كتب: محمد دياب
كان عبد الحليم حافظ هو صوت المعركة رسميا باختيار القيادة السياسية ومن خلال إدارة وإشراف إذاعة "صوت العرب" ومديرها الإذاعي أحمد سعيد ، كانت مشاركة عبد الحليم في الحرب فاعلة ومؤثرة بشكل فاق ما قدمه جميع مطربي مصر ، قدم خلال المعركة إحدى عشرة أغنية وهو على الأرجح أكبر عدد من الاعمال يقدمها مطرب خلال المعركة - أم كلثوم أربع فقط - ولم يكتف بالغناء بل قدم بصوته رسائل إلى الجنود على الجبهة تشحذ هممهم وتشد أزرهم ، ونحن هنا نخصص هذا الموضوع لما قدمه حليم خلال المعركة .
ذكر الاذاعي أحمد سعيد في حوار تليفزيوني له :" قال لي عبد الناصر أنا بحارب بصوت العرب كل كام سنة وأنا هحارب بيكم في المعركة دي " ، ولأن عبد الحليم حافظ كان هو صوت الثورة ومغني الثورة ونجمها ذا الشعبية الطاغية عند شباب مصر والعالم العربي فكان طبيعيا أن يقع الاختيار عليه صوتا لمعركة ناصر المرتقبة ومن خلال إذاعة "صوت العرب" أليست هي معركة العرب ايضا.
إحدى عشرة أغنية قدمها حليم خلال المعركة كلها تقريبا من شعر عبد الرحمن الابنودي باستثناء أغنيتين كتبهما صلاح جاهين ، وكلها تقريبا من ألحان كمال الطويل باستثناء ثلاث واحدة لحنها بليغ حمدي وأخرى لحنها محمد الموجي وثالثة لحنها علي إسماعيل ، ونستطيع أن نضيف إليها أغنية أخرى هي "المسيح" للابنودي وبليغ قدمت في خريف العام نفسه 1967 في مسرح "ألبرت هول" في لندن ، ليصبح مجموع ماقدمه حليم من أغنيات خلال ذلك العام اثنتى عشرة أغنية وطنية وهو رقم قياسي في مسيرة عبد الحليم الغنائية، وزعها جميعا الفنان علي اسماعيل ماعدا "موال النهار" الذي قام بتوزيعه عبد الحليم نويرة .
حليم الابنودي الطويل هؤلاء الذين اتهموا بتضليل الرأي العام لصالح ناصر خلال الحرب ، وأكثر من وجهت لهم سهام النقد بعد المعركة ، رغم أن الاغاني كلها تقريبا كانت تدور في فلك واحد سننتصر ونسحق الاعداء وندفنهم في البحر ، مجموعة الاغاني التي قدمها حليم هذه غيب معظمها عن الذاكرة الجماعية باستثناء اثنتين أو ثلاثاً منها ، ذلك ان النظام من خجله على مايبدو اغفل الاغنيات التي قدمت خلال المعركة ومن ضمنها أغاني عبد الحليم ، وتم حجبها وظل هذا الحجب مستمرا لعقود تالية ، حتى أفرجت إذاعة الاغاني عن بعض منها من خلال برامج الاذاعيين المحترمين إبراهيم حفني وطارق مصطفى قبل اعوام قليلة ، ونحن هنا نحاول إلقاء الضوء عليها مجددا للعبرة .
لايوجد إحصاء كامل لعدد الاغاني التي قدمت خلال المعركة ولا توجد قائمة كاملة لها وحتى مجلة "الاذاعة والتليفزيون" التي كانت معنية بالتعريف بالاغاني الجديدة التي تقدم ، تجاهلت الامر خلال المعركة وبعدها إلا فيما ندر منها ، وقدمت بعدها اكثر من تحقيق يهاجم ماقدم من أغنيات خلال المعركة ، المدهش انه كان من بين هؤلاء الشاعر صلاح جاهين ، وبالطبع كانت كل سهام النقد موجهة إلي عبد الرحمن الابنودي الذي بادر بمغادرة القاهرة لاسبوعين بعد النكسة امضاهما في قري الدلتا، وعاد ليرد عن نفسه الاتهامات .
النشيد والقصيدة والطقطوقة والموال
تنوعت القوالب الموسيقية التي قدمت من خلالها أغاني المعركة ، كانت الغلبة بالطبع لقالب النشيد على ايقاع المارش فهو الفورم الانسب خلال الحروب ، ذكرنا العديد منها في الحلقة السابقة ونشير هنا لواحدة سقطت سهوا ، وهى نشيد "كلنا وياك" للمطربة فايزة أحمد من شعر فاروق شوشة وألحان محمد سلطان سجلتها في الثامن والعشرين من مايو 1967 وكما في نشيد "أنا فدائيون" لام كلثوم لعبد الفتاح مصطفى وبليغ حمدي ، وكانت هناك القصيدة التي كانت تقدم ايضا في قالب النشيد ، وهناك الطقطوقة كما في راجعين لغيطك يازيتونة" لشريفة فاضل ألحان إبراهيم رجب، و"مع الف سلامة وهستناك " لشادية الحان محمود الشريف ، وكما في طقطوقة بديعة غناها محمد رشدى تحت عنوان "عالميدان" كتبها أسامة كمال ولحنها ابراهيم رجب وسجلت في الحادى والعشرين من مايو ، صاغها ابراهيم رجب على لحن الاغنية الشعبية المشهورة "خدني معاك إن كنت مسافر خدني معاك " ، يقول مطلعها :" عالميدان رايحين نحارب في الميدان / بلدي انا جايلك يابلدي افديكي بدمي وبولدي / الموت لعدو الحرية والتار أنا جاي آخده بيدي" .
قدم محمد رشدي كذلك أربعة اعمال وطنية خلال المعركة صيغت في قالب الموال الشعبي كتبها عبد الفتاح مصطفى ولحنها بليغ حمدي ، سجلت في العشرين من مايو ، وهي "في البر" و"في البحر" و"في الجو " و"ياويل عدانا" ، وقد أعاد بها رشدي الي الذاكرة بدايات الغناء الوطنى في قالب الموال في العقد الاول من القرن العشرين عندما قدم "موال زهران" عن حادثة دنشواي 1906 ، وبعدها بعامين قدم عبد الحي حلمي موال "يامفرد الغيد" في رثاء الزعيم مصطفى كامل ،غير أن الغلبة خلال المعركة كانت للاغنية القصيرة التي تشبة الميني نشيد لا تتجاوز الدقيقة الواحدة ، وهو فورم كان جديدا على الاغنية الوطنية ، تلاشي وجوده خلال الحرب التالية اكتوبر 1973 .
خطة حليم لاستعادة الابنودي !
قبل اشتعال حرب الخامس من يونيه 1967 ، لم يكن عبد الحليم قد غنى من أشعار الابنودي سوي أغنيتين الأولى عاطفية هي "التوبة" من ألحان بليغ حمدي، والثانية وطنية هي "الفنارة" لحن عبد العظيم محمد ، قدمهما خلال عام 1966 بعدها دخل الابنودي السجن على خلفية انتمائه لخلية شيوعية ، وسجن لمدة ستة أشهر في الفترة من أكتوبر 1966 وحتى مارس 1967، وعندما خرج من السجن طلب منه العودة الي الصعيد وترك القاهرة وعدم ممارسة اي نشاط في القاهرة فيما يشبه الاقامة الجبرية في قريته أبنود، وحين طلب أحمد سعيد من حليم أن يكون صوت المعركة من خلال "صوت العرب" كان شرط حليم ان يكون معه الملحن كمال الطويل وعبد الرحمن الابنودي، ورفض أحمد سعيد لكن أمام إلحاح وإصرار حليم رضخ سعيد ودخل في صراع مع اجهزة السلطة المختلفة لإقناعهم بالموافقة على عودة الابنودي، واضطر أحمد سعيد الي الاتصال بوزير الداخلية شعراوي جمعة وأقنعه بضرورة الاستعانة بأشعار الابنودي حسب رغبة حليم.
كان ذلك موقفا نبيلا من حليم تجاه صديقه الأبنودي ، فقد كان حليم يتعامل معه كأحد ركائز مشروعه المقبل في تجربة الغناء الشعبي التي دخلها بأشعار الابنودي وبسعيه هو إليه والي بليغ حمدي بعد نجاحهما الكبير شعبيا مع محمد رشدي ورغبة حليم في ولوج التجربة الشعبية على طريقته ، وها هو يعتمد عليه في أهم تجربة وطنية على وشك دخولها .
كان المنطق يفرض إختيار الشاعر صلاح جاهين لا الابنودي ، فالاول كتب أنجح وأشهر اغاني حليم الوطنية بمشاركة كمال الطويل حتى شكلوا معا ، ثلاثياً ناجحاً لاجمل الاغاني الوطنية ، لكن حليم كان يريد استعادة الابنودي ، وإعادته مجددا الي الحياة الفنية بعد غضب السلطة عليه وإقصائها له بعيدا في أبنود.
يقول الابنودي في لقاء تليفزيوني :" خرجت من السجن، وعدت الي أبنود وهناك شرعت في جمع أغاني الفلاحين للسواقي والشواديف ، وفي يوم 20 أو 22 من شهر مايو تلقيت اتصالا هاتفيا ، من أحمد سعيد وعبد الحليم حافظ ووجدي الحكيم ، حليم قال لي: أنت قاعد عندك بتعمل ايه مصر هتحارب تعالي القاهرة فورا ، ما تستناش واكتب الاغاني وانت جاي في السكة ، وفي القطار كتبت "إضرب" و"احلف بسماها وبترابها".
الأغنية القذيفة !
لحين وصول الابنودي كان حليم سجل أول أغانيه أو أول قذائفه للمعركة المرتقبة من كلمات صلاح جاهين وألحان بليغ حمدي وحملت عنوان "إنذار يا استعمار" سجلت في الثامن والعشرين من مايو تقول كلماتها : " إنذار يا استعمار وياعصبة الأشرار / انذار لكم وقدر مالكمشي منه فرار / من كل عود غلة في مزارع الثوار / انذار لكم وقدر مالكمشي منه فرار / من كل قارب صيد من كل عتبة دار / من كل باب مصنع من كل حوض ازهار / من كل نبرة فن مسهرة الاوطان انذار / من كل سن قلم من كل طلقة نار / من كل حبة رمل من أرض الوطن / قسما لانفني الصهيونية وننهي الاستعمار/ وده إنذار" .
وصل الابنودي الي القاهرة ومبنى الاذاعة ولحن محمد الموجي الاغنية التي كتبها الاول في القطار وهي أغنية "اضرب" التي كان يعاد بثها مرارا وتكرارا ، يدعو فيها حليم ناصر بأن يكون هو البادئ بالضرب ، فيما كانت القيادة السياسية حريصة على ألا تكون البادئة بالضرب حسب توصيات كل الاطراف الدولية ، نقلت الاغنية الي شريط إذاعي بعد تسجيلها في اليوم الاخير من شهر مايو، تقول كلماتها :
"اضرب لأجل الصغار اضرب لاجل الكبار/ اضرب لاجل النهار اضرب لاجل البلاد لاجل العباد / اضرب لاجل الولاد لاجل البنات والامهات / اضرب لاجل النبات لاجل الربيع لاجل الجميع / اضرب لاجل الورود لاجل الوجود / لاجل السلام والابتسام / اضرب كمان واسرق امل / لاجل الحياة ولاجل عشاق الحياة/ لاجل الحياة ولاجل صناع الحياة".
ويبدو أن الاغنية كانت بالفعل تزلزل كيان جنود العدو عند إذاعتها، وبعد الخامس من يونيه وخلال الايام التالية كان الجنود الاسرائيليون يسخرون من تلك الاغنية التي أغاظتهم كثيرا وحسب ما روى الفنان الموجي الصغير لكاتب هذه السطور ، كان الجنود الاسرائيليون يتهكمون ويقولون للأسرى المصريين خلال المعركة :" هذه الاغنية اسمها اهرب وليس اضرب ، وعندما نصل الي القاهرة سنقطع لسان عبد الحليم حتى لايغني مرة أخرى، وسنحطم يد الموجي كي لايلحن ثانية " حسب ما قال الفنان الموجي الصغير لكاتب هذه السطور.
كانت الأغنيات تكتب وتلحن وتسجل داخل مبني الاذاعة وكان حليم والابنودي وكمال الطويل والموزع على إسماعيل الذي قام بتوزيع جميع اغنيات المعركة يقيمون بشكل دائم في مبني الاذاعة، وكان العمل يحمل الكثير من المرونة كان الابنودي يكتب ويعدل من فوره ويتم تسجيل الاغنية واحيانا كان يتم كتابة وتلحين وتسجيل أكثر من أغنية واحدة في يوم واحد ،كان حليم ورفاقه يستخدمون مكتب الاذاعي وجدي الحكيم في أحيان كثيرة كغرفة نوم.
ثم جاء الدور على كمال الطويل ولحن "بركان الغضب" التي كتبها الابنودي ايضا تقول كلماتها: "يابركان الغضب ياموحد العرب / فور عالسهول فور عالرمال/ إنزل عليهم من التلات / من المدافع بالغضب ومن الخنادق بالغضب/ إغلي وفور وريهم كيف الموت يدور/ يابركان الغضب".
كانت الاغاني التي قدمها حليم جميعها يتراوح زمنها مابين نصف دقيقة وثلاث دقائق على الاكثر، وكان الغالب الاعظم منها فعلا يتراوح مابين نصف الدقيقة والدقيقة، كان شكلا جديدا للنشيد الوطنى الحماسي، شكل جعل من الاغنية تتحول الي مايشبه البيان العسكري أو قذيفة المدفع.
توالت البيانات العسكرية او" شعارات النصر" كما كانوا يطلقون عليها في الاذاعة وقتها وقدم حليم رابع بيان له تحت عنوان "راية العرب" لتتطور النصوص الي شكل دموي نعم قالها عبد الحليم في الاغنية صريحة "إسقوني من دماهم" يقصد الاسرائيليين ، وهي كلمة ربما لاتليق بمطرب كعبد الحليم حافظ ، لكنها الحرب وفي الحرب أمور كثيرة تصبح مباحة ، وفي الحرب إما ان تكون قاتلا أو مقتولا ، تقول كلمات الاغنية :"راية العرب ساكنة في قلب الريح / مشحونة بالغضب وفي الجنود بتصيح / اسقوني من دماهم / لا السما سماهم ولا القرى قراهم / إملو صدري بنسمة الانتصار".
كان الابنودي يكتب أغنية جديدة تتحدث كلماتها عن البيارات واشجار الزيتون التي تنادي ناصر بتحرير فلسطين عندما علم بان الاخبار على الجبهة ليست على مايرام فعدل من كلمات الاغنية محاولا التخفيف عن الزعيم جمال عبد الناصر فكتب أغنية "ولا يهمك ياريس" ولحنها كمال الطويل تقول كلماتها :" ولا يهمك ياريس / من الامريكان ياريس / حواليك اشجع رجال / ده الصبر قاد حرايق جوا صدور الخلايق /ما يصنع الحقايق الا عبور المحال "
في اليوم التالي لاعلان جمال عبد الناصر غلق قناة السويس امام الملاحة الدولية في السادس من يونيه ، واعلان السعودية والكويت والعراق وليبيا إيقافها تصدير البترول الي الولايات المتحدة وبريطانيا وألمانيا الغربية كتب الابنودي أغنية "يا استعمار آخر الاخبار" ولحنها كمال الطويل وسجلها حليم في اليوم التالي ، يقول فيها مهددا القوى الاستعمارية :" يا استعمار آخر اخبار / بترول مافيش قنال مافيش/ يا إحنا نعيش يا إنت تعيش / بس إحنا صناع الحياة / والموت لأعداء الحياة / لازم نعيش لازم نعيش".
بعدها اطلق الابنودي قسمه الذي ظل حليم يردده في كل حفلاته عهدا عليه حتى يتحقق الانتصار لمصر :" احلف بسماها وبترابها/ احلف بدروبها واوبابها /احلف بالمدنة وبالمصنع / احلف بالقمح وبالمدفع / بولادي بايامي الجاية / ماتغيب الشمس العربية/ طول مانا عايش فوق الدنيا ".
وبعد أن تحقق الانتصار لمصر في اكتوبر 1973 استعاض عنها حليم بأغنية "عاش اللي قال للرجال" التي ظل يفتتح بها كل حفلاته حتى رحيله ، كانت الفنانة ماجدة الرومي قد دأبت في الأعوام الأخيرة على غناء "أحلف بسماها " في حفلاتها، طلبت من الابنودي كتابة مقطع جديد يضاف للاغنية كي تسجلها بصوتها لكنه لم يقتنع بالفكرة وفضل أن تبقي كما هي حتى ولو كانت مدتها لاتتجاوز الدقيقتين .