السبت 27 يوليو 2024

أحزان حبيبة

مقالات10-6-2022 | 23:29

في وقتٍ لم أكُن فيهِ غَيرَ قِطعةٍ من اللَّحمِ، لُفت في أقماطِها، تتقاذفها الأيدي في تأففٍ، وتتبعها العيون في اشمئزازٍ، قالت "كريمة"الدَّاية، مع أولى صرخاتي: "تتربّى في عِز أبوها"، قذفتني مُكرَهة لجدتي، التي غَامت الدُّنيا في وجهها، لتَضعتني فِي غَصّةٍ بجِوارِ أمي التي كانت في سكرةِ، تَندِبَ حظها بوجهِ مأزوم: "بت تاني، هو أنا ناقصة بنات يا ربي؟!"، سَادَ الغُرفة صمتٌ قاتل، تنادت الوجوه المُكفَهِرة في تأنيبٍ، شهقت جدتي في تضرعٍ، تتمنى لي الموت على أن أبقى يومًا، عَادَ أبي من الحقلِ؛ يتَوارى من سوءِ ما بُشِّرَ بهِ، مشت الأيام لم يتغيّر طبعه فضَاقَ بالبيتِ، كَرِه بكائي، حتّى أمي ضنّت عليّ بثدييها، ولولا بقية خشية؛ لتركتني أعاني حتّى يأت أمر الله.

مُبكِرا حَملت زوجة عمي لواء عداوتها، تتخايل في تعريضٍ وقح، تسوقَ النّكد للبيتِ وأهلهِ، رُزِقت بأربعةٍ من الذكورِ، تقَولُ وهي بذيئة اللِّسان محلولته: "حبيبة! يعني من قلة الأسامي؟"، عندها تستجدي أمي الرَّحمة فلا تجدها، تتردد نفسها بينَ مَهابطِ الأملِ، ومعارجِ اليأس.

أمضيت شطرَ طفولتي، ونضارة صباي على هذا الأسى، انكفأ والدي أسيفا على أحزانهِ،  حتّى وإن تعلّل ظاهره بالرِّضا، تلفحهُ نار الشماتة من عائلتهِ، اطلقوا عليهِ في تبَذُّلٍ "أبو البنات"، رأيتهُ أكثَرَ من نوبةٍ ؛ وقد اخضَلت لحيته بالدُّموعِ باكيا، مُبتَهِلا أن يهبه الله الصّبرَ، لينزعَ عنه ثياب الذُّلِ، اعتزلت أمّي نساء الدّرب، ازددنا  في تلك الأثناءِ تعلقا؛ علّها تصلح من نفسها الحزينة، لم يكن أبي ليغفرَ لي خطيئتي كأنثى، يندمج في تودّدٍ باهت، وتقرّبٍ مصطنعٍ، سُرعانَ ما يعود لسَابقِ عهدهِ قاسيا كالحجارةِ، أو أشدّ قسوةٍ، منزويا في رُكنِ، ينفثُ دخانه من غابةِ "الجوزة" التي أضحت سلواه، يطبق دخانه على صدري كَرُسل الموت، تتخطّف روحي بأيديها الغِلاظ، يغلبهُ النَّوم؛ فيتمدّد، يَكادُ يتَميّزُ من الغَيظِ، لم تشفع لي نباهتي، في جرأةٍ أعيدُ من فوقِ ظهر الفُرنِ أحاديثَ الراديو وأغانيه، تُغالِبُ الابتسامة وجه أبي الذاهل، فتتأتي ضحكته نهنهة ثقيلة، قادمة من أعماقِ جُبٍّ سحيق، سُرعانَ ما يُكشِّر عن أنيابِ غضبهِ، يفيق مِنْ سكرتهِ، يَتحسّس عصاه التي تعرف طريقها إلى ظهري، مضت الأيام مشحونة بالأوجاعِ، تُخالِطُ صدري أمنية عزيزة، كنشيدِ لا أملّ تكراره؛ أن يرزق البيت الذّكر الذي يُفكّ بهِ أسرنا.

سَاقَ القدر قريبة من الصّعيدِ، امرأة قاسية الملامح، متحجِّرة القلب، قَبلَ أن تُجفّف عنها عرق السّفر، قالت: "عندنا شيخ مبروك لابُدّ أن تزوره"، عندها برقت عينا والدي كغريق، بعد هنيةٍ زاره، عَادَ سريعا تُزايل وجهه ابتسامة لم نعهدها، لأجدني وقد صحبتهُ في رحلتهِ، ألبستني أمي ملابسي الجديدة، أعطاني أبي قطعةً من النَّقدِ ما كنتُ لاحلم بمثلها، يَسوقني في مجاهل لا أعرف لها نهاية حتّى وصلنا، هالني مرأى الشيخ، مَدّ الرّجل أصابعه الطوال؛ وضَربَ جبهتي، بَرطمَ بتعاويذه المُبهمة، طالعت ملامحه الشيطانية، وريالته المتساقطة فوق ثيابه؛ اشمئزت نفسي، عدنا للبيتِ ليبدأ مسلسل العذاب، جردتني أمي من ملابسي، واحضرت جمرًا يتلظّى، جعل أبي يحرقني بتلك النار، وسط دعوات أمي: "ربنا يفك العقد على إيديها"، قدّمني أبي قُربانًا سَخيًا، أخبره الشّيخ أن في تعذيبي بالنارِ، إبطالٌ لسحرٍ قديم، وأنّ الأسياد اختاروني للمَهمةِ، تُردّد أمي في اطمئنان: "أحسن أنّهم اختاروها، دي حتّى شبه عمتها فوزية السمرا"، بمرورِ الأيام يئس أبي من علاجهِ، كما يئست من رحمته.

أمّا أمّي فمع السّنين تعوُدت أذنيها الشّماتة من النساءِ، انصاعت مُرغمة، تهدهد سِرا أحلام الأمس.

مدّت يدها "حبيبة"، حَرّكت مفتاح سيارتها، بعدما لاحت ابنتها قادمة من بوابةِ الجامعةِ، استقبلتها بابتسامةٍ منعشة، ليَذوبَ موكبهما وسط الزحام.