مر أكثر من ثلاثين عاما على نشر قصة "الأرض في باطن الأرض"، للكاتب حسين البلتاجي، وهي إحدى أعماله التي تعبر بوضوح عن مأزق الإنسان، في وجوده على ظهر الأرض، فهو محاط بسلسلة من الزواجر والنواهي بينما يتهيأ لمقاومة هذا العسف بانفلات من كل القوى الضاغطة عليه.
سوف نتعرض بالدراسة للنص القصصي لكاتب يعتبر من طليعة العمال الذين قاوموا شظف العيش، والفقر المادي، والعسف الروحي، بالكتابة، إذ تمكنوا من طرح وجهات نظرهم في القضايا المتعلقة بلقمة الخبز، وكيفية التناغم مع وقائع الحياة مهما بدا الطريق وعرا.
حسين البلتاجي، من مواليد قرية "شرباص"، مركز فارسكور، محافظة دمياط. وقد عمل في مهن مختلفة: فران، موزع خبز، صحفي بالقطعة، عرضحالجي.
له مجموعتان قصصيتان: "الرقص فوق البركان"، "المتوحشون".
في كتابي "مواجهات"، وهو من سلسلة "إصدارات الرواد" العدد 53، سنة 2000، يقول في حوار، أجريته معه:
"لقد نشر لي إنتاج كثير جدا، يمكن أن يكون عدة مجموعات قصصية، لكن لم أكن أعطي أهمية كبيرة لعملية النشر في مجموعات أو في كتب إلا أخيرا، حينما حضر إلى مدينتي أحد النقاد المعروفين، وأصر على أخذ مجموعة لنشرها في إحدى إصدارات هيئة الكتاب.
تجربتي في الكتابة تنبع أصلا عن الواقع الذي أعيشه ويعيشه الناس حولي، لا أفكر في موضوع خيالي، ولا قضية فلسفية، كما يفعل البعض، بل آخذ شرائح من الواقع، وأصيغها في العمل الأدبي بطريقتي الخاصة.
حصلت على درجة تعليمية متوسطة، حصلت على الابتدائية ثم الثقافة ثم التوجيهية، ولم ألتحق بالجامعة لظروف أسرية قاسية، واشتغلت وكانت البداية في الصحافة. نزلت إلى القاهرة والتقيت برئيس تحرير مجلة فكاهية ساخرة اسمها "البعكوكة"، دخلت مكتبه.. قلت له: أكتب قصة، وأريد عملا .
فقال لي: هل من الممكن أن تكتب لي قصة في خمس دقائق؟
قلت له: أحاول.
أعطى لي قلما وورقة، وبالفعل كتبت له قصة في أقل من المدة التي حددها. كتبت ما ورد على ذهني. ليست قصة مكتملة تشتمل على الفنية المطلوبة ولا أي شيء من ذلك.
أعطيته الورقة، فقرأها وقال لي: جيدة. ممكن أن تتسلم العمل من باكر. سأعطي لك خمس جنيهات في الشهر.
انتهت المقتطفات من الحوار الصريح معه، وقد نشرته كاملا في جريدة "اليوم" السعودية التي كنت أعمل محررا فيها بمدينة الدمام في 29 نوفمبر 1992.
تعالوا نقرأ قصة له، ونطرح رأينا، من منظور نقدي معاصر. في قصة "الأرض في باطن الأرض".
تبدأ القصة بمقدمة طللية، عن جانب من المعاناة التي انتقلت من البطل لأجواء الطبيعة وهو اتجاه رومانسي وجدنا ظلاله عند كتاب الخمسينيات من الجيل السابق لنا. يقول: "الثقوب اللامعة المرتجفة، تبرق خلف الستارة المظلمة، الغطاء الأسود يكفن الأرض، يلفها في داخله، يطويها فتذبل وتموت".
هنا ندرك أن المشكلة تبدأ من الأرض ومثلما ينكسر الإنسان فإن الأرض تعاني نفس المشكلة، وبالتالي تتقاطع خيبات الشخص المعاصر مع حركة الأرض ذات البريق المراوغ. هي شهادة من افتتن بالحياة غير أنه وجدها مظلمة قاسية.
وهذا المسار المؤلم الذي يرصده القاص فيه اعتراف بكون الأشياء في حالة تماه مع الوقائع جميعا. ومثلما بدأت اللقطة البعيدة، مكبرة فلديه حدس بخصوصية الألم الشخصي لذلك سرعان ما يلجأ إلى تفريعة منتزعة من قلب هذا الواقع ليقرنها بعذابه المقيم، يقول متأسيا: "الخفاش الأسود الكبير، يزعجني صريره الحاد المتقطع، أرتجف حينما أراه يحلق في الفضاء".
وإذا كان "الخفاش" في زمن الكتابة "الخمسينيات والستينيات"، نذير شؤم ومدعاة رعب فهو يمثل في زماننا هذا ـ بالتحديد 2022، مدخلا لوباء كورونا "كوفيد 19". لم يكن حسين البلتاجي يعرف هذا بالقطع فبعد موته بسنوات عديدة يشكل الخفاش رعبا أبديا.
دعونا ننظر إليه ـ كعامل في طابونة عيش ـ يكسب رزقه من عمله في فرن بلدي. كيف بدت الأرض له، وهل بإمكانه أن يحملها بدلا من أن تحمله؟ وحتى اقترابنا من همومه الذاتية وهو الذي كان يعيش في مساكن شعبية قرب المقابر فإن رصده لا يعوزه الصدق بالرغم من مسألة الترميز التي وجدنا صداها في مجموعتيه القصصيتين. يحمل الأرض فوق كاهله كترميز. الحقيقة أنه يحمل نعش أخته المتوفية، تراه أمه فتهيل التراب على رأسها، يرى وجه أبيه المنسحب من الحياة مجرد خرزتين مبللتين بدموع حزينة، يقول: "الأرض ميتة، ليس على ظهرها أحياء ملفوفة في الكفن الأسود، وأنا وحدي أحملها على صدري. أدب في الدروب الملتوية، ذاهبا بها إلى المقابر، أوسدها بطن الأرض الأخرى". حسين البلتاجي بنبرة عدمية يعتقد أن الكون بحاجة إلى إعادة ترتيبه، لذلك يبرز لنا معاناته كفرد مغترب، يدب بقدميه في الطرق الشائكة، وحين يتوقف فجأة يأتيه صوت الخفاش ليخترق صلابته التي يبديها عبر اللغة، يقول: "صّر الخفاش فجأة، فرد جناحيه الأسودين، وانزلق على وجه الظلام، صرخت أمي، صرخت أختي، صرخ أبي، وتحركت أقدامهم للخلف في سرعة مذهلة. وجدت القبر أمامي، وحيدا، ساكنا، وسط أشجار التفاح والمانجو والبرتقال. دفنت الأرض في باطن الأرض، وعدت وحيدا".
تتكرر تلك "التيمة" بشكل أو بآخر، ونحن نسير مع القاص في رحلته ذهابا إلى المقابر، والعودة منها للمدينة. الغريب أن البطل تتنازعه مناخات شتوية ثقيلة، فيما تكون شمس أغسطس غير قادرة على إزاحة السحب الرمادية، هذا معناه أن قوى العتمة تغلب قوى النور. الكل يسارع بالاختباء في أماكن آمنة عداه، فهو يحمل كتابه بيديه، ويقرأ. يقول: "الناس تهرول لتحتمي من المطر تحت شرفات البيوت. وأنا أسير في وسط الشارع، أسير، بيدي كتاب مفتوح، ألتهم سطوره، أشعر بلذة عميقة ونشوة جارفة".
مطاردة مثيرة بين البطل وبين شخص يقابله في شوارع المدينة، تنتهي بحوار يكشف حجم المعاناة التي يعيشها أبناء المدن، وهم واقعون في وهم الوصول إلى الحقيقة بينما هم مغيبون.
سوف نلاحظ أن حالات التحول من شيء إلى نقيضه تتكرر في سرديات يحيطها جو كابوسي "كافكاوي"، فينتزع منا إحساس الشعور بالطمأنينة والإحساس بحجم المأساة التي ظللت الوجود بعد هزيمة يونيو 1967. وإن لم يصرح بالمدى التاريخي الذي كتب فيه النص غير أن مجمل أعمال البلتاجي تحمل تلك السمة.
كونك على درجة من المعرفة، هذا أدعى لتشارك مع الآخرين في حدوث المشكلة التي قصمت ظهور الرجال. أحيانا يكون الصمت عتبة للحديث حيث يناور البطل وغريمه. كل يريد أن يثبت براءته مما حدث. يقول: قال في حزن: "لقد أفلتت الفرصة، أفلتت مني، وكانت في يدي". قلت له: "وكيف تركتها تفلت"؟ قال: "هكذا"، وفرد أصابع يديه. قلت: "إنك الملوم وحدك". قال: "نعم، ولكنك كنت تعرف"!
الشخص الذي يلتقيه اسمه "شريف" وهذا مدعاة للسخرية لدرجة أن البطل يقهقه ويتركه يضرب رأسه في الحائط. يعود من مسيرته الاغترابية للبيت ـ وهو يمثل في الوجدان الشعبي معنى السكن والملاذ ـ لكن واقع الأمر أن العلاقات الأسرية تفككت بدورها، وبات من الصعب ترميم التشققات التي طالت أسس البنيان. يقول: "دخلت إلى بيتنا الذي لا باب له، ولا نوافذ، فرأيت أبي متربعا على الحصير المنسول، وأمي توقد نارا تحت إناء، وأختي تغزل خيوطا صوفية بمغزل ضخم في يدها. قلت لأبي: "هل شربت؟"، قال: "وسلوت"، أشحت بوجهي عنه.
يعود النص لمساره الرئيسي، كأنها دائرة مغلقة بلا بداية ولا نهاية، وهي إحدى الحيل التي يتبعها البلتاجي ليتسرب إلى فضاء النص.. قدرا من التعمية والتشكك.
باعتباري أعرف الكاتب شخصيا، واقتربت من عوالمه، فقد وجدت أنه كان يتخذ من الحياة وسيلة للولوج إلى الحقائق الكبرى كالميلاد والموت، الحياة والعدم، الحب والكراهية، وصولا إلى الحرية والمساواة. هو يدرك أن العمال في تراتبية اجتماعية بليدة لم توفر للفقراء أي وسيلة للارتقاء، ونفض الظلم عن كواهلهم. لذلك يصبح البكاء هو الشيء الأكثر تعبيرا عن محنة الوجود بكل أبعادها الفيزيقية والسيكولوجية.
يقول بقدر من الحزن الشفاف: "لم تزل السحب تنثر نفسها على الأرض، وشمس أغسطس تنفذ خلالها، وتفرش نفسها بجانب المطر، على الشوارع والبيوت والناس. الناس من حولي يبكون، وأنا أبكي".
ينتصر حسين البلتاجي لمغامرة الحياة، ولا يعوزنا دليل كي نثبت أن المشهد الأخير لم يكن صريحا بالشكل الكافي فقد ظل الصراع قائما بين اتجاهين كل منهما يرفض الآخر. ربما يريد الكاتب أن يضعنا أمام مسئولياتنا ليكون لنا شرف الاختيار.
شكّل حسين البلتاجي بهذه القصة وغيرها تشكيلا جماليا وبناء معماريا يشيد بضرورة المقاومة حتى يمكننا أن ننفض الهزيمة، وأن نعيد قضية العدل الاجتماعي كي تحتل صدارة المشهد. رحم الله كاتبنا المنحاز لشرائح العمال ـ حسين البلتاجي.