الرمزية والإسقاط .. عوامل غير محسوسة للمشاهد العادي عند تقبله لأشكال الدراما المختلفة سواء سينما أو مسرح أو تليفزيون وإن كانت الدراما التليفزيونية أقل الأشكال الدرامية استخداما للرمزية، فهذه العوامل وضعت خصيصًا للمشاهد الذكي والمطلع لأنها غالبًا ما تكون ممزوجة بشيء من الفلسفة، فاللوحات والنصوص الدينية أو الأسطورية المقتبسة من حضارات مندثرة، تحاكي قضية ما، إذ يعتبر إدراج الإسقاط والرمزية، الغرض منه تقريب الصورة أو إعادة خلق الأسطورة من جديد وهو ما لعب عليه الكاتب الكبير عبد الرحيم كمال فى معظم أعماله التليفزيونية منذ بداياته وتتجلى فى أعماله التى تناولت جنوب مصر أو ما نطلق عليه "صعيد مصر" بداية من يونس ولد فضة مرورا بونوس ودهشة وشيخ العرب همام والرحايا والخواجة عبد القادر ووصلت ذروتها فى جزيرة غمام .
المتتبع لدراما عبد الرحيم كمال يكتشف العديد من المفاتيح فى أعماله فهو دائم اللعب على الصراع بين السلطة والدين والمال وتظهر فى شخوصه فهى شخصيات غير تقليدية أو نمطية، فدائما داخل كل شخصية يضيع خط الإيهام الذى يفصل الخير والشر واللين عن القسوة والحكمة عن الجهل فيحول شخوصه إلى ناس من لحم ودم وإن كان يغلب عليها خط واضح يفرق بين كل هذه العناصر، ودائما يتقمص دور الفنان التشكيلى الذى يرصد علاقة الضوء بالظل وخاصة الخير بالشر فى جو أقرب للصوفية فأكثر من تناول تجسيد الشيطان نفسه مثلما فى "ونوس وجزيرة غمام"، كما أن معظم أعماله تدور فى أجواء منعزلة يسودها جو البراح وغالبا ما يكون هذا البراح من الصحراء وليس بالضرورة أن تكون من صعيد مصر وإن كان يغلب عليها الجو الصعيدى الذى ظهر فى معظم أعماله وخاصة شيخ العرب همام والخواجة عبد القادر والرحايا ، فإن كان محمد صفاء عامر دائما ما يربط أعماله من وجه قبلى إلى وجه بحرى والكاتب الراحل أسامة أنور عكاشة يرصد التغير الاجتماعى داخل المجتمع الحديث وصراع العلم أمام الجهل ودور رأس المال فى إفساد المجتمع والكاتب يسرى الجندى فى استلهام القصص والسير الشعبية فإننا مع دراما عبد الرحيم كمال نخلط كل هذا فى بوتقة واحده ويدل على أنه تلميذ نجيب فى مدارس الدراما المختلفة ليخرج بمدرسة جديدة لها تلاميذ ومريدين.
عبد الرحيم كمال فى جزيرة غمام لعب على دمج الحاضر بالماضى بالاسطورة ففي بداية العمل بدأت أحداث الحلقة الأولى من المسلسل بزيارة السادات الرئيس لأهل الجزيرة في سنة 1977، قبل أيام قليلة من زيارته الشهيرة للقدس استقبله الشيخ شمس عميد عائلة أولاد عرفات، وعلى طريقة الفلاش باك، يحكي شيخ الجزيرة وأحد كبارها، قصة جزيرة أولاد عرفات، أو كما سُميت في الماضي «جزيرة غمام»، حيث تم استئذان السادات في الاستماع إلى قصتها والتى تعود إلى عهد عباس حلمى فجزيرة غمام ليست جزيرة ولكنها بلد على البحر الأحمر وحسب تقليد أهل قبلى يطلقون عليها اسم جزيرة. هذه الجزيرة ترتبط بشخوص لكل واحد اسم يدل على شخصيته ومدلوله بداية من الشيخ مدين الذى يجسده عبد العزيز مخيون ومن الاسم نكتشف أنه جاء من المئذنة أى أزهرى ويترك ثلاثة تلاميذ الأول الشيخ محارب فتحى عبد الوهاب صاحب الرؤية الجهادية الذى يعطيه إمامة الجامع والشيخ يسرى محمد جمعة الذى ييسر كل الأمور الدينية ويقتصرها فى أحجبة ليعطيه بيته وعرفات "الشخصية العارفة بالله" الذى يعطيه سبحته و الأقرب إلى المتصوف أو الضوء داخل العتمة أمامهم نجد الغجر طرخ البحر وخاصة شخصية خالدون طارق لطفى الشيطان الخالد حتى قيام الساعة أو بالأدق المنظر "إنك من المنظرين" والذى يستخدم "العايقة" مى عز الدين والتى تجسد الشهوات هذا التضاد بين هذه الشخصيات تؤثر على أهل الجزيرة منهم "العجمى" رياض الخولى كبير الجزيرة وعمدتها الذى فسره البعض على أنه السادات نفسه الرجل القوى صاحب الحكمة الذى يرفض بيع الخمور "فى إشارة للرئيس المتدين"
فى جزيرة غمام نجد عدد كبير من الإسقاطات منها السياسية ومنها الدينية فى السياسة نجد تقسيم الجزيرة كما حدث فى مأساة فلسطين وما يقوم به الشيخ محارب من بث أفكار التشدد الدينى الذى يصل لحد التطرف وجلب السلاح وهو ما نجده عندما قام السادات بإخراج المحظورة من السجون وغيرها من الإسقاطات السياسية.
أما الدينية فراح الجميع على شخصية عرفات منهم من شبهه بالسيد المسيح وربط بين مهنة النجار الذى امتهنها السيد المسيح و الأطفال ال12 الحواريين والبعض راح إلى أنه الخضر عليه السلام وخاصة فى مشهد غرق المركب.
فنحن أمام دراما غير تقليدية يمكن تفسيرها بالعديد من مستويات التلقى وصنع منها عبد الرحيم كمال إلى ملحمة أقرب للأسطورة نجح فى إيصال مضامينها كل النجوم المشاركين فى العمل مع توجيهات المخرج المتميز حسين المنياوى الذى استعان بمدير التصوير إسلام عبد السميع ليجعل من كل كادر لوحة تشكيلية رائعة خاصة الإضاءة التى جاءت خافتة فى معظم المشاهد لتؤكد على معنى كل مشهد فضلا عن الديكور الذى جاء ليتماشى مع جو العمل والملابس التى جاءت معبره عن توقيت العمل قبل قرن من الزمن .. العمل ملحمة صنعها مبدعون فوق العادة وليستمتع بها الجمهور.