الخميس 27 يونيو 2024

بذور التشرد والتمرد


خالد الأصور

مقالات12-5-2022 | 14:12

خالد الأصور

 نادرة هي الدراسات المتعمقة التي رصدت ظاهرة الشعراء الصعاليك وتتبعتهم، ومن أهمها الدراسة التي حصل بها الشاعر محمد عبدالفتاح عليم (أستاذ النقد الأدبي) على درجة الدكتوراه في كلية دار العلوم بجامعة القاهرة، بعنوان «تطور ظاهرة التمرد في الشعر العربي الحديث»، حيث رصد فيها التمرد الشعري عبر صعاليك الشعراء القدامى، ومد خطأ على استقامته لوصل هذه الظاهرة بمنتج الشعراء الصعاليك المحدثين، وتأكيدا على هذه المقاربة يقول: "يخلط البعض بين مفهوم «الصعلوك» و «الشاعر الصعلوك»، فالشاعر الصعلوك بالمفهوم المتوارث، والذى أصَّلته فى أطروحتى الجامعية، ليس اللص بل هو الذى يستغنى برؤيته الخاصة عن كل قاموس المنظومة الاجتماعية، ويعتمد على نفسه وتجربته الشخصية فى تجاوز هذه المنظومة، ولا يصرخ أو يزعق فقط، بل لديه دائمًا بديلًا للمرفوض، ولديه خطابات شعرية تصرخ وتنوح، ولا يعطيك أملًا فى نهاية النص، ويقدم رؤية موازية، بل مجاوزة، لرؤية المنظومة التى يرفضها ويقاومها، ويطرح بديلًا لهذا المرفوض، وبالتالى فنحن أمام مشروع رجل لديه رؤية مغايرة، وهذه الرؤية غالبا فى صالح المجتمع القادم.
وهذا "الأنا الجمعي" الحاضر في شعرهم، إنّما هو تعبير عن التّكتّل والتجمع، والتمرد، هذا التمرد الذي حرّر الشعراء الصعاليك من السلطة، فجاء شعرهم ليمزق ستار السلطة وحجابها، وليخترق طقوسها ومكنوناتها فتحرروا من الذوبان في القبيلة، في الآخر، وصنع كل واحد من الصعاليك فرديته، إلى جانب شخصية الجماعة –جماعة الصعاليك– دون الذوبان فيها، وإنما ليتحرر كل واحدٍ بشخصيته ويعتز بها، وليس اعتزازه مرتبطا –بالضرورة– باعتزاز الآخر، فاختار الشاعر الصعلوك هذا الحيّز، "على أنّه جزء لا يتجزّأ من ذاتيته الأعمق غورا، بينما يؤلف الشكل الذي يتظهّر به في نظره، هو كفنان، الوسيلة الأولى، اللازمة، العليا، لوضع المطلق، وروح الأشياء في متناول الإدراك.

نجم .. إمام الصعلكة الشعرية المعاصرة
وقد بلورت ظاهرة الصعلكة اتجاها شعريا خاصا عماده التمرد والتشرد والرفض، ولم تتوقف مع مرور الزمن، ولكن شهدت تطورا واتخذت منحى جديدا في العصر الحديث، اختلف نسبيا عن نشأتها وتواترها في العصور السابقة، فحلت الدولة محل القبيلة، واختلفت مظاهر النبذ والإقصاء والتهميش، ولكن يبقى مضمون المعاناة متقاربا في تحولات النص والمفاهيم.
ومن أبرز الشعراء الصعاليك المعاصرين، الشاعر العراقي جان دمو، صاحب ديوان «أسمال» بنصوصه المتمردة الرافضة الساخطة على كل شىء والساخرة من كل شىء، وكذلك دون شكّ الشاعر المصري عبدالحميد الديب، الذي تمرد على المجتمع بكل طوائفه، وكان التبرم والسخط أبرز التجليات في شعره، أما أشعار نجيب سرور وأمل دنقل، فهي أشهر من أن يتم تعريفها، فهى عنوان الاحتجاج المدبب على كثير من الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية.
ولكننا نتوقف أمام نموذج آخر تتجسد فيه ظاهرة الصعلكة الشعرية بجلاء، ولا يمكن رصد تطور ظاهرة التمرد في الشعر العربي الحديث دون ذكر أحد أهم رموزها، ولو نصب صعاليك الشعراء في العصر الحديث أميرا عليهم، تجتمع فيه موهبة الصعلكة الكاملة، لما وجدوا أفضل من أحمد فؤاد نجم، شاعر العامية الأبرز، فهو نجم الصعلكة الشعرية وإمام التمرد الشعري الذي يبدو واضحا من إضاءات سيرته ومسيرته ومحطات حياته التي شكلت شخصيته الشعرية المتفردة وفجرت ينابيع شعره الاحتجاجي المنتفض، الحالم بالتغيير والتجديد.

هو أحد أهم الشعراء الصعاليك، وقد وصف نفسه بنفسه بأنه منهم، وذلك في حديث لقناة "روتانا" وأضاف متمنيًا أن يكون من بعده "صعاليك كثيرة لا يسكتون عن الحق ويقولون ما في قلوبهم دون خوف أو زيف"، فهو ليس فقط شاعر الصعاليك، لكنه عاش حياة الصعلكة، منذ طفولته، ومن جميل المصادفة أن يصدر هذا العدد من مجلة الهلال، في نفس الشهر الذي ولد فيه، متضمنا هذه الدراسة عنه، فقد ولد أحمد فؤاد نجم في قرية بمحافظة الشرقية في 23 مايو 1929، وتيمنا باسم ملك مصر حينذاك، أطلق عليه والده اسمه (أحمد فؤاد)، ولكن والده (عزت نجم) مات ليترك أبناءه، وعددهم يتجاوز الـ 15، دون ما يعينهم على أسباب الحياة، فكان الطفل أحمد فؤاد نجم هو أصغرهم، ليستقبل حياته يتيما فقيرا مشردا بلا عائل أو حتى مأوى، فيتخلص أقاربه من مسؤوليته ونفقته بإيداعه أحد ملاجئ الأيتام بمدينة الزقازيق، لتبدأ مع هذا الطفل النحيل أولى مراحل الصعلكة مبكرا، وليجمعه القدر مع طفل آخر، ليكونا معا في المستقبل من الأعلام والمشاهير، هو في الشعر، والطفل الآخر في الغناء، وهو عبدالحليم شبانة (عبدالحليم حافظ) رفيقه في الملجأ وفي خطواتهما الأولى لاكتشاف موهبتهما في الشعر  والغناء.

وموهبة نجم في شعر العامية، لم تتأسس على دراسة نظامية، فحصيلته الدراسية كانت فقط في الكُتاب في سنواته الأولى، ثم في الفصول التعليمية بالملجأ، أي أنه شاعر عصامي شكّل نفسه وذائقته الشعرية بذاته المتأملة والمتفاعلة مع محيطها المجتمعي، وهو في ذلك أشبه بكتاب ومفكرين عصاميين بارزين، مثل مصطفي صادق الرافعي، وعباس محمود العقاد، ويذكر نجم أن تكوينه الشعري يرجع الفضل فيه إلى والدته (هانم) التي كانت بحسب تعبيره خزانا للأدب والموروث الشعبي: أمي زققتها لي مثل الحمام.

وبعد مكثه فيه نحو عشر سنوات، غادر نجم الملجأ وعمره 17 سنة، يلازمه فقره ويتمه وعزلته، فتناوشته قسوة الحياة والبؤس وشظف العيش بحثا عن أسباب الرزق، وتخبطت به السبل، لينتقل من عمل إلى آخر، ويتخلل فترات الانتقال البقاء عاطلا لفترات دون عمل، فعمل راعيا للماشية وأجيرا في الحقول الزراعية، وخادما في بيت خاله، وعاملا في معسكرات جيش الاحتلال الإنجليزي عام 1951، وتبدأ بذور تمرده في الظهور بتركه العمل احتجاجا على إلغاء الإنجليز معاهدة 1936، وذلك استجابة لنداء حكومة الوفد التي أعادت تشغيله مع غيره من العمال في السكك الحديدية، ثم ما يلبث أن يتم سجنه، وهذه المرة الأولى كانت مختلفة عن فترات سجنه التالية، فقد كانت تحت ضغط الفقر والحاجة بتهمة تزوير مستندات، للحصول على المال، وجاء ديوانه الأول (من الحياة والسجن) الذي نشرته له الدولة عبر  المجلس الأعلى للفنون والآداب عام 1962، وكتبت مقدمته الكاتبة المعروفة سهير القلماوي، ولقي استحسانا وترحيبا من شاعر العامية الكبير بيرم التونسى، وكان بعيدا تماما عن الشعر السياسي والتحريضي، أما ما تلى ذلك من سجون ومعتقلات تردد عليها فكانت بسبب شعره المتمرد المنتقم الناقد المعارض والباحث عن الحرية والعدالة الاجتماعية. 

  خوش قدم .. والفاجومي !

عرف الشاعر الصعلوك وعايش شوارع القاهرة القديمة وأزقتها وحاراتها، وكان على موعد مع إحدى تلك الحارات، التي ستشهد إحدى غرف السطح في أحد بيوتها المتهالكة أشعاره المعبرة عن ساكني هذه الحارة وأشباهها من الفقراء والغلابة والمهمشين، وهي حارة خوش قدم (أي قدم الخير باللغة الفارسية)، وهي كانت كذلك بالفعل عليه، باعتبار إبداعاته الشعرية فيها هي هذا الخير، ويجمعه القدر في هذه الغرفة مع ساكن صعلوك آخر، منشد ومغني ضرير، وهو الشيخ إمام، وكان نجم يطلق على هذه الغرفة اسم (مجلس قيادة السطوح!) ليشكل القائدان معا ثنائيا صعلوكيا فريدا، وكانت البداية لما يكتبه الشاعر ويؤديه المغني، في الموالد وحفلات الزواج وجلسات المزاج، بعيدا تماما عن السياسة وما تجلبه من "وجع دماغ"! 
والأمر الغريب والذي يستدعي مزيدا من التأمل في شخصية نجم، أن الشخصية الثائرة سياسيا، عادة ما تتشكل في سنوات الصبا والشباب الأولى، ولكننا نجد شعره السياسي المتمرد على الأوضاع العامة، لم يبدأ معه إلا وهو على مشارف سن الكهولة وهو يقترب من الأربعين من عمره، وتحديدا وهو في الثامنة والثلاثين، وتزامن ذلك مع هزيمة 1967، التي شكلت تحولا مفصليا ومحطة فارقة في اتجاهاته وأغراضه الشعرية، وألهمته المواويل الشعبية المصرية آفاقا جديدة، واستدعت قراءته قبل سنوات لرواية "الأم" للأديب الروسي مكسيم جوركي، والتي تتناول كفاح أم لعامل مناهض لسلطات القيصر الروسي، وبعد اعتقاله تواصل الأم دوره في الكفاح ضد الظلم والاستغلال.
 ومن بعد الهزيمة وعلو صوته مع رفيق دربه الشيخ إمام، أصبح نزيلا دائما على عنابر السجون في عهدي عبدالناصر والسادات، وقد رصد هذه المرحلة في تأريخ جانب من سيرته الذاتية فيلم "الفاجومي" وجسد شخصيته الفنان خالد الصاوي، وعنوان الفيلم هو لقب أطلقه نجم على نفسه، وصار يعرف به ويلازمه، وأصل الكلمة في لسان العرب: الفُجم هو غلظ في الشدق، ولكن معنى الغلظة في التفسير الشعبي لكلمة فاجومي انتقلت لمعنى المعاند المندفع الجريء الذي لا يلقي بالا لمصيره، ما دام يعبر عن رأيه. 
البيان الشعري الأول حول هزيمة يونيو
هذا الشاعر المعاند المحرض المطبوع على التمرد، كانت له جولات كثيرة في الاشتباك مع الشأن العام والأحداث الجماهيرية، مشتبكا ومشاكسا، دفاعا عن الكادحين والمسحوقين والمناضلين السياسيين، ورغم أنه عاصر حركات وأحزاب وتكتلات شيوعية واشتراكية تتبنى مشاكساته ومشاغباته، لكنه رفض الانضمام إلى أي منها، فكان ضد التصنيف والانضواء تحت أي لواء فكري أو سياسي سوى لواء شعر التغيير التعبوي الرافض للاستغلال الطبقي.
وبعد الدعايات الإعلامية المكثفة التي سبقت الحرب بأننا سنسحق الكيان الصهيوني، ومع توالي البيانات العسكرية، وتراجعها من الإعلان عن الانتصار والتقدم في المعارك واقترابنا من دخول تل أبيب، إلى الاعتراف المرير بالهزيمة ووصفها تخفيفا بالنكسة، كان هناك بيان من نوع آخر، هو البيان الشعري الأول حول الهزيمة المرة من العدو الصهيوني، يعلن التحدي ورفض الاستسلام، ومن حجرتهما الضيقة في حارة خوش قدم، أعلن الثنائي نجم ورفيقه الشيخ إمام تدشين بيان التهكم والشعور بالمرارة، الذي يحمل الرئيس عبدالناصر مسؤولية الهزيمة، ويرمز له في القصيدة - البيان باسم عبدالجبار، ولقيت صدى واسعا لدى الجماهير.  
يقول نجم في مذكراته التي نشرتها له صحيفة الدستور قبيل منتصف التسعينيات: "كان الإقبال الجماهيري هو الاستفتاء الشعبي الذي حولنا ـ هو وإمام ـ من مجرد "اتنين هلافيت واحد أعمى وواحد أنيميا" إلى ظاهرة فنية وسياسية شغلت أعلى المستويات في الدولة الناصرية، لدرجة أنهم أدرجونا في جدول المشاكل المطروحة على مجلس الأمن القومي، وقد تفضل الأستاذ محمد حسنين هيكل فيلسوف النظام آنذاك بالتشخيص والعلاج، حيث قال: لا فض فوه، "هذه صرخة جوع وسوف نقتلها بالتخمة".. كان هيكل يقصد رشوة نجم وإمام، وهو ما حدث بالفعل حين توجه مندوب من وزارة الثقافة يحمل عرضا لهما بتقديم أعمال في الإذاعة والتلفزيون، مقابل مبالغ سخية، وحين رفضا العرض واعتبراه رشوة للسكوت، تم حبسهما، لكن نجم رغم ذلك ظل وفيا لمبادئ عبدالناصر في نشر العدالة الاجتماعية، وكان يصفه بأنه زعيم الفقراء، وبعد وفاة عبدالناصر، كتب نجم قصيدة رثاء مؤثرة في وداعه: «السكة مفروشة تيجان الفل والنرجس، والقبة صهوة فرس، عليها الخضر بيبرجس، والمشربية عرايس بتبكي والبكى مشروع.. مين دا اللى نايم وساكت، والسكات مسموع.. سيدنا الحسين، ولا صلاح الدين ولا النبي، ولا الإمام».
السادات .. وزيارة ابن الهرمة نيكسون بابا 
الشاعر الغاضب أحمد فؤاد نجم، أثار غضب الرئيس الراحل محمد أنور السادات، فقد غضب نجم من مظاهر الترحيب الرسمي المبالغ فيه لأول زيارة لرئيس أمريكي إلى مصر، وأن الترحيب لم يكن شعبيا كما تم الزعم رسميا، فكتب قصيدة «حسبة برما بمناسبة زيارة ابن الهرمة»، نفى فيه ما تم الترويج له حول الاستقبال والحفاوة الشعبية بزيارة نيكسون.  
تفاعل نجم مع صمود الجيش المصري على الجبهة قبل حرب أكتوبر، وكتب رسالة من أب إلى ابنه المرابط على الجبهة بعنوان «واه يا عبد الودود»:
واه يا عبد الودود، يا رابض ع الحدود
ومحافظ ع اللظام، كيفك يا واد صحيح
عسى الله تكون مليح، وراجب للامام
أمك ع تدعي ليك، و ع تسلم عليك
وتجول بعد السلام، خليك ددع لابوك
ليجوا مين دابوك، ويمصخوا الكلام
واه يا عبد الودود، ع أجولّك و انت خابر
كل الجضية عاد، ولسة دم خيك
ما شرباش التراب، حسك عينك تزحزح
ويدك عن الزناد.
ورغم أنه بعد هذه القصيدة، كان نصر أكتوبر في عهد الرئيس السادات، رحمه الله، لكنه كان الأكثر تعرضا لهجاء شعر نجم، عبر سلسلة من القصائد القوية الأخرى، مثل: الواد يويو، الفول واللحمة، البتاع، الحاوي، صندوق الدنيا، جيسكار ديستان، على الربابة، هنا شقلبان .. وكان السادات يصف نجم وأشعاره بأنها مجرد شتائم وسخائم ورذالات وبذاءات. 
مبارك ومرسي .. نجم على العهد دوما
وكان نجم على العهد دوما، كصوت للناس، ويواصل شاعر الصعاليك نظم القصائد في نقد كثير من الظواهر في عهد الرئيس الراحل محمد حسني مبارك، وفي مطلع حكمه استقبل مبارك بقصيدة "الشكارة"، وتبعها بقصائد أخرى ناقدة، منها: في عيد ميلادك الكم وسبعين، ألف سلامة لضهر سيادتك، عريس الدولة، ومع بروز مشروع توريث الحكم من مبارك لابنه جمال، كتب نجم:
حبهدل جنابك وأذل اللي جابك 
وحيكون ..عذابك ده فوق الاحتمال 
وامرمط سعادتك واهزأ سيادتك 
واخلي كرامتك في حالة هزال
وتلبس قضيه وتصبح رزيه 
وباقي حياتك تعيش في انعزال
حتقبل هحبك حترفض هلبك 
حتطلع حتنزل حجيبلك جماااال!

وفي أواخر عهد مبارك، كتب له هذه القصيدة "كأنك مفيش":
برغم إن صورك فـ كل الدواير ، 
وكل المداخل وكل المحاور
ومليا الشوارع على كل حيط، 
مطنش علينا وعامل عبيط
كأنك مفيش.. 

نجم .. شاعر الحرية .. عربيا وعالميا
لم يكن أحمد فؤاد نجم مغرقا في المحلية، بل كان صوتا للحرية ولكل المناضلين في سبيلها في العالم، فكتب "جيفارا مات"، "سقطت سايجون"، وباعتباره شاعرا قوميا عروبيا، لم ينس قضايا الأمة العربية، وفي صدارتها القضية الفلسطينية، فكتب قصيدة "يا فلسطينية"، ومن ديوانه قصائد وراء الشمس، نختار قصيدته "يا عرب":
يا عرب .. يا عرب .. يا عرب في أي مصر
يا عرب .. يا عرب .. اسمعوا صوت شعب مصر
احفظوا لمصر المكان .. واحنا عالعهد اللي كان
مصر أوفى من الزمان ..
وانتو عارفين شعب مصر
 
كان أحمد فؤاد نجم، المعتد بنفسه وشخصيته وشعره، هو شاعر ( لا ) .. لا التي أطلقها غاضبا عبر دواوينه وقصائده ضد البطش والاستغلال والبيروقراطية والطبقية، بعفويته الصادقة المعبرة بجسارة وجرأة وثقة عن الناس الغلابة وأوجاعهم وآلامهم وآمالهم وأشواقهم نحو العدالة الاجتماعية والحرية، فهو لسان الفقراء والضعفاء والناطق الرسمي باسمهم، من خلال صور وتراكيب شعرية بسيطة ومبدعة، نابعة من معاناة وحياة وكلمات هؤلاء الجياع المهمشين المسحوقين، صاغها دون مواءامات أو حسابات، لذلك ارتبط اسمه بالحظر والمنع والملاحقة والمطاردة والتحقيقات والاعتقالات والسجون.
ورحل نجم وكانت وفاته فى 3 ديسمبر 2013، عن عمر 84 عاما، وتراثه الشعري هو أبرز ما سطره شعراء العامية، وهذا الإرث النضالي الشعري، صدر فيما أمكن حصره، في ثمانية دواوين شعرية وهي: صور من الحياة والسجن، عيون الكلام، العنبرة، يعيش أهل بلدي، أغنيات الحب والحياة، مصر، الطير المهاجر.. وكان أعظم تكريم له، هو امتزاج كلماته وأشعاره في الضمير الشعبي وترديدها دوما، وقد لقى بعض وجوه التكريم في أخريات حياته وبعد مماته، فقد اختارته المجموعة العربية في صندوق مكافحة الفقر التابع للأمم المتحدة، ليكون متحدثاً باسم فقراء العالم العربي وسفيرا لفقراء العالم، إلى جانب الزعيم الإفريقي نلسون مانديلا، وقال نجم بمناسبة اختياره بسخريته المعروفة إنه سيشكل حكومة عالمية من وزرائها السيد المسيح وعلي بن أبي طالب القائل "لو كان الفقر رجلا لقتلته" وأبو ذر الغفاري القائل "إذا جاع أحد فلا أمان"!
وفاز نجم بجائزة كلاوس الهولندية، لكنه توفي قبل استلامها بأيام، وعقب وفاته، وفي فترة الحكم الانتقالي للمستشار عدلي منصور، تم منح أحمد فؤاد نجم وسام الدولة للعلوم والفنون من الطبقة الأولى. وجاء في بيان رئاسة الجمهورية أن "نجم يعد أحد أهم شعراء العامية في مصر، وأحد ثوار الكلمة".
إن أحمد فؤاد نجم، كما يقول حلمي سالم (مجلة أدب ونقد، ع 256 (2006)، ص 42 ) لم يكن مجرد شاعر، بل كان ظاهرة اجتماعية- سياسية- ثقافية- جمالية متكاملة، أنضجتها لحظة تاريخية مركبة، عامرة بالانتصار والانكسار، بالحرية والقمع، بالشعارات البراقة والسلاسل البراقة، بالإنجاز والسقوط، بالحقيقة والوهم، ومن قلب هذه اللحظة الدرامية انبثق صوت أحمد فؤاد نجم بالشعر- صرخة احتجاج ضد القهر، والجوع، والرعب والاستعباد..