كثيراً ما تضيع الحقائق، وتغيب الجواهر بين الركام، وتتشابه الأشباح في الظلام، ويكون الاجتراء والافتراء هو الأصل، والفهم العلمي والإدراك المعرفي السديد هو الاستثناء، وتكون الكلمة والسطوة للغلمان، والصمت المطبق من نصيب الشيوخ، ويسند أمر الدين إلي غير أهله، فتتناثر الفتاوي والتفسيرات المغلوطة في أفواه تلوك الشتائم والسباب للناس دون رابط أو ضابط.
حدث هذا في فترات عديدة من مسيرة التاريخ، حدث إبان مقتل أكابر صحابة رسول الله – صلوات الله وسلامه عليه – بيد الغدر والغل والحقد والاجتراء والافتراء على الشرع من قواد الخروج والمروق والبغي ويحدث الآن من الدم المراق والثروات المبددة والفتن المستعرة، وتنسب تلك الأفعال ظلماً وزوراً إلى الإسلام بزعم تطبيقه وإعلانه وإشهاره.
ديننا جوهرة ثمينة وبلسم شافٍ للعقول والقلوب للناس على السواء، ديننا الحق أشبه بين الأفراد فغالى به قوم فشوهوه، وفرد به أفراد فعابوه وطمسوا معالمه ومحاسنه.
ومن أهم صور الافتراء والاجتراء على الشرع الإسلامي الحنيف: ابتداع جماعات منسوبة إلي الدين، غير خاف علىمن له أدنى بصر وتبصر بالشريعة الإسلامية إيجابها للوحدة في إطار أمة واحدة، وتحريمها للفرقة ولو كانت ستحقق مصالحًا، ومن النصوص الواضحة القطعية: (وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا ( (وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ) (هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ(، وأيضاً تقديم الأمن العام للمجتمع على مجرد الإيمان في قوله تعالى (إِنِّي خَشِيتُ أَن تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ).
وما ورد في السنة النبوية عن حذيفة بن اليمان – رضي الله عنه – (كان الناس يسألون رسول الله عن الخير وكنت اسأله عن الشر مخافة أن يدركني، فقلت يا رسول الله: إنا كنا في جاهلية وشر، فجاءنا الله بهذا الخير فهل بعد هذا الخير شر؟ قال نعم، فقلت له هل بعد هذا الشر من خير؟ قال نعم، وفيه دخن، قلت وما دخنه؟ قال: قوم يستنون بغير سنتي ويهتدون بغير هداي، تعرف منهم وتنكر، قلت هل بعد ذلك الخير من شر؟ قال: نعم، دعاة على أبواب جهنم، من أجابهم إليها قذفوه فيها، فقلت يا رسول الله صفهم لنا، قال هم قوم من جلدتنا أي من أنفسنا وعشيرتنا ويتكلمون بألسنتنا، قلت يا رسول الله ما ترى إن أدركني ذلك؟ قال: تلزم جماعة المسلمين وإمامهم، قلت : فإن لم يكن لهم جماعة وإمام؟ قال: فاعتزل تلك الفرق كلها، ولو أن تعض على أصل شجرة حتى يدركك الموت وأنت على ذلك (.
فوجه الدلالة مما سبق:
• إيجاب الوحدة وتحريم الفرقة .
• عدم التسمي بغير الإسلام والمسلمين .
• عدم الانتماء أو الانضواء تحت فرق .
وبطبيعة الحال فإن كل فرقة أو جماعة تدعي أنها على الحق وغيرها على الباطل وأنها هي أمة الإسلام، هذا الفهم السقيم يصطدم بالضرورة مع النصوص الشرعية مثل (فَلَا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى (فالعلم والحكم لله تعالى، وليس للغلمان ولا لأمرائهم، وهذا المدعي السالف يوضح نهجه المشين القرآن الكريم ( كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (وعاقبته ( وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُورًا ( .
أما كونها دنيوياً لأنها بهدف الإمارة والرياسة والزعامة الدنيوية فيؤكدها الواقع فلو كان الأمر (دعوة دينية) لتركت إلي المؤسسات العلمية المعتمدة المتخصصة بديار المسلمين ويتحمل أهلها التبعة، أو على فرض شرعية قيام طائفة واحدة لإحياء شعائر وسنن فكان الواجب الاقتصار على طائفة واحدة لأن القاعدة الواحدة في إطار متناسق ويوكل لتدعيم هذه الوحدة نفر في مجال التفقه في الدين ( فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ) ونفس النفر هم(وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ).
أما هذا التشعيب العشوائي من جماعات متعارضة الوسائل والمقاصد متباينة المنهج والسمات والخصائص فمن اقوي الدلائل على توجهاتها الدنيوية وبالاستقراء في الاتهامات المتبادلة بين الجماعات من الجهالة والعمالة بل في ذات كل جماعة يتضح ويتأكد أن السعي الحثيث دنيوي وما حل بمجاهدي الأفغان والبوسنة والصومال ليس منا ببعيد.
ومحاولات احتواء المجتمع بالقوة المسلحة الغاشمة، أو باعتلاء المجالس النيابية والنقابات بمصر ليس منا ببعيد.
وبالمثال يتضح المقال:
أ ) من المعروف في الشرع الإسلامي أن الحاكم متى انتهي إليه الحكم إما بالبيعة، أو الاستخلاف، أو المغالبة فقد تثبت إمامته وعليه تجب طاعته والنصوص في ذكره كثيرة (أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْر مِنكُمْ )، (من فارق الجماعة شبراً فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه)، (ستكون هنات وهنات "فتن وغرائب" فمن أراد أن يفرق أمر هذه الأمة وهي جميع فاضربوه بالسيف كائن من كان)، (من أتاكم وأمركم جميع على رجل واحد يريد أن يشق عصاكم أو يفرق جماعتكم فاقتلوه)، (خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم، وتصلون عليهم ويصلون عليكم، وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم وتلعنوهم ويلعنوكم، قنا يا رسول الله أفلا ننابذهم عند ذلك؟ قال: لا ما أقاموا فيكم الصلاة) .
وجه الدلالة: دلت النصوص الشرعية على وجوب حق الطاعة للحاكم، وعلى تحريم الخروج عليه ولو بسبب قصور أو كره البعض له، ما لم يكن الكفر الصريح كإنكار أو جحود ما هو معلوم من الدين بالضرورة وفرق بين الإيمان بشرعية الشيء وبين إنكار شرعيته! فمن أنكر أو جحد بأن نفي المشروعية كإنكار مشروعية أركان الإسلام أو أركان الإيمان الأساسية فهو كافر لارتداده (ويجب قبل الخروج عليه إزالة شبهته وتنبيهه وإعلامه على ما هو مفصل في وجوب استتابة المرتد) أما المقصر في عمل شيء فهو مسلم عاصٍ، وعصيانه لا يوجب الخروج عليه بل الصبر عليه .
والواجب الصبر على الحكام الجائرين وعدم الخروج عليهم وعدم منازعتهم والأصل في هذا خبر (كن عبد الله المقتول ولا تكن عبد الله القاتل) وقد فقه كثير من الصحابة والتابعين ذلك فامتنعوا عن الخروج واعتزلوا الفتنة ولم يساعدوا الخارجين .
ب) استحلال الدماء والأموال والأعراض: من المعروف أن الإنسان إذا نطق بالشهادتين فقد عصم دمه وماله وعرضه لقوله صلى الله عليه وسلم (فإذا قالوها فقد عصموا من دمائهم وأموالهم )، وقوله صلى الله عليه وسلم( كل المسلم على المسلم حرام: ماله ودمه وعرضه).
وعليه فقتل المسلم حال عصمته المذكورة يجب على قاتله القصاص (في الجناية العمدية) أو الدية (في الجناية غير العمدية) وإتلاف مال يستوجب الضمان لقوله تعالي(وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ)
وتثبت العصمة بمعناها الشرعي أيضا لغير المسلمين إما بالعهد (من ولي الأمر ومن أهل الحل والعقد) أو بعقد الذمة، أو مجرد الأمان ولو من آحاد المسلمين (ويماثلها تأشيرة الدخول من السفارات والموانئ والأصل في هذا أثر (إلا من ظلم معاهداً أو انتقصه أو كلفه فوق طاقته أو أخذ منه، شيئاً بغير طيب نفس فأنا حجيجه يوم القيامة)
ويجب على الحاكم ومؤسساته التنفيذية حماية أهل العهد وتأمين دمائهم وأموالهم وأعراضهم وحمايتهم من كل من أراد بهم سوءاً سواء من المسلمين أو من غيرهم فلا يظلمون في عهدهم ولا يؤذون، كذلك المستأمنين .
ج ) الحكم على الناس: إما من وجهة العقيدة أو من جهة الشريعة، فأما من جهة العقيدة فهي أمر باطني لا يعلمه إلا الله تعالى (إن الحكم إلا لله)، وأما من جهة الشريعة فلا يحكم إلا بالكفر الصريح كإنكار شيء من أركان الإيمان أو من أركان الإسلام أو مما هو معلوم من الدين بالضرورة (بعد الاستتابة) أما القصور في شيء من الشعائر كسلا فلا يحكم بالكفر لأنه لم يخل عصر من العصور من القصور، ففي عهد النبي صلى الله عليه وسلم هناك من الناس من زنا أو سرق أو شرب المسكر أو لم يصل ومن بعده سيظل التزام وقصور، وخير وشر إلى يوم القيامة، والمجتمع المثالي لا وجود له في الواقع اللهم إلا في الخيال والتوهم.
ثم من له مهمة الحكم على الناس؟ بطبيعة الحال (السلطة القضائية بعد السلطة العلمية المعتمدة المعتبرة) أما آحاد الناس فلا، وقد اتفق فقهاء الأمة سلفاً وخلفاً على هذا.
وللأسف فإن حمى التكفير للناس توجد بذورها الأولى في نزعة دعوية مشهورة باتجاه عقائدي تتعصب له، تدعي انتماءها للسلف الصالح، وتستوي على عودها في جماعات العنف المسلح لدفع أتباعها للإقدام على جرائم انتهاب الأموال وتدمير الممتلكات العامة والخاصة وإراقة الدماء ومرجعهم في هذا التأويل فاسد لبعض النصوص الشرعية، وبتر للمعاني وتلقي كتابات فقهية لبعض كبار الأئمة القدامى التي كتبوها لظروف خاصة وأوضاع طارئة (مثل ما كتب خلال الحملات الصليبية، وتسلط غير المسلمين وغير العرب على الحكم في بعض البلدان عقب العصر العباسي)، وانسياق بعض قليلي العلم وأشباه العلماء لتلقين الناشئة أفكارا خاطئة لحساب جماعة سياسية معنى دينية مبنى (أي سياسية حقيقة، دينية ظاهراً – كالجماعة التي انضمت للفكر العلماني في حزب سياسي مدة، ثم ارتمت في أحضان النهج الاشتراكي في حزب آخر وليبرالى بعده بغية تبوأ مناصب سياسية ونيابية ).
د ) تغيير المنكر باليد: ومن الممارسات الخاطئة اعتقاد منسوبي هذه الجماعات أن المنكر لابد أن يزال بالقوة الجبرية منهم، ومن ثم يتعللون بإقدامهم على حوادث العنف بفهم سقيم ونظر كليل لقضية (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) وغير خاف على ذي بصر وبصيرة، أن المهمة تكون في الأمور العامة الكبرى لطائفة مؤهلة قال الله تعالى (ولتكن منكم أمة يدعون إلي الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون ).
وخبر (من رأى منكم منكراً فليغيره بيده فمن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان (
وقد فقه كبار العلماء هذا فهذا هو القرطبي يقول (الأمر بالمعروف باليد على الأمراء، وباللسان على العلماء، وبالقلب على الضعفاء) . يعني عوام الناس، ويقول ابن تيمية (فذو السلطان أقدر من غيرهم، وعليهم من الوجوب ما ليس على غيرهم، فإن مناط الوجوب هو القدرة، فيجب على كل إنسان بحسب قدرته، قال الله تعالي "فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ").
ويقول الزمخشري(الإنكار الذي بالقتال فالإمام وخلفاؤه أولى لأنهم ألم بالسياسة ومعهم عدتها)، فمن يلجأ لإزالة المنكر من غير السلطات التنفيذية يكون مجترئاً على النصوص الشرعية ولا يسلم من المؤاخذة خاصة وأنه – غالباً – سيلجأ إلى إزالة الضرر بضرر أشد (إما بضرر يلحقه في بدنه وإما بضرر في الأمة كإحداث فتن) والقاعدة الشرعية (الضرر لا يزال بمثله ).
إزالة المنكر باليد إنما هي الحاكم أو من يفوضه من السلطات المعنية.
فهل بعد هذا التبيان والإبلاغ إلا أن ننصح بالحق للعودة إلي جماعة المسلمين الواحدة (سوادها الأعظم) وترك ما ليس من عمل أو تخصص المدعي .
ولأبنائنا وإخواننا المغرر بهم أقول لهم :
لا تكونوا مصعداً لغيركم يرتقي عليه لمطامع دنيوية .
لا تكونوا وقوداً لمحبي الزعامة لمحاولة وصولهم على أشلائكم إلى الولاية الدنيوية (وقد سمعتم من يقول لا تصلح ولاية الضرير فرد عليه لا تصلح ولاية الأسير ).
كونوا دعاة خير (بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن) ولنقل لكل خارج ومارق ومغرر به (فهل أنتم منتهون)؟
ومما يجب التنبيه عليه أن أكابر الجماعات بمصر والسعودية وغيرها أعلنوا عبر الوسائل الإعلامية المتنوعة تراجعهم عن أفكارهم وخطأوا بأنفسهم تصوراتهم وأصدروا كتباً وبيانات عديدة.