"القهوة عالم بحاله قايم، فيه اللى قاعد جنب اللي نايم، وفيه حكاوي وفيه عبر، وفيه تلاقى كل البشر، إذا كنت غاوى، وإذا كنت هاوى، تشوف وتسمع عن القهاوي، قرب و جرب و لو حكاية من حكاوي القهاوي".
من هذا العالم اتخذوا منهجا مختلفا بعيدا عن الفوازير والمقالب، ليشقوا الطريق في ماراثون شهر رمضان ببرنامج (قديمة جديدة)، وهو ماراثون تنافسي ضخم من مسلسلات وبرامج وإعلانات، والبقاء فيه لمن يجذب الجمهور نحوه طوال ثلاثين يوما دون انقطاع.
ولكل برنامج فكرة، وفكرتها كانت ضحكة صافية تخرج من قلوب البسطاء والمهمشين في لحظات نادرة، لتبحر من خلالها الإعلامية رشا الجمال، بمركب عتيقة من زمن كان كله جمال ورثته من الإعلامية سامية الأتربي، ليست لأنها والدتها فقط، وإن "ابن الوز" عوام، إنما لأن "سامية الأتربي" تركت مدرسة وبصمة خالدة في الوجدان، لما قدمته من قصص ونماذج رائعة، عبر برنامجها البديع "حكاوي القهاوي"، لتحيي الآن الوريثة والمبدعة الجديدة، حكايات يتغنى بها المراكبي وهو في حضن النيل بقاربه الصغير.
وخلال الأيام الماضية تابعت عدد من حلقات برنامج "حكاوي القهاوي" عبر فضائية "الحياة" قبيل أذان المغرب.. ومن اللحظة الأولى لمن يشاهد البرنامج يكتشف تميز "رشا الجمال"، في حديثها عن المهن والحرف التراثية وعن العادات والقيم المصرية الأصيلة الطيبة، فهي مذيعة خفيفة الظل، بهية الطلة.
وإن كنا نتحدث عن التميز فلا يمكن أن نغفل دور فريق عمل مكانه خلف الكاميرا يستحق أن نشيد به، وعملت في هذا المجال بضعة سنوات وأدرك جيدا مدي الجهد المبذول من فريق الإعداد بقيادة المتميز أحمد عطا الله، بداية من الفكرة حتي العرض الأخير، ومعه زملاء معدون متميزون.
فالحكايات كثيرة لكن الاختيار منها يحتاج عقولا واعية وعيونا خبيرة، فنوعية الأسئلة تتمحور حول الجانب الإنساني لأبطال يقفون على أطراف الحياة، بينما طبخ الخلطة كاتب سيناريو مبدع، هو الصحفي رحاب الدين الهواري، ليغزل بحروفه كلمات شعرية دافئة ومفعمة بالأحاسيس، ومعه الشاعر محمد إبراهيم بتجلياته الشعرية، منذ الكلمة الأول في البرنامج حتي السلام الختامي.
في حين أعجبني جدا فكرة عرض الصور أثناء عرض الحلقة، فرغم قصر وقت البرنامج، والذي لم يزد عن عشرين دقيقة، هي الوقت المحدد لعرض قصة واحدة، إلا أن التقاط بعض الصور من عدسة محترف وعرضها أثناء سرد القصة الرئيسية يعطي المشاهد الكثير من متعة التخيل والتأمل التي ليس لهم حدود، فالمشاهد لم يعد مثل السابق، يكتفي بما نريد إيصاله له، بل أصبح بفضل التكنولوجيا عليما ومشاركا في صنع المحتوي، ويمكنه التعبير عن رأيه بطرق كثيرة مباشرة، تصل لحد أن يصنع محتوي منافسا.
حتي التصوير والإخراج كان مميزا للغاية، فالصور كانت تنطق، وهو ما تعلمناه في الصحافة، أن الصورة تغني عن ألف كلمة، وبالصورة صنع فريق الإخراج محتوى قادرا على المنافسة سواء عبر الفضائيات أو عبر وسائل التواصل الاجتماعي المختلفة، ربما ساعدهم في ذلك قدرات "رشا الجمال" الإخراجية والمسرحية.
وإن كانت الإعلامية رشا الجمال تأخرت كثيرا في تقديم البرنامج، لأنها تخشي من مقارنتها بوالدتها الإعلامية الراحلة سامية الأتربي، أقول لها: أنت نجحتي في صناعة مريدين جدد لك.
ومن هنا أدعوها إلى تقديم برنامج أسبوعي بعد شهر رمضان، يحمل إلينا في كل حلقة طقس ولون من التراث الشعبي والفلكلور المصري الغني، التي لا يمكن حصره في عشرات من الحلقات، فمن شلاتين إلى بلاد الدهب النوبة إلى واحة سيوة إلى نجوع الصعيد وأرض الفيروز سيناء إلى السمسمية في مدن القناة، ومنها إلى كفور الدلتا.
كذلك أدعو كل القنوات والمنتجين إلى تقديم محتوي هادف ليس شرطا أن يكون مكلفا إنتاجيا، فالمشاهد ليس مغيبا كما يعتقد البعض، بل هو أذكي مما تتصور ويمكنه الفرز والاختيار بين الجيد والرديء.
فكما أحب الجمهور من قبل "حكاوي القهاوي" عندما كانت تقدمه سامية الأتربي، ويخرجه عمر أنور ويعده يحيي تادرس، أحب الجهور الآن حكاوي "رشا" مع عم محمد، عمدة الصيادين والمراكبية، وحبه للقوارب وهي تبحر وسط النيل.
كما أحب حكاية محمود لبيب حلاق المشاهير، وحكاية الحاج مصطفي، الذي قضى 50 عاما في تصليح "الكور الكفر"، ومنه إلى الفتونة وحكاية عم سعد فتوة الجمالية.
ومن الجمالية إلى الصعيد الجواني وحكاية التحطيب والمرماح بقرية الشيخية في محافظة قنا، وغيرها الكثير من حكاوي القهاوي المعجونة بطيبة أهل المحروسة من شمالها لجنوبها.