الأربعاء 26 يونيو 2024

زفة محمل الكسوة الشريفة عادت بعد اختفاء طويل

مقالات27-5-2022 | 14:39

بعد أن صارت ذكرى يحكي عنها الأجداد نظرا لاختفائها تماما منذ مطلع ستينيات القرن العشرين، أعاد إحيائها على أرض الواقع المعهد العالي للفنون الشعبية، حيث نظم احتفالية محمل الكسوة الشريفة بنفس الأجواء الرسمية والشعبية التي كانت تصاحب خروج المحمل من القلعة وخلال مروره في شوارع القاهرة المحروسة .

المصريين يشاركون في موكب محمل الكسوة 

فهذا الحدث الفريد والثري بالعناصر الفولكلورية والمحبة الشعبية، حيث كان الشعب المصري يحرص على مشاهدة موكب محمل الكسوة الشريفة ومنهم من يحرص على تقبيله وملامسة الكسوة الشريفة لينال بركتها هذا المشهد أثار دهشة وإعجاب المستشرقين الذين عاشوا في مصر لرصد الحياة فيها ومما حرصوا على تسجيله في لوحاتهم وكتاباتهم زفة المحمل وفرحة الشعب المصري به، وكلما قرأت ما كتبوه أتخيل مدى التوقير والاهتمام العظيم سواء من الحكام أو الشعب، هذا المحمل بما يحمله من قيم دينية ومظاهر شعبية بدأ في عهد السلطان الصالح نجم الدين أيوب، حيث كانت زوجته الملكة شجر الدر تجلس داخل الهودج أثناء أدائها فريضة الحج ومن خلف الهودج أو المحمل تسير الجمال التي تحمل الكسوة الشريفة داخل صناديق، وأصبح بعد ذلك يسير فارغاً سنوياً أمام قافلة الحج. ويذهب البعض إلى أن فكرة المحمل أقدم من ذلك، وربما تعود إلى عصر ما قبل الإسلام، فكانت تُطلق على الجمل الذي يحمل الهدايا إلى الكعبة المشرفة، أما في العصر الحديث، فيسير ركب المحمل ووسطه هودج فارغ، أما الكسوة فكانت توضع في صناديق وتحملها الجمال التي كانوا يزينونها، وكان المحمل يطوف الشوارع بينما يصطف الشعب لمشاهدته، وتزين المحلات التجارية في أحياء وشوارع مصر القديمة مع الرقص بالخيول وعزف فرق الطبول والمزامير والموسيقى، وتلاوة الأذكار على طول الطرق التي تقطعها القافلة في شوارع القاهرة، فكان يتألق كبار المطربين والمنشدين فى إنشاد المدائح النبوية. وفى العباسية كانت تُتاح الفرصة للاقتراب من القافلة، فكان المحتفلون يحاولون مس المحمل بأيديهم أو تقبيله، مع زغاريد النساء من نوافذ المشربيات، وكان سكان المحروسة يعلقون زينات مخصوصة لهذه المناسبة لتظهر القاهرة في أبهى مظاهرها، وكانوا يبلون السكر بماء الورد في أحواض كبيرة يشرب منها الغادون والرائحون مدة ثلاثة أيام.

مسار موكب الكسوة الشريفة في مصر

وكانت الاحتفالات الرسمية والشعبية تبدأ بحفل رسمي كبير في الخرنفش أمام مسجد القاضي عبد الباسط قاضي قضاة مصر والمشرف علي صناعة الكسوة الشريفة حيث دار الكسوة التي أُنشئت عام 1818م, واستمر عملها حتى 1962م، ثم تخرج الكسوة في احتفال بهيج ويخرج وراءها معظم جموع الشعب المصري إلى ميدان "الرميلة" بالقرب من القلعة، ويسير خلفها قضاة المذاهب الأربعة، وجميع أئمة المساجد ورؤساء الطوائف والحرف ومشايخ الطرق الصوفية بأعلامهم وبيارقهم الملونة، وجماعات الدراويش. ويطوف الموكب شوارع القاهرة من ميدان "الرميلة" حيث مكان الاحتفالية، ويتجه إلى "الفسطاط" حتى جامع الحاكم بأمر الله بالقرب من باب النصر، وفى عصر الملك فاروق تغير موكب المحمل ليخرج من دار الكسوة إلى قصر عابدين مارا بمنطقة العتبة ثم إلى السويس، وظل المحمل يخرج بهذا الشكل إلى أن أختفي تماما في مطلع الستينيات من القرن العشرين.

معهد الفنون يجسد اتحفالية محمل الكسوة

بعد هذه السنوات الطويلة على اختفاء طلعة المحمل والتي كانت تجوب شوارع المحروسة وسط فرحة الشعب استطاع د. مصطفى جاد عميد المعهد العالي للفنون الشعبية أن يعيد لنا هذا الحدث المهم كأنه نقلنا عبر آلة الزمن إلى عصر الخديو إسماعيل رابع من حكم مصر من أسرة محمد علي في منتصف القرن التاسع عشر، ورأيت الخديو وفي صحبته مشايخ الأزهر وقادة الجيش والطرق الصوفية والجنود الذين يتقدمون الموكب والخيول والفرق الموسيقية، عشت خلال ساعات قليلة أجواء هذا الحدث وكم حزنت أن الوقت مر كلحظات حين أفقت منها وجدت نفسي أمام متحف الفنون الشعبية حيث نهاية مطاف الموكب الذي نفذه أساتذة وطلاب المعهد العالي للفنون الشعبية بأكاديمية الفنون تحت إشراف الأستاذ الدكتور مصطفى جاد، انه حدث أظنه لن يتكرر مرة أخرى على أرض الواقع، فكل التحية للمعهد العالي للفنون الشعبية أساتذة وطلابا لتنفيذ طلعة المحمل بهذا الشكل الرائع ..

يقول د. مصطفى جاد عميد المعهد العالي للفنون الشعبية بأكاديمية الفنون : - أن تقديم احتفالية فنون المحمل شهدت تجربة فريدة في إعادة تقديم عناصر التراث الشعبي ضمن الاحتفال بالقاهرة عاصمة للثقافة في العالم الإسلامي.

وأكد المعهد دوره الريادي في دراسة وحفظ ونشر هذا التراث بمنهج علمي وإبداعي.. قدم الطلاب شخوص الاحتفالية بأزيائها وأداءاتها التي كانت تقدم فيها، إلى جانب فنون اللعب بالعصا، والرقص على الخيل.. على حين شاركت الطريقة العزمية بكامل هيئتها وتقديمها لفنون الإنشاد إلى جانب الطريقة الرفاعية، إلى جانب المبدعون على الآلات الموسيقية الشعبية.

كما شاركت دار الكتب المصرية ببعض الوثائق التاريخية.. إلى جانب معرض الصور التراثية حول المحمل عبر التاريخ.. على الجانب الآخر اهتم الجميع بمظهر المحمل الهرمي الرائع الذي قام على صنعه حرفيو السيرما وتم تثبيته بعناية على ظهر جمل جهز خصيصًا لهذا الدور، ووسط الموكب المهيب للمحمل افترش الحرفيون الشعبيون منتجاتهم من كافة أنحاء المعمورة، وسط صيحات باعة العرقسوس، والسقاءون، ورائحة البخور، ثم تقدم المحمل إلى باب الكسوة وخلفه المئات في حالة توحد إبداعي مع الأغنية الشهيرة التي هزت قلوبنا: إلى رحاب النبي.. حتى انتهى الموكب أمام ساحة المعهد ومركز دراسات الفنون الشعبية الذي يمثل الأرشيف الوطني لتراثنا الشعبي.. وفي مشهد يدعو إلى الفخر والإعجاب كان صوت الطلاب والطالبات وأصحاب الحالات الخاصة يشدو بأجمل المقطوعات الشعبية: راحة فين يا حاجة.

وقد اهتم المعهد العالي للسينما (الدكتور عاصم السيسي) في إظهار الموسيقي الشعبية وعمل التحضيرات الصوتية اللازمة حتي خرج كل هذا الاحتفال على هذا النحو المبهر، وقد أحيطت الاحتفالية بفراشة من فنون الخيامية الملونة التي زادت المكان بهاء.. مع الأعمال الفنية التي شارك فيها طلاب المدرسة التكنولوجية.

من المهم هنا التأكيد على أن دعم الدولة ممثلة في معالي وزيرة الثقافة الدكتورة إيناس عبد الدايم، والدكتورة غادة جبارة رئيس أكاديمية الفنون والدكتور هشام جمال نائب رئيس الأكاديمية والهيئة الإدارية كان وراء هذا النجاح.

كل الشكر والتقدير لزملائي بالمعهد العالي للفنون الشعبية ووكيلة المعهد الدكتورة سمر سعيد التي تابعت الاحتفالية في كافة جوانبها، والدكتور حسام محسب قائد فريق التحطيب، والدكتورة ولاء محمد صاحبة المعرض الرائع والتوثيق الفوتوغرافي والفيديو للاحتفالية.. والباحثون بمركز دراسات الفنون الشعبية برئاسة د. خالد متولي، وجميع الطلاب بلا استثناء.. ومخرج العرض الطالب عبدالله طيرة.. والمايسترو الرائع محمد عوض الذي قاد الجانب الموسيقي.. ود. محمد الروبي المنسق العام للاحتفالية.. وجميع السادة عمداء المعاهد والوكلاء بالأكاديمية الذين شرفونا بالحضور.

نعم هو المعهد العالي للفنون الشعبية الذي أبهر الجميع وأعاد حالة من البهجة والحب للجميع.