يلخص فرج فودة فى هذا الجزء من كتاب "الإرهاب" الخلاف مع هذه الجماعات فيقول: "أنتم تنادون بالدولة الإسلامية، وتدعون أنكم تملكون نظرية حكم إسلامية كاملة ومتكاملة، ونحن نرى ان الإسلام أعز وأعم، وأن الله قد ترك شئون السياسة والحكم لاجتهاد المسلمين، لعلمه وهو العليم أن العصور تتغير وأن الأزمنة تتوالى، وأن أنظمة الحكم تتغير مع هذا كله، وأن الإسلام لو اشتمل على ذلك نصا وتحديدا، لفرض الثبات على ما لا ثبات فيه، والضيق على ما هو محل للسعة، والحسم على ما هو مجال للاجتهاد، وقد سقنا حججنا على ذلك ما وسعنا الأمر، ووثقناه فى كتب مطبوعة، ومقالات منشورة، وأحاديث مسموعة، وأتى الآن دوركم خاصة وأنتم تتحالفون مع الأحزاب لدخول مجلس الشعب، وتعلنون أنكم تسعون إلى إنشاء حزب سياسى مستقل، ومعنى هذا ضمنا أنكم تسعون للحكم وهذا حقكم كما هو حق أى فئة أخرى.. حسنا.. ما هو برنامجكم السياسى أيها السادة حتى نكون على بينة؟.. سؤال بسيط، لكنه بالنسبة لهم قاتل، فهم يعلمون أنهم لا يملكون الإجابة، ولو أجابوا لاختلفوا، ولو حاولوا لسقطوا فى شرك من اثنين، الأول أن يلجأوا إلى معممات ومعميات من شاكلة سوف تعم البركة أو نحمل الخير لمصر، سوف يصل رضى الرحمن،.. إلخ هذه العبارات الفضفاضة المطاطة، أما الشرك الثانى فهو أن يختلفوا مع بعضهم البعض أو مع المنطق أو مع واقع الحياة المتغير".
ما قاله فرج فودة هنا شاهدناه وعايشناه جميعا بعد أحداث يناير 2011، وهناك عدد كبير من الشواهد التى تؤيد وتؤكد حديث فرج فودة، فعلى سبيل المثال لا الحصر لو تتبعنا مواقف الإخوان بداية من 25 يناير 2011، إلى 30 يونيو 2013، وما بعدها سوف نجد كماً هائلاً من التناقضات والأكاذيب بداية من تصريحاتهم بعدم الاشتراك فى 25 يناير، وفى 28 يناير بعدما تبين لهم انتصار الشباب فى زعزعة نظام مبارك، دفعوا بشبابهم إلى الميادين ليحرقوا أقسام الشرطة والهجوم على السجون لتهريب قياداتهم، والجلوس مع عمر سليمان فى 1 فبراير 2011، للاتفاق على حصة أو جزء من الكعكة ثم اصطناع موقعة الجمل، ثم تصريحاتهم بالمشاركة فى الانتخابات البرلمانية فى دوائر محددة "مشاركة وليست مغالبة" وتحالفوا بعد ذلك مع حزب النور وباقى أحزاب التيار الإسلامى - تلك الأحزاب التى تكونت بعد يناير 2011 - وحصدوا أغلبية برلمانية بعدما قاموا بتغطية كل الدوائر الانتخابية بمرشحيهم، وقالوا أنهم لم يشاركوا فى الانتخابات الرئاسية وقد ساهم التيار الإسلامى بثلاثة مرشحين "محمد مرسي، محمد سليم العوا، عبد المنعم أبو الفتوح"، وكان تقدم للانتخابات ورفض من اللجنة المنظمة كل من حازم صلاح أبو إسماعيل، وخيرت الشاطر الذى حلَّ مرسى بديلا عنه، واشتهر مرسى حينها بـ"الاستبن" وادعوا أنهم يملكون برنامجا للانتخابات الرئاسية "النهضة" ويستطيع القارئ أن يتعرف على هذا المشروع من خلال كلمات "محمد مرسي" عن طائر النهضة، وموجود خطابه على موقع اليوتيوب.
وعلى الجانب الآخر نرى الدعوة السلفية التى قامت فى البداية بتكفير المتظاهرين بسبب خروجهم على مبارك، ورفضت رفضا تاما المشاركة فى أحداث يناير 2011، ولم تساهم فى الحدث إلا بعد 11 فبراير وتكونت الأحزاب السلفية وتم إصدار الفتاوى بأن الخروج على الحاكم حلال وأن العمل السياسى حلال رغم أن مدوناتهم تكفر الدولة وأنظمتها ومؤسساتها السياسية، وبعد ذلك رأينا الدعوة السلفية وجماعة الإخوان يؤيدون التعديلات الدستورية ويحرّضون الناس على النزول للشارع ليقولوا "نعم" ليس للتعديلات ولكن للشريعة الإسلامية فى 19 مارس 2011، والتى أطلقوا عليها "غزوة الصناديق"، ليس هذا فقط بل تحالف الدعوة السلفية مع جماعة الإخوان فى الانتخابات البرلمانية والرئاسية 2012، وسرعان ما انقلب الفريقان وتم فض التحالف فى 2013، وانحازت الدعوة السلفية مع المطالبين بعزل محمد مرسي، وجماعته من الحكم واصطفت فع القوى المدنية ليس لشيء سوى تأكدهم من سقوط الإخوان وأن الدولة سوف تعود لمؤسساتها المدنية مرة أخرى.
والسؤال هنا ماذا لو كان الشارع السياسى قرأ أعمال فرج فودة وناقشها قبل ثورة يناير 2011؟.. وماذا لو كانت هذه الجماعات قرأت أيضا ما كتبه فرج فودة قبل أن تخوض هذه المعارك السياسية؟..هل كان تغير فى الأمر شيء؟
ويقول فرج فودة فى قضية الاحتكام للقرآن والسنة، حين مطالبة هذه الجماعات ببرنامج سياسي: ".. فلما حاججناهم بأن القرآن كما قال الإمام على "رضى الله عنه" لا ينطق بلسان، وأن الأمر أمر من يفسر، وأن الصحابة حاربوا بعضهم البعض بالقرآن، وسالت دماؤهم الزكية أنهارا حين احتكموا إليه، وهم من هم، مكانة وفضلا، وعلما وفقها، كانت إجابة "اللواء الإسلامي" (تصدر عن الحزب الوطنى الديمقراطي، العدد 259، 8 يناير 1981، ص 7) أن "برنامج الأحزاب يضعها بشر، وأنها أحزاب بشرية، لكن حكم الإسلام مستمد من القرآن والسنة الذين هما منهج الله فى الأرض، فكيف يريد د. فودة منا أن نضع منهجا للإسلام غير الذى وضعه الله ورسوله؟ وكيف يطالب ببرنامج موضوع فعلا وطبق فى عهد رسول الله "صلى الله عليه وسلم" والخلفاء الراشدين، هل يريد منا أن نخرج عن هذا لنصنع نحن برنامجا؟ وهل منهج الإسلام مجهول للناس لا يعرفه أحد ومطلوب منا نحن أن نضعه، أن كل مسلم يعرف ما أمر الله به وما نهى عنه، فما هو المطلوب؟ المطلوب فى رأيى أن يدخل إلى هذا العبث البشرى ليفسد كل شيء".
وهنا أعتقد أن ما كان يعانيه فرج فودة ليس فقط من جماعات الإسلام السياسى والمتعاطفين معه بل كان أيضا من قبل الحزب الحاكم المنوط به مواجهة هذه التيارات وأفكارها الظلامية، وهذا هو عين ما نعانيه الأن فما زالت إجابة "اللواء الإسلامي" حاضرة حتى الأن من قبل المؤسسات الدينية والاعلامية والثقافية، ويحضرنى هنا تعدد مطالبة وإلحاح الرئيس عبد الفتاح السيسى منذ توليه الحكم فى 2014 وحتى كتابة هذه السطور وهو يطالب بتجديد الخطاب الديني، لمواجهة الإرهاب والتطرف مع مطالبات الكتاب والباحثين ويخرج علينا شيخ الأزهر بأنه ليس هناك تجديد وأن المرويات ثلاثة أرباع الدين ولا ننسى انفعال شيخ الأزهر على رئيس جامعة القاهرة فى أحد المؤتمرات حينما تحدث عن إعادة قراءة التراث وأهمية تجديد الخطاب الدينى وإعمال مناهج البحث الحديثة، فتحول الأمر إلى معركة عبر الصحف والمواقع الإلكترونية، ولا ننسى أن هذه المؤسسة "مؤسسة الأزهر" هى نفسها من اغتالت فرج فودة وفرقت بين نصر حامد أبو زيد وزوجته، وحبست الباحث إسلام بحيري، ومحمد عبد الله نصر، فى قضايا ازدراء أديان، هذه المؤسسة التى تدعى لنفسها أحقية امتلاك التراث والدين وأن لا يتحدث أحد فى قضايا الدين والتراث إلا هي، تلك المؤسسة التى حولت الحرب مع الجماعات الإسلامية إلى حرب على امتلاك صحيح الدين والتكفير المتبادل، ولا يخفى على أحد أن هذه الجماعات يتفق خطابها الدينى مع خطاب هذه المؤسسة وجامعاتها ومعاهدها، وأن مرجعية هذه الجماعات المعتمدة هى نفس كتب الفقه والسيرة والأحاديث التى يتم تدريسها فى مؤسسة الأزهر، فليس هناك عجب من أن الذى كان يواجه فرج فودة نيابة عن تيار الإسلام السياسى هو الحزب الوطنى ممثلا فى مجلة "اللواء الإسلامي" لأن من يواجهنا اليوم هى مؤسسات الدولة الدينية والإعلامية والثقافية.
وحسب دعوة "اللواء الإسلامي" كما يقول فرج فودة إلى حزب الله، أو بنص عبارتهم الحزب غير البشري، ونعترف مع فرج فودة بأن هذا ما لا نستطيع نقده، ولا نملك أمامه مهربا أو ردا، ولا نستطيع أمام قياداته معارضة أو اعتراض، فهو حزب الله، وقادته يحكمون باسم الله، ولو تدخلنا فى شيء مما يحكمون به "لأفسدناه".. وإذا اعترضنا نكون بهذا نعترض على حكم الله، ما يوصلنا إلى الكفر ووجوب الحد اما الاستتابة وأما قطع الرقبة، فهل يختلف هذا مع ما تقوله داعش وأخواتها اليوم؟
ونتفق مع فرج فودة فى رده على كاتب هذه السطور فى اللواء الإسلامى حيث يقول: ".. فهل يقبل وتتقبل أن تتأسى بحكم عثمان وهو ثالث الخلفاء وذى النورين، ذلك الذى أثار الجميع عليه، ومنهم الصحابة أنفسهم، حتى أن السيدة عائشة دعت إلى قتله، وحتى أن عبد الرحمن بن عوف الذى اختار عثمان، دعا قبيل وفاته على بن أبى طالب قائلا له: إن شئت أخذت سيفك وأخذت سيفى وخرجنا عليه، فقد خالف ما أعطانيه" ونزيد على ما قاله فرج فودة لكاتب السطور فى اللواء الإسلامى والمطالبين بالدولة الدينية والاحتكام للقرآن والسنة على المستوى السياسي، ألم يؤدى هذا الاحتكام للقرآن والسنة إلى قتل الألاف من الصحابة والتابعين منذ مقتل عثمان وحتى استتباب الأمر لمعاوية ومن بعده اليزيد، وحتى الأن تراق دماء المسلمين باسم الله وكتابه وسنة نبيه، ألم تخرج أم المؤمنين عائشة بجيش لمواجهة على بن أبى طالب فى موقعة الجمل مطالبة بدم عثمان التى حرضت هى على قتله، ألم يقتل الآلاف فى موقعة صفين قبل رفع المصاحف على اسنة الرماح والمطالبة بتحكيم كتاب الله، ألم تنقسم الأمة منذ تلك الواقعة إلى شيع ومذاهب وما زالت منقسمة حتى الأن باسم الله ورسوله.
وفى هذا الجزء من الكتاب يضع فرج فودة سببا آخر من أسباب الإرهاب وهو غياب المنهج وعجز المنطق، وسوء الفهم عندما يتصور البعض أن جميع الإجابات واردة وجاهزة، لكنها مخفية عنهم وعنا، وإذا كنا لا نجد، وإذا كانوا لا يجدون، فأغلب ظنهم أن مرجع ذلك إلى عجز عقولنا وعقولهم، وقصور إدراكنا وإدراكهم، ويذكرنى هذا بخرافة الإعجاز العلمى فى القرآن وما يقوم به السيد زغلول النجار وغيره بمحاولة اكتشاف آيات تؤيد نظريات علمية واكتشافات علمية حديثة، بغض النظر عن أن القرآن ليس كتاباً للعلوم أو الكيمياء أو الفيزياء، ودون معرفة منهم بأن النظرية العلمية قابلة للصواب والخطأ، فكم من النظريات العلمية قد ثبت قصورها أو خطأها، فماذا يفعل حينها هؤلاء.. هل سيقوم بإلغاء الآيات القرآنية التى تؤيد النظرية الخطأ؟ ألم يعلم النجار وأعوانه فى هذا الدرب أن آيات القرآن ثابتة لا تتغير وأن العلم ونظرياته فى تغير مستمر.