السبت 4 مايو 2024

(تَعَلّم من الصَّومِ أن تكُونَ حِرَفيًّا لِصَنْعَةِ الله)

مقالات18-4-2022 | 22:07

معلوم أنَّ الصَّانِعَ هو الذي يُوجِدُ أمرًا مَعْدُومًا .. وأمَّا الحِرَفيّ فهو الذي يقوم بصيانة الصنعة، ولمَّا كان الإنسان منا هو صَنْعَة الله (عز وجل) ، فإن المطلوب منا أن نكون حِرَفِيّين لهذه الصّنعة ، فُنُحْسِنُ صيانتها .وحِرَفيّة الصّنعة (أي صيانتها) تكون من خلال التزام الأوامر واجتناب النواهي القرآنية ، فالأوامر والنواهي الواردة في القرآن الكريم ليست تقييدًا لحركة الإنسان، وليست تضييقًا على الإنسان ، وإنما هي قوانين الصيانة (الحِرَفِيّة) ، هي قوانين لصناعة الجمال في الدنيا وترسيخ قيم الإنسانية والرحمة ، هي قوانين نُمْسِكُ من خلالها عن صناعة الشر والفساد والقبح ، هي قوانين تؤسس لقيم البذل والعطاء والسخاء والجود ، هي قوانين تدعوا إلى رفع الحرج وإزالة المشقة وصناعة المعروف وفقه الشعور بالآخر ، هيقوانين تؤكد على ثقافة المواساة والتراحم والتكافل والتعاون والتعاضد.


إن الحق سبحانه وتعالى قد وَهَبَنا جَوَارِحَ وطاقاتٍ وإمكاناتٍ وقدرات ، وسخّرها جميعَها لنا ، وهي عندنا أمانة أودعها الله (عز وجل) فينا ، فلنؤدِّ حَقَّ هذه الأمانة ، وأداء حقّها يكون بحفظها وصيانتها في الدنيا والآخرة ، أي حفظها وصيانتها من كل ما يكون سببًا في إيذائها أو إيلامها .


إن الصَّوم ليس فقط إمساكًا عن شهوتي البطن والفرج من طلوع الفجر وحتى غروب الشمس وانتهى الأمر ، وإنما هو أيضًا صيامٌ للجوارح كلها بحفظها عن كلِّ ما نهى الله (عز وجل) وحرّمه، فعَنْ أبِي هُرَيْرَةَ (رَضِيَ الله عَنْهُ) قال: قال رَسُولُ الله (صلى الله عليه وسلم) : "مَنْ لَم يَدَعْ قَوْلَ الزُوْرِ والعَمَلَ بِهِ والجَهْلَ فَلَيْسَ للّه حَاجَةٌ فِي أنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وشَرَابَهُ " . [أخرجه البخاري وأبو داود].


وعن جَابِر بْنِ عَبْدِ اللَّهِ (رضي الله عنه) قال : (إِذَا صُمْتَ فَلْيَصُمْ سَمْعُكَ وَبَصَرُكَ وَلِسَانُكَ عَنِ الْكَذِبِ وَالْمَحَارِمِ ، وَدَعْ أَذَى الْخَادِمِ ، وَلْيَكُنْ عَلَيْكَ وَقَارٌ وَسَكِينَةٌ يَوْمَ صِيَامِكَ ، وَلا تَجْعَلْ يَوْمَ فِطْرِكَ وَصَوْمِكَ سَوَاءً ) [شعب الإيمان للبيهقي].
ثم إن الغاية الرئيسة للصيام هي التقوى ، قال تعالى : 


والتقوى مأخوذة من الوقاية ، والوقاية معناها أن تأخذ حاجبًا أو حاجزًا أو مانعًا أو ساترًا ، ومن ثمَّ فالوقاية لا تكون إلا من شيء خطر، فأنا لا أقي نفسي مثلًا من طعامٍ طيب، أو من شيء يُدخل على قلبي السرور ما دام بطريق الشرع، وإنما أقي أنفسي مما كان خطرًا ، فأقي نفسي مثلًا من مكان مرتفع حتى لا أقع، أقي نفسي من النار حتى لا أُحرق، أقي نفسي من مادة سامة ، وهكذا .


فكلمة التقوى إذن مأخوذة من الوقاية ، والوقاية عند إطلاقها فإن أول تصور يتم استدعاؤه في الأذهان هو أن هناك شيئًا خطرًا يجب أن أقي نفسي منه .


إذن فالتقوى تحقق لنا معنى الحِرَفيّة ، لأنها تقي الإنسان من كل ما من شأنه أن يكون سببًا للإيذاء في الدنيا أو الآخرة، والتقوى لا تتحقق إلا من خلال تنزيه الجوارح عن كل ما نهى أو حرّم الله (عز وجل) ، فلنحكِّم قانون الصيانة لنا ولجوارحنا بحِرَفِيَّة استخدامنا لتعليمات الصَّانِع لنا وهو الله (عز وجل)، ولنحقق صيامًا عامًا لسائر الجوارح ، فنُنَزِّهَهَا عن كل قبح أو فساد أو شر .


وحينئذٍ سنجد أنفسنا أمام مجتمع مثالي، صانعًا للخير والجمال ، مرسخًا للإنسانية والمنطقية، يتعامل مع بعضه بقِيَم الأدب والاحترام ، يتعامل مع بعضه بأسلوب مهذّب بعيدًا عن الكلمة الخاضعة والعبارات التي تثير الآخر ، يتعامل مع بعضه بنظرات التوقير والإجلال والإكرام، والبر والوفاء والنبل، يتعامل مع بعضه بصيانة الأعراض، وما كان ذلك إلا بحِرَفية كلِّ إنسان منا لصنعة الله (عز وجل). 

Dr.Randa
Dr.Radwa