السبت 18 مايو 2024

"جرجي حبيب زيدان" صانع الأحذية الذي بنى صرحا للصحافة، والثقافة في مصر


جرجي حبيب زيدان

مقالات12-5-2022 | 13:40

د.أمير شبل

يأتي الأول من مايو من كل عام ليحتفل العالم كله بعيد العمال.. فتبدأ الأوطان في تذكر رموزها العمالية التي حققت نجاحات على مر تاريخها.. للاحتفاء بها وبما حققته في مجالها.. ولكن تظل هناك قائمة لحالات خاصة شديدة التميز انتسبت خلال عمرها لطبقة العمال.. ثم انطلقت ونجحت وكبرت في مجال آخر، بل وصنعت فيه تاريخا ومجدا لا ينتهي.. 
عند استعراض تلك القائمة سنجد اسما مضيئا لصانع الأحذية اللبناني الذي هاجر إلى "مصر" ثم أسس فيها صرحا للصحافة، والثقافة والأدب.. إنه "جرجي حبيب زيدان" ذلك الإنسان العبقري متعدد المواهب "الكاتب، الشاعر، الصحفي، المدرس، الروائي، المترجم، المؤرخ" الذي أسس ملتقى عمالقة الأدب والفكر والثقافة في مصر "دار الهلال". والتي صارت واحدة من أهم الصروح الأدبية والثقافية في مصر، بل والوطن العربي كله.
ولد في 14 ديسمبر عام 1861، في قرية عين عنب بجبل لبنان، لأسرة مسيحية فقيرة، وكان له خمسة أخوة. عانت أسرته من فقر وظروف صعبة ساعدت في تشكيل شخصيته ليستطيع الصمود أمام عثرات الحياة في مستقبله، ليصبح "جرجي زيدان" الذي لا يجهله أحد اليوم.
كان والده يملك مطعماً صغيراً في تلك القرية يتردد عليه الأدباء والمثقفون والطلاب من بيروت فاحتك بالمتخرجين من الكلية الأمريكية وبعض رجال الصحافة وأهل الفكر والأدب مثل "يعقوب صروف" و"فارس نمر" و"إبراهيم اليازجي" و"سليم البستانيط" وغيرهم مما أثر على ثقافته وميوله الفكرية وازدياد رغبته في الاطلاع والتعلم. 
أرسله والده إلى مدرسة بسيطة حتى يتعلم ويساعده في إدارة المطعم، ومعالجة الحسابات، وكان محبا للتعليم ويتعلم بسرعة، فالتحق بمدرسة "الشوام" وهناك أتقن اللغة الفرنسية، ومن ثم التحق بمدرسة أخرى مسائية واستطاع أن يتعلم اللغة الإنجليزية. طلبت والدته من أبيه أن يعلمه صنعة أخرى غير العمل في مطعمه، فأرسله لتعلم "صناعة الأحذية" وهو في عمر الثانية عشرة وظل في تلك المهنة لعامين ثم تركها لرغبته في استمرار التعلم.
التحق بالكلية البروتستانتية المعروفة باسم "الجامعة الأمريكية" ونجح في اختبارات القبول لكلية الطب، وبعد دراسته لمدة عام ترك  دراسة الطب واتجه لدراسة الصيدلة، ثم قرر السفر إلى مصر.
هاجر إلى مصر والتحق بكلية الطب.. لكن ظروفه المادية جعلته يبحث عن عمل. فعمل في تحرير "جريدة الزمان" الجريدة الوحيد في القاهرة بعد أن أوقف الاستعمار الإنجليزي صحافة ذلك العهد، وكان يملكها رجل أرمني الأصل. 
عمل زيدان "مترجمًا" في مكتب المخابرات البريطانية بالقاهرة ومنه سافر للسودان في مهمة عمل، ثم عاد بعدها لبيروت عام 1885 وانضم للمجمع العلمي الشرقي الذي أُنشئ عام1882  وتعلم اللغة العبرية والسريانية مما مكنه من تأليف أول كتاب في فلسفة اللغة العربية عام 1886 ثم أصدر منه طبعة جديدة منقحة عام 1904 بعنوان "تاريخ اللغة العربية". 
أسس النافذة الحقيقية التي أطل منها على عالم الثقافة والفن والأدب.. ألا وهي الصحافة بالمشاركة فى تحرير صحيفة "الزمان اليومية" لصاحبها "علكسان صرافيان" سنة 1884، وأدار أعمال "مجلة المقتطف" التى صدرت منذ سنة 1876 حتى 1952، وذلك فيما بين مايو 1886ـ 1888، وعمل بالتدريس في مدرسة "العبيدية الكبرى" لمدة عامين.. 
لشغفه الفكري والثقافي لم يكتف بذلك.. بل انطلق إلى مجال النشر، فأنشأ سنة 1891"مطبعة التأليف" مع مواطنه "نجيب مترى" المتوفى سنة 1928، والذى أسس دار المعارف سنة 1892، ولما انفضّتْ الشراكة احتفظ "جرجى زيدان" بالمطبعة، وأسْماها "مطبعة الهلال"، لتستمر حتى الآن فى "دار الهلال". 
أصدر "مجلة الهلال" ثقافية شهرية سنة 1892، والتي حملت أقلام مشاهير العصور من عمالقة الأدب، والفكر، وأصبحت من أوسع المجلات انتشارًا خلال خمس سنوات. 
رأس تحرير "دار الهلال" حتى وافته المنية بين كتبه، ومن بعده رأس التحرير كثيرٌ من عمالقة الفكر مثال: "إميل زيدان"، و"شكري زيدان" و"علي أمين"، و"فكري أباظة"، و"صالح جودت"، و"أحمد بهاء الدين"، و"مكرم محمد أحمد"، و"أمينة السعيد"، و"حسين مؤنس"، و"علي الراعي"، وغيرهم من الذين واصلت بهم "دار الهلال" مسيرتها فى صناعة الصحافة الأدب والثقافة والقصة حتى الآن لتظل من أعظم الصروح والنوافذ الصحفية والأدبية الثقافية في مصر والعالم العربي على مدار أكثر من قرن.
أصدرت "دار الهلال" منذ نشأتها، العديد من المجلات العريقة.. والتي تناولت بحرفية كل المجالات الاجتماعية والثقافية والفكرية والفنية والصحية.. وما يهم كل طبقات المجتمع وأطيافه.. ومنها: 
"الاثنين والدنيا": لطرح موضوعات لعلاج المشاكل الشبابية، بمزج ما بين النقد والتوجيه والروح الخفيفة، وتوقفت عن الصدور نهائيًّا في عام 1961.
"مجلة حواء": مجلة نسائية أسبوعية تختص بأمور المرأة والأسرة. تأسست على يد أهم رائدات الحركة النسائية في مصر "أمينة السعيد" وكانت أول رئيس تحرير ولها عمود أسبوعي خاص. صدرت منذ عام 1954 إلى 1969م.
"مجلة المصور": واكبت منذ صدورها الأحداث التي شهدتها مصر والوطن العربي بالتسجيل والتوثيق بالكلام والصور معًا.
"مجلة الكواكب": تتناول أهم الموضوعات على الساحة الفنية.
"مجلة سمير": مجلة أسبوعية مصرية للأطفال، من رواد أدب الطفل.
"مجلة ميكي": كانت تصدر بترخيص خاص من شركة والت ديزني، وتوقفت عن إصدارها في عام 2003 .
"مجلة توم وجيري": تعتمد على قصص الكارتون مثل توم جيري، وسكوبي دو، وغيرهم.
"مجلة طبيبك الخاص": مجلة مصرية شهرية تختص بالأمور الطبية والصحية.
خلال حياته زار "جرجي زيدان" عدة بلاد وسجل عنها مشاهداته وملاحظاته واعتبرت محطات في حياته.
زار "السودان" كمترجم عندما كان يعمل مع مكتب المخابرات البريطانية، زار "فلسطين" فى صيف سنة 1913م، وعاد لينشر فى «الهلال» مشاهداته وملاحظاته خلال تلك الرحلة في عدة أعداد عن الهجرات اليهودية المتزايدة وما تقوم به الجمعيات الصهيونية هناك من شراء مكثف للأراضى وبناء المستعمرات. زار "أوروبا" أكثر من مرة وأصدر عنها كتابا. زار "تركيا" سنة 1908م بعد خلع السلطان عبد الحميد، ولم تنل تلك الزيارة من اهتمامه ما نالته رحلته إلى فلسطين.
كان "جرجي زيدان" يعد علامة بارزة في الصحافة المصرية، وكان سابقا لعصره وأحد رواد صناعة الصحافة في الوطن العربي بتوفير كل ما تحتاجه تلك الصناعة من تحرير، وطباعة، ونشر، وتوزيع.. لتستقر وتنمو. 
قال عنه "يوسف الخازن": "المزايا الصحافية التي امتاز بها زيدان، وكانت السبب في هذا النجاح الباهر هي حسن الإدارة واختيار المباحث وسهولة الإنشاء، وقال عنه "محمد حسين هيكل باشا": كان أسلوب جرجى زيدان أسلوباً صحفياً لا يمتاز بمتانة الديباجة ولا بروعة البيان، وإن كانت فيه بساطة ويسر يجعلانه قريباً من أفهام الناس جميعاً، هذا وذاك- الأسلوب والطريقة- يرسمان لنا صورة من جرجى زيدان الصحفى المؤرخ القصاص. 
تنوع ثرائه وتراثه الأدبي بأعمال مختلفة في مجالات الصحافة، والتاريخ، واللغة، وأدب الرحلات، والرواية التاريخية التي كان فيها رائدا باقتدار حيث أبدع منذ سنة 1894 أكثر من عشرين رواية تاريخية بمستوى فني متميز، طبعت طبعات عديدة، وشاعت فى أرجاء المعمورة بين أيدى قرّاء العربية، وتداولها أجيال متتابعة فى أرجاء الدنيا، وأحدثت صدى واضحا لدى الدارسين.. 
قال عنه "د. يوسف نوقل" كان رائدا للرواية التاريخية في عصره حيث كان همُ الريادة حلْما لجيل بأكمله في جميع الأقطار. وأطلق "أنيس الخورى المقْدسى" عليه لقب (إمام هذا الفن). وقال عنه "سهيل إدريس": انه ودون منازع، خالق الرواية التاريخية. وقال عنه الدكتور "طه حسين": إن جرجى زيدان هو الذى نقل إلى الأدب العربى مذهبا من مذاهب الأدب الأوروبى ... وهو القصص التاريخي.
كان صادقًا وثابتًا ولطيف الحديث مع كل الناس، ولا يلتفت إلى ما يقال عليه من نقد، بسيطًا فى جميع أعماله. اتسمت كتاباته بالبساطة فى استخدام المفردات والتراكيب ليفهمها القراء على اختلاف درجاتهم وطبقاتهم، وهو أيضا أول من استخدم الرواية لسرد التاريخ، ولترغيب القراء فى حب التاريخ. قال عنه "المنفلوطى": كنت أقرأ ذلك الأسلوب العذب الذى يكتب به فأتخيله مرآة نقية، قد ارتسمت فيها نفس الكاتب، جليّة واضحة لا غموض فيها.
كتب زيدان العديد من الأعمال الأدبية البارزة في مجالات التاريخ، واللغة، وأدب الرحلات، والعديد من الروايات. قال عنه "العقاد": إن جرجى زيدان من كتاب ما يسميه هو بالحاسة الاجتماعية ونسميه نحن بكتاب الاستواء والطبع السليم، تقرأ "جرجى زيدان" فى جميع موضوعاته فإذا هو مطبوع بطابع السداد والاستقامة والاستواء، هى جدول وليست بشلال وهى بنت الدوام وليست بنت اللفتات واللمحات. 
أثرى "جرجي زيدان" المكتبة العربية بالكثير من الكتب والروايات والمباحث.. فكان من أهم ما كتبه: 
في التاريخ: "العرب قبل الإسلام" و"تاريخ التمدّن الإسلامي" و"تاريخ مصر الحديث" و"تاريخ الماسونية العام" و"تراجم مشاهير الشرق".
في اللغة وآدابها: "الألفاظ العربية والفلسفة اللغوية" و"تاريخ آداب اللغة العربية" و"اللغة العربية كائن حي". 
في أدب الرحلة: كتاب "الرحلات الثلاث "الأستانة - أوروبا - فلسطين".
في العلوم الطبيعية: "علم الفراسة الحديث". 
سلسلة روايات تاريخ الإسلام: "فتاة غسان" و"أرمانوسة المصرية" و"عذراء قريش" و"17 رمضان" و"غادة كربلاء" و"الحجاج بن يوسف" و"فتح الأندلس" و"شارل وعبد الرحمن" و"أبو مسلم الخراساني"  و"العباسة أخت الرشيد" و"الأمين والمأمون" و"عروس فرغانة" و"أحمد بن طولون" و"عبد الرحمن الناصر" و"محمد على" و"عذراء قريش" و"غادة كربلاء" و"فتاة القيروان"  و"صلاح الدين ومكائد الحشاشين" و"شجرة الدر" و"الانقلاب العثماني"  و"أسير المتمهدي" و"المملوك الشارد" و"استبداد المماليك" و"بيت القصيد" و"جهاد المحبين".
ترجمت روايات  زيدان إلى لغات عدة مثل، الفارسية والتركية والأذربيجانية، ولم يتناول في كتاباته  الفترات المشرقة من التاريخ الإسلامي وإبراز أمجاده، ولكنه اتجه إلى فترات الصراع على السلطة والنفوذ.. وكان متأثرًا بنظرة الغربيين للعالم الإسلامي، لذا لم يسلم من النقد شكلًا ومضمونًا.
وافته المنية بغتة وهو بين أوراقه عند الساعة الحادية عشرة مساء 21 يوليو 1914م، دون شكوى من علة ولا مرض. رثاه عند وفاته شعراء كبار منهم "حافظ إبراهيم"، و"أحمد شوقي"، و"خليل مطران"..
كان موكب جنازته احتفالا يليق بقدره، فسار من منزله بشارع الظاهر يتقدمه رجال البوليس الفرسان والمشاة وحملة الأكاليل الكثيرة ولفيف الكهنة الأرثوذكس وبساط الرحمة يحملها ثمانية وجهاء، ومركبة النعش يجرها ستة من الجياد، ثم نجلا الفقيد وإخوته وأصدقاؤه وجمهور المشيعين يتقدمهم أحمد حشمت باشا، وساروا على هذا النمط حتى ساحة الأوبرا حيث ركبوا السيارات إلى مقابر مصر العتيقة.
غاب عنا وما غابت مآثره.. ونقول له: ستظل معنا ولن ننساك أبدا مادام صرحك "دار الهلال" قائم بيننا.

 

الاكثر قراءة