الأربعاء 15 مايو 2024

الاختيار – الدراما التاريخية والوثائق المصورة


د. جمال شقرة

مقالات12-5-2022 | 13:50

د. جمال شقرة

أثار مسلسل الاختيار- ولا يزال – كثيرا من الجدل بين هجوم الخلايا الإخوانية الخاملة، وقوى الثورة المضادة من ناحية وبين استحسان الوطنيين أيا كانت توجهاتهم الأيدولوجية.

 

من ناحية أخرى تهاجم الخلايا الإخوانية المسلسل لأنه فضح الجماعة كجماعة إرهابية خائنة لتراب مصر المقدس، وفي نفس الوقت لعل أشد ما أثارهم وأزعجهم وأثار حنقهم، سلاسه ومنطقية العرض، والتوثيق الذي اعتمد على الفيديوهات التي نقلت بالصوت والصورة وقائع إدانة قادة الجماعة وكوادرهم، وهي وقائع باتت في حكم التاريخ، وأضاعت عليهم فرصة ( تزييف الحقائق حول ثورة 30 يونيو ) وهي عادة قديمة عندهم، حيث احترفوا تقديم تاريخ مزيف لعلاقتهم بالدولة والقوة السياسية على مختلف مشاربها، ولعل من يراجع مذاكرات الحرس القديم للإخوان حول موقفهم من ثورة 23 يوليو يكتشف كما هائلا من التزييف والخلط والافتراء على الحقائق.

 

الحقيقة إن مسلسل الاختيار، فتح الباب على مصراعيه لمناقشة كثير من القضايا لعل في مقدمتها، أهمية الدراما التاريخية وموقف كاتب النص والسيناريست من الحقائق التاريخية والظروف الموضوعية التي أحاطت بها، ومن ذلك أيضا قضية الوثائق وأهميتها والفرق بينها وبين كتب المذكرات والذكريات والشهادات التاريخية، ومن ناحية أخرى أثار من جديد مسألة المستشار التاريخي للأعمال الدرامية والفرق بينه وبين المراجع التاريخي للنصوص الدرامية.

 

إن الدراما التاريخية هي أحد فروع فنون الدراما التي عرفتها الحضارات القديمة، حيث يحكي هذا النوع قصصا تاريخية تعتمد على الفصل بين زمنين، زمن تأليف النص والزمن الذي وقعت فيه الأحداث التاريخية، ومن هنا يولد النص الدرامي من رحم العلاقة الجدلية بين الماضي والحاضر، معنى هذا أن كاتب الأعمال الدرامية التاريخية يستحضر وقائع التاريخ وعليه ان يكون دقيقا وعلى درجة كبيرة من الوعي بأنه يؤلف عملا إبداعيا هو في الحقيقة مستوحى من نص تاريخي، لذلك يجب أن يدقق المعلومات التي تتعلق بالمكان الذي وقعت فيه الأحداث فالجغرافيا هي مسرح الأحداث التاريخية، فلا يجوز أن يكتب على سبيل المثال أن الطائرات الأمريكية ضربت جزيرتين يابانيتين غير هيروشيما وناجازاكي، ولا يجوز أن يكتب أن حريق القاهرة يوم 25 يناير 1952م طال مدينة الإسكندرية أيضا، كما يجب أن يكون دقيقا في التعامل مع الأبطال والرموز التي حركت وصنعت التاريخ، فلا يجوز أن ينسب قيادة الحملة الفرنسية للرجل الثاني ( كليبر ) ويتجاهل القائد الحقيقي نابليون بونابرت، ولا يجوز أن ينسب تأسيس تنظيم الضباط الأحرار لشخص آخر غير جمال عبد الناصر، والأهم من ذلك عليه أن يكون دقيقا فيما يتعلق بالركن الثالث من أركان العملية التاريخية أقصد الزمن الذي وقعت فيه الأحداث، من الأخطاء القاتلة الخلط بين التواريخ أو الخطأ فيها، فالثورة الفرنسية وقعت عام 1789م أما الحملة الفرنسية على الشرق كانت عام 1798م والفرق واضح بين العامين، والأهم من ذلك عليه وهو يبني ( أركان الحدوتة الدرامية المستمدة من وقائع التاريخ ) أن يحافظ على السياق التاريخي، والظروف الموضوعية التي وقعت فيها الأحداث حتى يكون ذلك مقبولا من المشاهد، فليس من المنطقي بعد طرد الإنجليز من مصر بعد مشاركاتهم في العدوان الثلاثي 1956، أن تظهر أعمال درامية عن العلاقة بين مصر وبريطانيا تصور تظاهرات للمصريين وهم يرفعون شعار الاستقلال التام أو الموت الزؤام.

 

ولما كان التاريخ حمال أوجه لذلك يجب على كاتب الدراما التاريخية عند تفسير الوقائع أن يكون منطقيا ويتحرى الدقة والموضوعية، وليس معنى هذا تقييد حريته في الإبداع، فالإبداع أساس العمل الدرامي لكنه إبداع محكوم بجغرافيا وزمن وشعوب وأبطال، فلا يجوز الارتكان إلى شماعة الإبداع ويتم تزييف الحقائق أو تشويه السياق، الأمر الذي يؤدي إلى تخريب ذاكرة الأمة وتغييب وعي الشباب، خاصة أن تأثير الدراما التاريخية أقوى بكثير من تأثير المؤلفات والدراسات العلمية، نظرا لأنها تخترق البيوت وتخاطب المثقف والأمي والشباب والشيوخ والأطفال في آن واحد.

 

لذلك لن يتقبل المشاهد أي أعمال درامية مستمدة من التاريخ إذا لم يكن صاحبها قد اهتم بتمحيص الحقائق التاريخية وانطلق منها ليقدم إبداعا خاصا، موضوعيا ومتسق مع حركة التاريخ لا يطغى فيه الإبداع علي الحقائق التاريخية.

 

واللافت للنظر أن الدول المتقدمة التي قدمت دراما تاريخية راقية كانت حريصة على الاستعانة ( بمستشار تاريخي ) متخصص في نفس الحقبة التي اختارها المبدع، ولهذا ننصح مبدعي الدراما التاريخية في مصر اللجوء إلى مستشار تاريخي متخصص، يقع على عاتقه تمحيص وتدقيق كل ما يرد بالمسلسل من وقائع وأماكن وأزمنة، وبهذا الصدد لا يجوز الاكتفاء ( بالمراجع التاريخي ) الذي يتوقف عمله عند مرحلة مراجعة النص والتنبيه بالأخطاء التاريخية، أما المستشار التاريخي فهو يشارك في مختلف مراحل الإنتاج كترشيح الأبطال المناسبين للعمل، فلا يجوز مثلا أن يختار بطلا لمسلسل عن الراحل جمال عبد الناصر ويكون البطل قصير القامة لا يشبه من قريب أو بعيد هيئة جمال عبد الناصر طولا وعرضا وصوتا كذلك.

لعل ما سبق يوضح أهمية إبداع الدراما التاريخية وأهمية الاعتماد على الوثائق والوثائق المصورة على وجه خاص. 

Dr.Radwa
Egypt Air