الجمعة 19 ابريل 2024

مأْساة مي زيادة في جحيم مستشفى العصفورية للأمراض العقلية

مقالات7-5-2022 | 22:44

انقطعت رءوس أناملي عن الكِتَّابة لمدة شهرين متتالين؛ ربّما السبب ملل، وانعدام الرغبة في ممارسة فعل الكتابة، والتفكير الزائد عن الحدّ، ففي الغالب يشعر الكاتب أو الباحث بالضيق لتكرار يومه بالروتين نفسه الخانق، لكنّي في هذا النهار المُشِمس على سماء القاهرة عُدت للإبحار في عمق الحروف، فمنذ شهر تقريبًا تذكرت رواية ليالي إيزيس كوبيا "ثلاثمائة ليلة وليلة في جحيم العصفورية" لكاتبها الجزائري واسيني الأعرج، لا أعلم لماذا تذكرتها ليلة 13 إبريل تحديدًا الساعة الواحدة والنصف بعد منتصف الليل؟ تلك الرواية قد أعطاها لي واحدٌ من القراء في أثناء زياراتي لمعرض القاهرة الدولي للكتاب للسنة نفسها لمتابعة آراء القراء حول مجموعتي القصصيّة، ربّما جذبنى الحزن الأخاذ في عيني مي زيادة، أو ربّما تُنادينا وتسحبنا الأرواح للعوالم الأخرى مثلمّا نادت الأعرج، لعلها رغبة في إظهار الحقيقة المُطمسة أو رغبة في إِنصاف هذه الروح المذبوحة الموجوعة من أقرب الناس لها تقول ميّ زيادة: "أتمنّى أن يأتي بعدي من يُنصفني". 

أضف لِمَا قدمته أنني في أثناء كتابتى لتلك المقالة، قمتُ بتشغيل موسيقي فردريك شوبان وبالأخص مقطوعته "ذكريات الماضي" تلك المعزوفة التي تعشقها الكاتبة مي زيادة، هنا سألت  نفسي : ماذا أعرف عن الراحلة مي أو إيزيس كوبيا؟ وجدتُ إجابتى عبارة عن عملية ديناميكية تَنُّم عن الحفظ لبعض المعلومات التاريخية لظروف نشأتها وما إلى ذلك، لكن عنها بوصفها امرأة تعرضت للظلم والاتهام بالجنون لم أجد إلا بحرًا خاويًا على عروشهِ! أخذت أبحث على محرك البحث جوجل لعليِّ أجد من كَتَب عن روحها لا عن عقلها الذى ظُلم، لكنى خشيت أن أضل الطريق، فقررت قراءة العمل، وحاولت قدر الإمكان تذكير نفسي والقراء بــ مارى إلياس خوري زيادة: الشاعرة والأديبة الفلسطينية التي ولدت في الناصرة، وتربت بحي شحتول في بيروت، وعاشت مراهقتها في مدرسة راهبات العينطورية، وتعرضت لهتك حُرمة الطفولة في أحضان هيلينا "الأم" التي عشقت ماري مثلما وقع في عشقها الكثير، لكنها ظفرت ببعض اللمسات حيث جسدها الناعم. 

"يصفو قلبي من كلّ غيم. أراها بكلّ ملامحها، لا أدري ما الذى أيقظها فيّ؟ ربّما أصابعها الناعمة، وجسدها الحيّ، شعرت بها فيّ، أقرب من همسة أو لمسة، بل إنّي شممت فيها عطر صديقتي في عينطورة، هيلينا، التى تكبرني كثيرًا"، رغم ذلك لا أعرف ما سبب ذكر تلك العلاقة بين هيلينا والكاتبة مي زيادة؟!، خصوصًا أن العلاقة محرمة جسديًا وروحيّا، ثم أنني لا أجد فيها أي إنصاف لحياتها؟! بل من الممكن أن تؤدي لنفور بعض القراء من حياتها الحميمة التى لا تخص أحدًا من قريب ولا من بعيد! لكن يبدو أن الأعرج أراد أن يكشف لنا خطة بحثها عن الأمان، فمنذ كانت صغيرة أفقدتها الدنيا معنى السعادة وحنين القرب العائلي، كانت بين أحضان من يمتص رحيقها، في النهاية هي واحدة من رواد وأعلام النهضة الأدبية البارزين في تاريخ الأدب النسوي العربي في النصف الأول من القرن العشرين. دافعت مي زيادة عن المرأة، ولم تجد واحدة تنصفها، وتكتب عنها بل قتلت بدماءٍ باردة وهي داخل جدران العصفورية، أَقرت أن الجميع خذلها، وشاركوا في قتلها، حدثت نفسها عن المجتمع الذى يدعي الحداثة والانتصار للمرأة أنه مازال متمسكًا بعاداته وتقاليده، بل يُرخي قبضة يده وقت الأزمات:

"ماذا يعني أن تكون مثقَّفًا في مجتمع يشرب التخلُّف في كل ثانية، ويأكل نفسه بلا توقُّف؟"، إضافة إلى ذلك لم تتهم المجتمع الثقافي فحسب، ولكنها صرحت بالذكوريّة الظاهرة الواضحة في كلِّ من ضحى بها؛ ليجعلها سجينة التعذيب داخل جدران العصفورية، فما فائدة الصالونات الثقافية؟ والمنادأة بحرية المرأة؟! وهم من تركوها تغرق داخل هذا العذاب:

"لا أحد منهم كان قادرًا على رؤية نفسه في مرآة العمر الهارب، تجده مزهوًّا بثقافته التي وضعته في الصفوف الأولى، وذكورته السخيِّة". 

هُم من ذبحوها – أعلام الثقافة والأصدقاء المزيفون- لكنها في تلك الأوقات كانت تُناجي نفسها داخل ثناياها أو على الطاولة التى جاهدت كل من في العصفورية لتحصل عليها؛ لأن الكِتَّابة في ذلك الوقت كانت ملاذها الوحيد وسط النار التى تأكلها كالهشيم؛ لعل السماء تنزل الرحمات على قلوب من اغتصبوا سذاجتها وبراءتها: "كانَ والدي يقولُ لي دائماً:
كُلّما أُصِبتِ بجرحٍ تصعبُ مقاومتُه، اخرجي من دائرتِه، اذهبي نحو أماكن ومساحات خاليّة من البشر، بها الأرضُ والسماءُ فقط والأرواحُ الصّامتة، وارتاحي ولا تُفكري في أيّ شيءٍ". 

ولدت ماري إلياس زيادة، في الناصرة بفلسطين عام 1886، لأب لبناني وأم فلسطينية، ارتحلت مع والديها إلى مصر، واستقرت هناك بعد أن عمل والدها محرِّرًا صحفيًا ومترجمًا، استطاعت إتقان العديد من اللغات كالإنجليزية، والفرنسية، والألمانية، والإسبانية، والإيطالية، والعربية، كما درست وطالعت كتب الفلسفة، والأدب، والتاريخ العربي والإسلامي، فمن أكثر الأعمال التي نجد فيها روح مي ترجمتها لــ "ابتسامات ودموع"، حيث ترجمتها بكُلّ أحاسيسها لمكس ميلر، وحيث الإهداء الذي من الممكن أن يشعر فيه القارئ بنوع من أنواع الوحدة والكآبة والأسى التي تشعر بها، حيث أهدت قائلة: "إلى العينين اللتين أطبقهما الموت قبل أن ألثمهما، إلى الابتسامة التي لا أعرف منها إلا خيالها، إلى الاسم العذب الذي لا تهمس به شفتاي دون أن تملأ عيني الدموع، إلى الطفل الذي رحل إلى خالقه، ويتم فيّ عاطفة الحب الأخوي فحرمني من حنو الأخ وقبلته وابتسامته ودمعته، إلى أخي الوحيد الذي تقاسمه الأثير والثرى". 

انفتحت على أجواء النهضة الثقافية والحضارية في القاهرة، كانت تعقد ندوة أسبوعية باسم «ندوة الثلاثاء»، وكان يحضرها الكثير من فحول عصرها من أدباء وشعراء ونقاد، وكان من أبرزهم: أحمد لطفي السيد، وأحمد شوقي، وعباس العقاد، وطه حسين، وشبلي شميل، ويعقوب صروف، وخليل مطران، ومصطفى صادق الرافعي، وغيرهم، وقد أغرم الكثير منهم بمي، إلَّا أن قلبها لم يمل سوى لشخص واحد هو "جوزيف زيادة " ابن عمها الذي حجر عليها، وكان سببًا في الغدر بها، وإلقائها في العصفورية، كان هو حبّها الأول قبل أن  يتزوج تلك المرأة الفرنسية؛ ليحصل على الجنسية لتسهيل المعايشة عليه بفرنسا. قالت عنه في مخطوطتها التى كتابتها داخل سجن العصفورية :" الحبّ الأول، موتٌ بطيء يظلُّ حيّا.  لم يكن جوزيف في النهاية إلا آلة للموت.

مع أنه كان أول حب، ولا أعتقد أن رجلًا واحدًا غيره، استطاع فك زنّاري، وألبستي السوداء الثقيلة التي ما يزال بها عطر الكنائس والأديرة، ولمس ارتجافات جسدي الغض، كان كلما مدّ أصابعه الأنيقة، شعرت باشتعال يحتلّ كل داخلي.  كان جوزيف يصنع لي سجن الحب الأول.  حب لا ينسى، ويستمر فينا حتى يحرقنا ويحولنا إلى رماد، لا أحد يستطيع لملمته.  حب الحيرة الذي يحولنا إلى عبيد حقيقيين، لا نحن قادرين على التخلص منه، ولا هو قادر على أن يتركنا نمضي في سبيلنا. العقل يقول كراهيته للذي باعنا بامرأة أخرى، والقلب يلصقنا به. نتزوج انتقاما أحيانا، ونمضي في سبيل الحياة، ونظن أن كل شيء انتهى". 

كان الكثير يظن أن  جبران خليل جبران هو الحب الأول لها، لكنه كان بمثابة الأخ، وطوق النجاة، ورفضت أن تكون رقمًا ضمن نسائه الكثيرات؛ لأنها كانت معشوقة كلّ رجل اقترب منها أو جوارها لثوانٍ معدودات، كانت سيدة المواقف وأميرة القلوب، لكنها رغم ذلك ظلت مأخوذة به طوال حياتها، وتبادلا الرسائل مدة عشرين عامًا برغم أنهما لم يلتقيا ولو لمرة واحدة! وكانت تقر ذلك للعقاد الذي وقع في حبها لكن عقلها كان أكبر من القوى الجامحة لجسدها: "حظّه وضعه مع مثقفة لا تنفعه كثيرًا في الفراش!". 

نشرت مي زيادة أو كما أحبّ أن أُنعتها "إيزيس كوبيا" العديد من الكتب، تأليفًا وترجمةً، ونشرت أول ديوان شعر بالفرنسية تحت اسم "أزاهير الحلم"، وصدر لها بالعربية مجموعة كتب: ﮐ "باحثة البادية"، و"كلمات" و"إشارات"، و"المساواة"، و"ظلمات وأشعة"، كما ترجمت ثلاث روايات منها رواية "ابتسامات ودموع" لمكس مولر، بالإضافة إلى ذلك، نشرت العديد من المقالات والأبحاث في كبريات الصحف والمجلات الأدبية والفكرية مثل: المقطم، والمحروسة، والزهور، والأهرام، والهلال، والمقتطف. 

ما قصة ماري مع مستشفى العصفورية؟ 

كانت العصفورية جحيم العصفورة الشرقية ماري، فبعد وفاة والدتها وأحبابها أُصيبت بانهيار عصبي حاد، فاستغل حبيبها الأول "جوزيف" حالتها، وجعلها توقع على أوراق تجعله الوصي على جميع ممتلكاتها، الجميع كان طامعًا فيها، كانت ماري فريسة سهلة أمام أنياب أقاربها الذين خذلوها، سافرت بعدها للبنان، وما إن وضعت أقدامها على أرض بيروت حتّى زُجّ بها داخل غرفة المصحة العقليّة بالعصفورية حيث تعرضت لظلم الممرضة "شوكت" لأن قلبها كان خاليّا من الرحمة. خدعت مي زيادة فيمن حولها فقد تركوها وحيدة، في ذلك المنفى غير الرحيم: "مستشفى العصفوريّة للأمراض النفسية والعصبية:
للعصفورية تاريخٌ طويلٌ، هي أول مصحّ نفسي للأمراض العقليّة في لبنان.  

تغيرت جهة استعمال العقار في سنة 1972، حين استكملته شركة Geffinor جينفور لإنشاء مدينة سكنيَّة عليه، بدأت آنذاك مجزرة المباني التاريخيّة التي أخليت من المرضى، وامتدت عمليَّة التفكيك خلال الحرب الأهليَّة، وكان كل من أراد البناء في المنطقة، يجد في العصفوريّة ملاذه من الحجارة وأدوات البناء المهملة.  

لم يبق من المباني إلا ثلاثة مبانٍ: 

أكبرها، إدارة المستشفى، الثاني والثالث كان المرضى يقيمون بهما، شُيّد المبنى الأساسي نهاية القرن التاسع عشر، وبداية القرن العشرين، وقد بُني بالحجر الأصفر، وغُطِّي سقفه بالقرميد".  

الأصعب أنها فكرت في الانتحار أكثر من مرة؛ بسبب المعاملة التي كتبت عنها بكل ما أوتيت من صدق في مخطوطتها التي وقعت في يد الأعرج الذي برع في توصيف حالة "زيادة" حتى أننى شعرت أنه وقع في غرامها، فالكلمات تفضح صاحبها وتكشف عمّا يدور في خاطر: "لاشعوريا، بدأت أفكر في الانتحار، الحل الوحيد الذي كلما انغلقت السبل، انتابني كما الغيمة الهاربة بلا خوف.  

مثل العميان الذين فقدوا أي أمل في البصر، أتفرس الوجوه والحيطان، معتمدة أكثر على حاسة شمي وملامسي.  

لا أدري ماذا حدث لي البارحة في عز النوم؟، صرخت كثيرًا حتى آلمني دماغي، ليس من الألم ولكن من شيء غامض كلما حاولت فهمه، لا أدري من أين جاءت تلك اليد الخشنة وحملت تمثال قبلة رودان التي جئت بها من إيطاليا ايام محنتي القاسية، ملء ذراعيها وضربتها عرض الأرض حتى تحولت إلى قطع صغيرة". 

في حقيقة الأمر لقد عاشت الاثنى عشرة سنة الأخيرة من حياتها في مأساة حقيقية، حيث فقدت ثلاثة من أقرب الأشخاص إليها واحدًا تلو الآخر، أولهم أخوها الأصغر سنًا، ثم والدها الذي توفي عام 1929، وحبيبها الأدبي جبران خليل جبران الذي تلاه في عام 1931، وأخيرًا والدتها التي فارقت الحياة بعده بعام، هذه الآلام جعلتها تُصاب بالانهيار العصبي؛ ما جعلها لقمة سهلة المضغ تحت أنياب ابن عمها "جوزيف" لتقضي وقتًا طويلًا هناك في "مستشفى العصفورية" مستشفى للأمراض النفسية، خرجت بعد مساعدة الأوفياء لها سوزان "بلوهارت"، ورجل الأعمال المؤمن بها مارون الغانم، والباقي ممن نصفوها من الصحافة؛ مثل: جريدة "المكشوف" بعدما اغتالها الجميع معنويًا، وتخلى عنها أقرب الكُتَّاب ممن كانوا يجلسون في "صالون الثلاثاء"! خرجت بعد ذلك، وأقامت عند الأديب أمين الريحاني عدة أشهر عادت بعدها إلى مصر، وأجرت مكالمة مع طه حسين ردت فيها جزءًا من اعتبارها حيث ذكرته بموقفها معه أثناء ضجيج أزمة كتابه " الشعر الجاهلي"، وجاءت النهاية لتموت بالقاهرة في 1941، تاركةً وراءها إرثًا أدبيًّا متميزًا، ووجعًا سيجعلني أبحث عنها ما حييت" لا حلم لي سوى أن أتحول إلى طابع بريدي. 

صغرت أحلامي إلى درجة التلاشي، لا أحلم بشيء آخر سوى أن أتحول إلى طابع بريدي يسافر بلا ثمن ولا ادعاء ولا خوف، على ظهر رسالة، أرى كل شيء من حولي وأعيش صمتي كما اشتهيته دومًا، لقد قتلوني، وصلوا حتى الروح وجرحوها بمطوى حاد اسمه الجنون.

"في النهاية، أن الأهم من فكرة الرواية هي الرسالة الإنسانية التي تُقدمها للقارئ، والمجتمع، والعالم، أظن أنها أرقى الرسائل التي يقدمها الإبداع الأدبي".