظلومية مثل الإخوان المجرمين أو الزعم بوجود انتهاكات وتسويقها إعلامياً على السوشيال ميديا.. للأسف الشديد كل هذه المحاولات قد تم فضحها لكنها فى النهاية أنواع من الحروب تشن على الدول بغية توريطها وتشويهها أو إدانتها بالباطل أمام الجنائية الدولية ومنظمات حقوق الإنسان الأممية والدولية كل هذه الأنواع تمارس ضد روسيا فى محاولة لتسويق الأكاذيب والمزاعم والأفلام الهوليوودية المزيفة مثلما حدث مع العراق و11 سبتمبر وغيرها من دول المنطقة العربية.
لكن من وجهة نظرى ومن أهم دروس الحرب الروسية- الأوكرانية هو سقوط نظرية (الرواية الواحدة) التى فرضتها الولايات المتحدة الأمريكية ونجحت فى كل الحروب والأزمات الماضية فى حجب الروايات الأخرى بتسخير نوع واحد من الأفلام فى المناطق المستهدفة حتى يقول الرواية الأمريكية مثل الجزيرة والـ بى بى سى وسى إن إن وغيرها من وسائل الإعلام المتحالفة مع الأمريكان.
فى الأزمة الروسية- الأوكرانية سقطت نظرية الرواية الواحدة.. وتمكنت الروايات أو الرواية الأخرى فى الإعلان عن نفسها فلم تنجح كل الوسائل فى حجب الرواية الروسية ومبرراتها وأهدافها وأسبابها وإجراءاتها وفضحها للرواية الأمريكية بل جعلت من الرواية الأمريكية فى موقف المدافع فى أحيان كثيرة بعدما كنا نراه فى الرواية الواحدة التى يسوقها الإعلام الأمريكى فى العراق وغيرها من مناطق الصراع المتدججة بالفعل الأمريكي.
الرواية الواحدة فى الإعلام هى أخطر ما كنا نعانيه على مدار العقود الأربعة الأخيرة ولذلك عاشت الشعوب فى حالة غيبوبة وارتضت المؤسسات والمنظمات الأممية والدولية بذلك دون إرادتها.
ما أريد أن أقوله إن حروب الإعلام القديمة والجديدة والسوشيال والشائعات والاتهامات ومحاولات خفض الروح المعنوية والحروب النفسية وحتى طريقة المشى والحديث والحركة ولغة الجسد أو الفيديوهات المزورة لجثث وأموات فى الحقيقة أنهم أحياء أو استخدام التكنولوجيا الحديثة.. فهل تسمى كل هذه المواجهات المختلفة والمتنوعة حروب روسيا وأوكرانيا.. أم الحرب الشاملة؟
نحن أمام (مسرح عمليات واحد) تمارس فيه كل أنواع الحروب.. ومنه تنطلق حروب من نوعية أخرى منها قديمة وجديدة حروب المعلومات- الحروب التكنولوجية والأسلحة الجديدة.. حروب الوكالة والمرتزقة.. الحرب النظامية النمطية، حروب الأكاذيب والشائعات وحملات التشكيك والتشوية- الحروب الأممية والحروب الاقتصادية- والإجراءات والعقوبات المضادة- وحروب الغاز والطاقة، باختصار نحن أمام نموذج جديد للمواجهات والحروب لا تقتصر على نوع واحد من الحرب.. بل حتى فى أسلوبها أن تدفع قوى عظمى بدولة فى مواجهة دولة عظمى أخرى معادية.. وهى حرب بالوكالة ربما تؤديها أوكرانيا دون أن تدري.
دعونا نتوقف عند الحروب الجديدة أو حروب الإعلام ومحاولات فرض الرواية الواحدة أو انتصار الرواية الأخري.. خاصة وأن أمريكا فى هذه المرة لم تحتكر الإعلام.. ولم تستطع أن تفرض روايتها ولكن نجاح الروس وأعوانهم والكارهين لأمريكا والغرب.. قدموا الرواية الأخرى للعالم على عكس الرواية الأمريكية تماماً بل والرواية الأخرى أو الروسية.. نجحت فى كسب تعاطف وتأييد أغلبية شعوب العالم.
أريد أن أقول إننا فى العصر الحديث ان كل أنواع الحروب فى كافة المجالات والتخصصات ومناحى الحياة تمارس فى حرب واحدة هى الحروب الشاملة.
ما أريد أن أقوله فى السطور السابقة إننا أمام نموذج جديد للحروب والعلاقات الدولية وربما نحتاج كدول أن نتدرب فيها على دور ( روسيا) التى تتحمل ضغوطاً غير مسبوقة لعزلها تماماً عن العالم.. لكن ذلك لم ينجح حتى الآن.. نريد قراءة وتحليلاً وبحثاً لإجراءات معسكر أمريكا والغرب.. والإجراءات الروسية المضادة.
من الأفضل ألا نترك الأزمات الدولية تمر دون أن نستفيد من دروسها ونتائجها وكيفية التصدى لتداعياتها.. بل لابد أن نتدرب على أسلوب معايشة الأزمة الروسية- الأوكرانية ونعلم أبناءنا وشبابنا وعلماءنا فى الجامعات ومؤسسات التدريب والتأهيل على كيفية اتخاذ القرارات والقرارات المضادة.. وما هى أنواع الحروب والأزمات والاستهدافات فى الأزمة (الروسية- الأوكرانية) ومن يلعب دور أمريكا والغرب ومن يلعب دور أوكرانيا.. ومن دور روسيا ثم من يلعب دور الصين والهند.. ثم ماذا عن الدور الأممى ومجلس الأمن وكيف يدير ويدار؟.. وكيف تصدر القرارات الاقتصادية سواء فى شكل عقوبات لروسيا؟.. أو كيف تتخذ روسيا القرارات المضادة التى تتصدى لإبطال مفعول القرارات الأمريكية، اننا أمام دروس كثيرة.
أتمنى من الدكتورة رشا راغب رئيس الأكاديمية الوطنية للتدريب أن تتبنى مشروعاً بحثياً عن كل مكونات الأزمة الروسية- الأوكرانية وأطرافها الدولية.. والقرارات والممارسات والإجراءات.. والتحرك الأممى والدولي.. ثم من المهم ان تقوم الأكاديمية وأعتقد انها تعى ذلك ان تنفذ أو تجرى نموذج محاكاة يؤديه الشباب بعد دراسات وبحث مستفيض بحيث يؤدى كل شاب أو مجموعة من الشباب دور طرف معين سواء الطرف الأمريكي- الغربى أو الأوكرانى أو الروسى أو النموذج الأممى والدولى بمعنى ان كل الأطراف وإدارة مختلف الملفات سواء الملف الاقتصادى وكذلك الإعلامي.. وسقوط نظرية الرواية الواحدة.. وكيف يدار الإعلام فى زمن الحروب والأزمات؟.. وكيف يصل إلى الرسالة أو الرواية وكيف يواجه أكاذيب الإعلام المعادي؟.. وكيف يتصدى للحروب النفسية؟
ثم كيف يستغل شبابنا نتائج وما تتضمنه الأزمة الروسية- الأوكرانية من محاولات للكذب والتضليل والشائعات والفبركات ومحاولات تغييب العقول وتزييف الوعي.. ويستفيدون من نتائج هذه الأزمة وكيفية التعامل مع إجراءاتها ونتائجها وتداعياتها.. لذلك علينا رصد كل النتائج والتداعيات وحصر كل التفاعلات والقرارات وبالتالى يمكننا إجراء وتنفيذ نموذج محاكاة لكيفية التعامل والتعاطى مع هذه الحرب الشاملة وهى فرصة ثمينة لخلق أجيال وكوادر محترفة قادرة على اتخاذ القرار والقرار المضاد وعمل تقدير موقف بناء على معلومات حقيقية من أرض الواقع واتخاذ القرار الأفضل فى أقضل وقت ممكن فى كافة المجالات.
فى اعتقادى ان جميع المراكز البحثية والتعليمية فى هذه التخصصات عليها ان تتوقف أمام هذه الأزمة (الروسية- الأوكرانية) وقراءة مكوناتها.. وحاضرها ومستقبلها والتوقعات القادمة.. وماذا عن ملامح النظام العالمى الجديد.. وأبرز قادته.. وهل النموذج الحالى للعمل الدولى والمؤسسات الأممية سوف يستمر وهل يصلح مع النظام الجديد؟.. أم انه أصبح لا جدوى من الأمم المتحدة؟.. كل هذه الإجابات ستشير إليها نتائج الأزمة الروسية- الأوكرانية ولأى طرف سيكون النصر.
من المهم التدريب على كيفية التعامل الاحترافى والقرار فى أوقات الحروب.. سواء الحروب التقليدية وغير التقليدية- والإعلام والاقتصاد بحسابات لأن جميع الدول عرضة لمثل هذه الأزمات والاستهدافات وحتى لا تفاجأ وأن تكون هناك سيناريوهات وخطط ودراسات ونماذج جاهزة للتعامل وموجودة على الأرفف يمكن استخدامها فى مثل هذه الأزمات والحروب.
لا يجب أن نسلم أنفسنا للصدفة بل لابد أن تكون لدينا أجيال محترفة ومتمرسة على دراسة الواقع وجمع المعلومات وتقدير الموقف واتخاذ القرار الأفضل فى توقيت أسرع بل وتوجيه ضربات وقرارات استباقية.. لقرارات وإجراءات العدو.. وامتلاك القدرة على قراءة عقل العدو.. وبالتالى الاستعداد لإبطال واجهاض القرارات المعادية بشكل استباقي.
تحيا مصر