أصبح من المهم والحتمى أن نطمئن على سلامتنا العقلية والنفسية والعصبية فى ظل تداعيات أزمات عالمية خانقة وضغوط حياتية رهيبة، وصراعات ومشاحنات وكراهية وأحقاد وعنصرية وتطرف وإرهاب وأكاذيب، وتطلعات جامحة، ومخدرات على كل شكل ولون وحروب وغزو ثقافى لترويج أفكار شاذة وغريبة.. فهل يتحمل الإنسان كل هذه الضغوط.. ولماذا نخجل إذا تعرضت النفس إلى اعتلال أو مرض.. لماذا لا تتساوى المحن النفسية مع الأمراض العضوية، لماذا لا نجتهد فى التصدى لهذه الظاهرة، ونطمئن على صحتنا النفسية والعصبية قبل فوات الأوان.. وحتى لا تتحول إلى جرائم تهز المجتمع.. الحقيقة نحن أمام جرس إنذار وناقوس خطر.. يدق على رءوسنا فى دعوة للانتباه واليقظة.. حتى نستفيق ونجعل من شهادة الصحة والسلامة النفسية أسلوب حياة.. وحتى لا نعيد تكرار نفس الأخطاء.
ليغفر لى القارئ على تكرار الكتابة فى هذا الموضوع الشائك، والقضية التى أراها مهمة للغاية، وتشكل خطراً داهماً على سلامة الأسرة والمجتمع، فى ظل جرائم غريبة وشاذة، تتسم بالتوحش والتشفى والانتقام والبربرية.. بل وصلت الأمور إلى تجاوز الخطوط الحمراء بالإقدام على قتل الأبناء من الأطفال الأبرياء، أو الأب والأم والشقيق والزوج أو الزوجة، أو القتل بأسلوب أكثر وحشية لا يمت للإنسانية.
أمامى جرائم وحالات كثيرة تكشف عما يقترب من ظاهرة وهى القتل لأتفه الأسباب أو أسباب غير واضحة، أحياناً المخدرات، وأحياناً جرائم أخلاقية، وأحياناً أخرى أمراض نفسية وذهنية وعصبية لم نتعامل معها بالشكل الصحيح، ولم نولها الاهتمام المطلوب فى ظل غياب الوعى بخطورة مثل هذه الحالات.
أعتقد أن الإنسان بشكل عام فى مختلف ربوع العالم يتعرض لضغوط نفسية رهيبة، سواء بسبب أزمات جاءت من وطأة هلاك أعداد كبيرة من البشر بسبب الأوبئة والفيروسات، وآخرها «كوفيد ــ19» وما ترتب عليه أيضاً من «احتباس إنساني» وانغلاق وعزلة وعدم انطلاق وحرية الحركة والسلوك والاحتراز المبالغ فيه، وارتفاع نسب التعطل والبطالة وفقدان الوظائف بسبب تداعيات الجائحة.
الأمر أو السبب الثانى الضغوط الرهيبة التى يتحملها الإنسان.. هى تداعيات الحرب الروسيةــ الأوكرانية، أدت إلى ما هو أخطر من تداعيات «كورونا» سواء فى تعطل سلاسل الإمداد والتوريد، وزيادة الأسعار، وارتفاع التضخم، وانتشار البطالة، ونقص السلع والموارد دون وجود مؤشر حقيقى على اقتراب نهاية الأزمة، كل ذلك أدى إلى عطب واختلال واعتلال نفسى للبشر وارتفاع معدلات الفقر والانتحار والأمراض النفسية، بالإضافة إلى تبنى ثقافات وأفكار شاذة وغريبة، وانفتاح بلا حدود، لا يتواكب ولا يتسق مع الفطرة الإنسانية.
الأمر الثالث.. الذى يجب أن نتوقف عنده، ويتسبب فى أمراض نفسية وعصبية واختلال وعدم توازن نفسي.. هو انتشار العنصرية والكراهية، والإرهاب الأسود والتعصب.. ولعل الجرائم النكراء والبشعة التى ارتكبها الإرهاب الأسود بميليشياته وتنظيماته المتطرفة والتكفيرية فى إزهاق حياة البشر والتنكيل والسحل والاغتصاب والذبح والحرق والتفجير واغتيال الأمل فى الحاضر والمستقبل، وهدم الأوطان والتشرد، ومعسكرات ومخيمات اللاجئين، بالإضافة إلى التمييز والتطرف والتشدد، وكوارث التغير المناخى والاحتباس الحراري.. وتداعيات انفجار الطبيعة.. وغزو الإنسان لها، وتماديه فى النيل منها وإيذاء نفسه والإضرار بباقى جموع البشر من تلوث وحرائق وفيضانات وبراكين وزلازل، وصقيع يصل إلى حد التجمد وانهيار منظومة الأخلاق وانتشار الفحش والمثلية والشذوذ.. كل ذلك أدى فى النهاية إلى كراهية الإنسان لنفسه.. وزهده فى الحياة وإقدامه على الانتحار وإزهاق حياة الأبرياء.
العالم مليء بالجرائم البشعة والوحشية، ولعل انتشار جرائم القتل فى الولايات المتحدة وهو مجتمع مفتوح بلا سقف أو حدود وحريات وإباحية وأفكار غريبة، بالإضافة إلى جرائم الإرهاب والقتل والسحل والدهس فى أوروبا.. لذلك فالإنسان يواجه مأزقاً خطيراً.. هل هو مَن تسبب فيه، هل ابتعاده عن الفطرة ومعاندته لقدرة الخالق، هل حالة التمرد والتآمر وانتشار الشر والبراجماتية والأنانية والمصالح والأطماع هى السبب.. الحقيقة نحن أمام مأزق خطير.
الأزمات تتوالى وتنشط.. من كارثة إلى أخري، والبشر يتحملون النتائج والتداعيات.. ويضيق الحال أمامهم وتصبح السعادة أو الرضا أملاً بعيداً، وصعب المنال.
جريمة الدقهلية.. حيث أقدمت أم لثلاثة أطفال أبرياء فى عمر الزهور على ذبحهم، رغم استقرار كل العوامل مثل التعليم والثقافة والمستوى الاقتصادى والأخلاقي، هو ما يفتح الكثير من التساؤلات، ويشير إلى إهمال ملف خطير هو «الصحة النفسية»، وهى فريضة غائبة عن مجتمعاتنا، فلا يمكن أن نتصور أن فتاة لم يمض على زواجها أيام قليلة، وتسير مع زوجها على أحد الكبارى على النيل، وهى فى منتهى السعادة.. وتمسك بيد زوجها، ثم تقرر فجأة وبدون أسباب ومقدمات أن «تفك» يدها من زوجها وتلقى بنفسها فى النيل.. لولا وصول «المسطحات المائية» بسرعة لغرقت وماتت، والسبب نفسى بحت وبدون شك أنها تعانى من اعتلال أو أزمة أو مرض نفسى أجبرها على هذا الفعل غير المبرر بالنسبة لنا.
الحقيقة أن ضغوط الحياة كثيرة وتحدياتها صعبة فى ظل عالم يتصارع، ويتطاحن، ولا يدرى أنه يسير على طريق الهلاك.. فمن أزمة عالمية إلى أخرى أكثر صعوبة وتعقيداً، أو تأثيراً على حياة البشر، وتداعيات خطيرة تؤثر على الاستقرار النفسى للإنسان.
لكن التوقف أمام هذه النوعية من الجرائم لابد أن يأخذنا إلى معالجة مختلفة تبدأ بالوقوف بالبحث والفحص والتحليل لمثل هذه الجرائم العنيفة التى هزت المجتمع، ودقت جرس إنذار خطير.. للتعرف على الأسباب ووضع آليات واستراتيجيات للعلاج والشفاء والتصدى لمثل هذه الظاهرة الخطيرة.
أيضاً لابد من مصارحة النفس بأن المجتمع أصبح يعانى من ميراث شديد الوطأة، خلفَّته أفكار شاذة وغريبة ومتطرفة.. فكيف للإنسان أن يتحمل جرائم الإرهاب الأسود على مدى 10 سنوات متواصلة، ومازال يحاول العبث والنيل من أمننا واستقرارنا، فوجود جماعة الإخوان المجرمين على مدار عقود نهاية بالعقد الأخير الذى شهد أفظع جرائمهم وإرهابهم، هو أمر قاسٍ على النفس، وعلى النساء والأطفال.. فكيف يرى الدماء والقتل والهلع والفزع والخوف، وكيف تتحمل النفس الإنسانية هذه الوجوه الكارهة القبيحة التى تنشر الخبث والسموم والتطرف والتشدد والوعيد والتهديد بالقتل والجرائم، إنها وجوه أقرب إلى الشيطان.. تتعارض مع النفس الإنسانية المسالمة المحبة للحياة.. والتسامح والتعايش والتعارف والتآلف.
حياة المصريين منذ 2011.. مشاهد شديدة الصعوبة.. عاشوا أياماً شديدة القسوة من فوضى وانفلات وفزع وخوف وجرائم وسرقات ونهب وحرق وغياب للشعور بالأمن والأمان.. ثم جاءت جرائم الإخوان الإرهابية فى حق الشعب المصري، ومدى تأثير هذه الأجواء على التكوين والصحة النفسية للمصريين.
ثم الحديث عن تأثير المخدرات.. والسوشيال ميديا والإعلام الجديد فى ظل انتشار أفكار شاذة وغريبة عن مجتمعنا ومحاولة ترويجها بغزو ثقافى وسلوكى ممنهج يستهدف تغيير البنية الأخلاقية المصرية، ومن ثم يجدر الحديث عن الأكاذيب والشائعات والتشكيك والتشويه والتحريض، والدعوة إلى الفتن والقتل وسفك الدماء، ومشاهد تبثها الجماعات والتنظيمات الإرهابية تظهر جرائم قتل وإزهاق لأرواح الأبرياء.. ثم الحديث عن حالة التوهان الدينى والفكرى ومحاولات لتشويه الدين وضرب الثوابت والإساءة للمقدسات والنصوص والرموز الدينية وحالة الاستباحة التى يتعرض لها الشرفاء، سواء من الرموز أو الناس البسطاء.. كل ذلك ساهم فى زيادة التداعيات القاسية على النفس الإنسانية وحالة الصراع الذهنى والفكرى والنفسى التى ربما وفى حالات لا يستطيع تحملها.. وتظهر فى شكل جرائم أو انحرافات سلوكية.
نحن أيضاً فى حالة افتقاد للمتعة والصفاء والرضا، والرقي.. نفتقد للأوقات الجميلة التى نستمتع فيها سواء مع الأهل أو الأسرة أو الترويح عن النفس أو متعة الفن والغناء والموسيقى والقراءة، وشاى العصارى واللمة الحلوة والبساطة.. وانتشار حدة التطلعات بسبب ما يبثه الإعلام من مستويات تفوق طاقته وقدراته وموارده ومستوى حياة مختلف.. وهو ما يسبب حالة صراع داخلي.
نحتاج إلى رؤية لمواجهة حالة الاعتلال والعطب والخلل النفسى الناتج عن ضغوط وصعوبات وأزمات الحياة.. لإعادة التوازن إلى النفس، لابد أن نستمر فى الاطمئنان على الصحة النفسية للمواطن ونُعْلى من شأن هذا الأمر كالتالي:
أولاً: يجب أن ترقى قضية الاهتمام بالصحة النفسية للمواطن إلى الاهتمام بالأمراض العضوية والكشف عن المخدرات.. ولابد من مقاومة حالة الشعور بالخجل أو العار أو التردد فى الذهاب إلى طبيب نفسى فى حال الشعور بأعراض ومظاهر الاختلال النفسي.
ثانياً: التوسع فى الاهتمام بالعلاج النفسى بالمستشفيات الحكومية، وتكون لها عيادات أو أقسام خاصة مثل باقى الأمراض العضوية والتخصصات الأخري.. وتخصيص خطوط اتصال وأرقام ساخنة للإجابة عن تساؤلات المواطن فى هذا الإطار.. من خلال خبراء وأطباء متخصصين، وسؤال دار الإفتاء.. لأن كون الدولة تهتم بهذه القضية فإن ذلك يعكس ويشكل وعياً لدى المواطن فيما يخص المرض النفسي.
ثالثاً: على الإعلام أن يولى اهتماماً كبيراً بأهمية العلاج النفسي.. والتأكيد بالطرق المباشرة وغير المباشرة، أنه ليس عيباً أو عاراً يستدعى الخجل والتخفي، وهو نفس الدور الذى يجب أن تؤديه الدراما، حتى يترسخ فى عقل ووجدان المواطن أنه مرض عادى مثل سائر الأمراض، يستوجب الكشف والفحص والعلاج والدواء.
رابعاً: أن يكون الكشف والفحص النفسى للمواطن أمراً أساسياً مثل الكشف عن المخدرات، فلا يمكن أن أمنح رخصة قيادة لمواطن دون شهادة السلامة النفسية.. وتكون مشددة، لا يمكن التلاعب فيها أو استخراجها بالطرق الملتوية والأساليب والألاعيب والفهلوة التى عهدناها فى بعض الأمور الأخري.
خامساً: لا يتم أى زواج دون الكشف الطبى الكامل.. ولا يتم التنازل عن شهادة السلامة النفسية والاطمئنان على الحالة الذهنية والعقلية والنفسية للمقدمين على الزواج، ويتم تجديد الشهادة كل 3 أو 5 سنوات.
سادساً: تطبق هذه الآلية مرحلياً بحيث تكون على طلاب المدارس المنتقلين من مرحلة إلى مرحلة دراسية أخري، مثل الانتقال من الابتدائى إلى الإعدادى إلى الثانوي.. والأوراق التى يتقدم بها الطالب لأى مرحلة لابد أن تتضمن شهادة السلامة النفسية.. وكذلك فى حال استخراج أى أوراق رسمية مثل جواز السفر وغيره من الأوراق المهمة.. ولابد من إبراز هذه الشهادة فى حال السفر بواسطة القطارات أو الطائرات أو السفن.. وفى اعتقادى أن المشروع القومى للتأمين الصحى الشامل.. وهو نظام يرتبط بعلاج الأسر ومتابعتها بشكل دورى وفق قاعدة بيانات صحية وطبية لابد أن يتضمن شهادة السلامة النفسية وإجراء الفحص والكشف النفسى بشكل دورى واستبيان خطورة الحالة وتوقع تطوراتها.. وإذا وجدت خطورة فى الأمر يتم عزل المريض حتى لا يشكل خطراً على أفراد الأسرة.
سابعاً: المؤسسات الدينية عليها دور كبير فى ترسيخ وغرس الجانب الإيمانى واللجوء إلى المولى عز وجل.. ونشر أفكار الترغيب والتفاؤل والأمل والحديث عن رحمة رب العالمين ومغفرته.. بدلاً من أفكار التهديد والوعيد والنار والتشدد والتطرف وفتح أبواب الأمل والتفاؤل أمام الناس.. والمساهمة فى تخفيف وطأة الاعتلال النفسى بمساعدتهم على السكينة وعدم الخوف والثقة والاطمئنان والحديث معهم برفق ولين، فالمولى عز وجل يخاطب نبيه (صلى اللَّه عليه وسلم) بقوله: «ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك».. ثم «وجادلهم بالتى هى أحسن».. «واخفض جناحك للمؤمنين».. ونشر ثقافة جبر الخواطر.. وعدم تحريم ما أحله اللَّه عز وجل وفتح باب الاستمتاع بالحياة بما لا يتعارض مع ما يحرمه اللَّه بنصٍ ثابت.. ويحتاج إلى رجال دين أكثر انفتاحاً وبشاشة وبهجة وحباً واحتواء بعيداً عن التجهم والغلظة والقسوة والجمود.. فالدين يسر وحياة وتسامح ورحمة وإنسانية ولين.. لكن خلَّف الإخوان المجرمون وراءهم نموذجاً غريباً وشاذاً وعنيفًا ومتطرفاً ومتشدداً لرجل الدين، الإسلام منه بريء.. فالمولى عز وجل يقول فى محكم آياته: «لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رءوف رحيم» صدق اللَّه العظيم.. «سورة التوبة الآية 128».
فالرأفة والرحمة هما أساس الإسلام وقد منح المولى عز وجل من أسمائه الحسنى لنبيه المصطفى اسمين هما الرءوف والرحيم.. لذلك هؤلاء المجرمون من الإخوان والتكفيريين أساءوا إلى الإسلام، وشوهوا تعاليمه وأصابوا الناس بالارتباك.. وعندما اكتشف الناس حقيقتهم.. أصيبوا بصدمة وحيرة تسببت فى صدمة نفسية أو ابتعاد عن الدين أو إلحاد وما يتبعها من سلوكيات وأفكار غريبة تتلخص فى الكفر بكل شيء بسبب إجرام ونفاق وأكاذيب وتطرف وخداع وتدليس الإخوان المجرمين.
أعتقد أن الجرائم البشعة الأخيرة تدق ناقوس الخطر وبقوة.. ومع كل جريمة تهز المجتمع.. نفزع ونصاب بالهلع، ونتحدث عن العلاج والمواجهة.. ثم نصمت ونسكت وننسي.. ثم مع كل جريمة جديدة نعاود نفس السلوك.. لذلك علينا أن ننتبه إلى تداعيات الأزمات العالمية وضغوط الحياة، وافتقاد المتعة، وحالة الصراع النفسى الداخلي.. والطموح الجامح مع ضيق الحال والقدرة، وسقوط أقنعة الجماعات المتطرفة والتكفيرية والإرهابية.. كل ذلك يستوجب الاطمئنان على السلامة النفسية والعصبية والذهنية للمواطن حتى لا يكون قنبلة موقوتة تهدد بعواقب وخيمة.
تحيا مصر