السبت 11 مايو 2024

أسبوع العندليب.. عبدالحليم حافظ تمرد على المحافظة الفنية وحاربه القدماء

العندليب عبد الحليم حافظ

فن19-6-2022 | 19:42

منار بسطاوي

يحتفل عشاق العندليب الأسمر عبدالحليم حافظ، هذا الأسبوع، بالذكرى الثالثة والتسعين لميلاده، والتي توافق 21 يونيو، ورغم مرور 45 عامًا على وفاته، إلا أنه لا يزال محافظًا على مكانته الكبيرة في قلوب محبيه، كواحد من أهم المطربين في تاريخ مصر.

وننشر لكم من أرشيف «دار الهلال»، حوارًا أجراه العندليب عبد الحليم حافظ في بداياته، تحديدًا صيف عام 1953، وإليكم نص الحوار:

القاهرة.. صيف 1953

المكان: حديقة الأندلس

الساعة العاشرة مساء

عبد الحليم حافظ..

مسرح الأندلس يقف عليه مطرب جديد اسمه عبد الحليم حافظ..

الأغنية التي يترنم بها تقول: صافيني مرة.. وجافيني مرة.. ولا تنسنیش كده بالمرة

وأسدل الستار على المطرب الجديد، لتنقلب صالة الحديقة إلى ثورة عاصفة من التصفيق، حتى التهبت الأكف، وطالبت بعودة المطرب إلى المسرح، وساد هرج ومرج في الحديقة وأخذت الشفاه تترنم بمقاطع الأغنية التي كان يغنيها المطرب.

ووراء كواليس مسرح الأندلس كنت انتظره.. وفجأة وجدت نفسي أصفق له بحرارة.. وأعانقه فهمس في أذني، ومعالم وجهه ترسم معاني فرح لا حد لها، یاتری کنت موفق!؟ وآومات إليه بقوة، فقد  كانت  أي إجابة مني، ستتوه حتمًا وتذوب خلال هذا الهدير الذي ساد كل شبر من الحديقة.! ويومها أحببته، أحببته بجد فهو «لون» جديد من الطرب، يتسلل إلى أعماقك في هدوء، ويحتل كل كيانك، ثم يجعلك تتمتم بلا شعور بكلمات الأغنية التي تسللت إليك، لون جديد لا هو «زعاق».. ولا جدعنة، حناجر ! بل أداء سهل في وضوح وعمق، وحلاوة.

وبسرعة وصل عبد الحليم حافظ إلى القمة وأصبح واحدًا من الذين نسميهم "المطربون الكبار"!، وعبد الحليم الذي صنعه الألم، وصهرته الدموع، هو نفسه الذي يعيش مع ثورة!، ثورة من أجل الوصول إلى شيء اسمه الكمال الفني!.

و«الكمال الفني» ليس كمال الطويل بالطبع، وإن كان كمال هو أحد العناصر اللازمة لعبد الحليم للوصول إلى هذا الكمال الموسيقى، ففي كل لحظة لا تلقاه، إلا وهو يتحدث عن الموسيقى، وتتغير ملامح عبد الحليم ويثور فإن الحال "المايل" لا يعجبه!.

الجيل القديم «حانق» على الجيل الجديد، فالجيل القديم يريد أن يصب الجيل الجديد في نفس القالب الذي صب فيه أخينا القديم.

مع أن الموسيقى زمان، موسيقى هؤلاء القدماء كانت ارتجال، فقط!، لا هي كانت مصرية، ولا شامية، ولا تركيه أبدًا!.

وظل الحال هكذا، الناس تسمع هذا الخليط العجيب من الموسيقى، وهي صامتة، أفلم يكن هناك أي موسيقى أخرى يفرون إليها، حينما يشعرون بالصداع من موسيقى الارتجال!، حتى جاء سيد درویش!.

واعتدل عبد الحليم في جلسته عندما جاء ذكر سيد درويش وقال:

ولما جه سید درویش استطاع أن يحول هذا الارتجال إلى موسيقى ذات قواعد وأصول وذوق، فلما جدد سید درویش، فوجيء بالناس تسمیه «خواجه»! تصور!.

قلت له وأنا أشفق عليه من ثورته: لماذا؟

وظهرت ابتسامة، محببة إلى نفسي على سحنته وقال:

 لأنه جدد! كل واحد يتطور من قديم إلى جديد يسمونه «خواجة»، ! وكل واحد يحافظ على القديم، مهما كان ذوق هذا القديم يسمونه بسلامته «محافظ»!، وأكثر من هذا، جاء عبد الوهاب فأکمل رسالة سيد درويش، ومع هذا بعض الناس مش عاجبهم حال عبد الوهاب.

وقاطعته: إيه السبب؟

وضحك عبد العليم ضحكة تديبك معها، وقال:

تصور بيقولوا إن عبد الوهاب برضه «خواجه»!

قلت له: أنت بتسخر من الموسيقى القديمة يا عبد الحليم؟

وتغيرت ملامحه فجأة، وقال:

أبدًا! أنا لا أسخر! الموسيقى القديمة يا أستاذ زي التاريخ القديم، مش مفروض أن يطلع على الناس یکفي فقط أن ندرسه، ونعرف عيوبه.

قلت في هدوء: ربما كانت معاني الأغاني القديمة خفيفة على آذانهم؟

وصاح عبد الحليم إلى غير عادته:

مين قال کده، دي معاني سخيفة جدًا، لامعنى لها إطلاقا، معاني أنا أخجل من أن أرددها، والعجيب أن المحافظين، الذين يتظاهرون بغيرتهم على مستقبل الموسيقى، هم اللذين يطالبون الغرب بعودة هذا النوع من الموسيقى، وهذا النوع من الطرب.

أسمع یاسیدي

قلت له ضاحكًا؛ أمرك ياسیدي..

وقال عبد الحليم: دي عينة.. أرخى الستارة اللي في ريحنا.. أحسن جیرانا تجرحنا

تصورده كلام محافظين

واسمع أيضًا.. أدینی بوسة شفتي بتاكلني

ده کلام محافظین زمان، وهذا هو السبب أن الطبقة الراقية كانت تسمى المطربين: المغنواتية والمشخصاتية، ولم يكن لهؤلاء «المغنواتية» أي احترام .. والسبب طبعًا هذه المعاني السقيمة التي تجرح الشعور وتذبح الظهر وتنهدت وقلت: وبعدين؟

وقال عبد الحليم:

وبعدين جاء شوقی، ورامي وأحدثا ثورة في كلمات الأغاني

وأكمل حديثه عن أم كلثوم.. فقال:

مهما قلت في أم كلثوم فکلامي.. لايساوي «أه» واحدة من أهاتها التي تحول الكاهن إلى عاشق متيم!

وأردت أن أثير عبد الحليم بعد حديث حالم، فقلت له: الناس بتقول إنك في القصائد لا تعجبهم؟

وكمن تلقى قنبلة لم يكن يتوقعها، سرح بعيدًا، ثم أردف قائلًا:

القصائد، شعر، والشعر أصدق تعبیر عن العواطف، والعواطف أسمى مافي الوجود! وهتفت: یاسلام

وأكمل عبد الحليم: قصيدة سمراء مثلًا كلها زاخرة بالعواطف الحية، تصور مناجاة حالمة لسمراء حلم الطفولة! ثم سألني.. ألم تحب في طفولتك سمراء ؟

أحببت في طفولتی، سمراء، كانت في خيالي ثم لما كبرت وجدتها سمراء!

وانبسط عبد الحليم وصاح:

عال، تصور شعر جميل، يناجي«منيسة النفس»!، ومع ذلك، فأنا واثق أن الكلام السهل الذي يتجاوب مع الناس هو الذي یتردد دائمًا، أما القصيدة فهي لاتستهوى إلا مثلك، من الذين شبوا وفي خيالهم، سمراء!

وحولت حديثي إلى دور المعاهد الموسيقية في مصر، وإلى أي حد نجحت؟!

وثار عبد الحليم وقال: في معهد الموسيقى العربية أكبر معهد في مصر، عفونة

وظهرت الدهشة على وجهي من جرأة عبد الحليم فاستطرد قائلًا:

آمل أن تتحقق هذه الأغنية، تصور لما يصب الفن المصري فنًا عالميًا و تصور لما الأغنية المصرية يفهمها واحد أمریکي، وآخر أسپاني لأن فيها قواعد وأصول عالمية، والأغنية العالمية فكرة ذات هدف بعید، هذا الهدف هو أن يشارك العالم بعضه بعضًا العواطف السامية، الحب.». واردت معنى أكثر وضوحًا لهذه الأغنية العالمية، فقلت له: كيف تصبح ذات معنی «عالي»

قال ببساطة:

 نحتفظ بالـMelody الشرقي، مع توزيع خاص، ودى أحسن طريقة، لتتطور الزمن، على الأقل أحسن طريقة للهروب من هيكل الكرادلة الذين يجلسون على مقاعد معهد الموسيقى، ويطلبون منا أن نذهب إليهم نتلقى منهم البركات!

وسألت عبد الحليم: هل أنت تتالم!؟

وكادت تترقرق دمعه في عين المطرب الحالم حیاتی كلها ألم متواصل!، الألم هو الذي صنعني والدموع هي التي سهرتني.

 قلت له:هل الألم شرط لأي مطرب؟

قال: أبدًا، ولكنه جزء منه، فأنا عندما أعيش مع لحن حزين، والأغنية، يحس الناس أنهم يتالمون، والحقيقة، أنا أعيش مع اللحن بكل کیاني، کياني الذي يتألم!

قلت له : والحب، شرط لأي فنان!؟

قال وكأنها بديهية لا تحتاج لأى جدل: الحب هو المداد الذي يغمس فيه الفنان روحه، لتقدم هذه الروح، الروائع!

قلت له: وأنت بتحب يا عبد الحليم؟

قال: أنا فنان بس، ثم استطرد قائلًا: وحب الناس لي، قد يعوضني عن أي حب!

وسألته: ما سر تعلقك بمدرسة كمال الطويل للتلحين؟

وانبسط عبد الحليم عندما قلت مدرسة كمال الطويل فقال:

أنا التلميذ المخلص « لناظر» هذه المدرسة، لأني أتجاوب مع ألحان كمال أكثر من أي شيء آخر

قلت له: مين المسئول عن جمال الأغنية حلاوة الصوت أم حلاوة اللحن، أم الأداء؟ ؟

وقاطعني قائلًا: الثلاثة يكملوا بعض!

إزاي؟

هات صوت وحش، يلحن له «بيتهوفن«لابد يطلع وحش! ومع ذلك فحلاوة الصوت تساعد على حلاوة اللحن، وحلاوة الإثنين تساعد على حلاوة الأداء!.

وهتفت: إيه الدبلوماسية دي!

وتكلم عبد الحليم وقال لي: على فكرة كنت عايز أقول رأيي في حكاية تلحين القرآن

فتح لي هو ثغرة.. نفذت إليه منها فسالته: هل أنت ستغنى «سورة» مثلًا؟

فقال: أنا أرى أن يجلس عشرة ملحنين فقط مشهود لهم بالكفاءة، ثم يلحنون الأجزاء حتى لا نسمح لكل ملحن أن يضع تجاربه في آيات الله، ومع هذا فطريقة التجويد عند المقرئين لا تعجبني، فإذا كان ولا بد يتلى القرآن بلا تجويد! إني أحب أن اسمع القرآن الكريم من كامل الشناوي مثلًا، أن صوت کامل عميق « ياخذك » ويقنعك بالخشوع والرهبة!

وسألت عبد الحليم.. مما تشكو؟

فقال المطرب الذي وصل الى القمة:

أشكو من الشهرة!، وأشكو من الناس! الناس يا أخي، مابيقدروش شعور الفنان والواحد منا، إحساسه مرهف، ومع هذا، فالاشاعات تلاحقنا في كل شبر نخطوه! وكل واحد يريد أن يعرف كل دقائق حياتي الخاصة، حياتي الخاصة ملكي وحدي، وسالني:

أنت مثلًا تحب الناس تعرف حاجة عن حياتك الخاصة؟

قلت له: أنا مش عبد الحليم حافظ!

قال لي عبد الحليم ثائرًا:

والله يا أخي، عبد الحليم حافظ ده حيموتنی.

Dr.Radwa
Egypt Air