الثلاثاء 14 مايو 2024

شهادات حية على أحداث عظيمة .. "قلب مفتوح" سيرة ذاتية لابنة سيناء آمال غريب

غلاف الرواية

ثقافة25-6-2022 | 16:14

علي السيد

ما أصعب أن يكون الموت والحياة وجهين لعملة واحدة، ما أصعب أن يكون العقل في كامل قدرته وطاقته وعزمه على العطاء، بينما الجسد يُصاب بأزمة قاسية، أو بأزمة قلبية، تلك التي يُطلق عليها في القاموس الطبي HEART ATTACK.

كان هذا العنوان الأول من كتاب "قلب مفتوح"، الذي يتناول السيرة الذاتية لأبنة سيناء آمال غريب حسن الجندي، ذلك الكتاب الصادر مؤخرًا عن مؤسسة حورس الدولية للكاتب حمدي شتا، والذي يُسجّل التجربة الإنسانية التي مرت بها أبنة سيناء، بين الأمل والألم، واليأس والرجاء، والخوف من المجهول، والأمل في المستقبل، والسعي الدائم نحو البحث عن الذات، تلك الذات التي قد يفقدها الإنسان بين عثرات الحياة وتقلباتها وآلامها، بينما تبقى الذكريات محفورة في العقل والوجدان، يراها صاحب التجربة حيثما اتجه، وفي كل مكان جديد يألفه قلبه، ويشعر خلاله بالحنين لأيامه القديمة، وهذا حال هذه المُذكرات الموثّقة لأحداث وتفاصيل وأيام ومواقف وذكريات وصراعات وحروب، أيام وليالٍ، هزائم وانتصارات، لجوء وهجرة، رحيل وعودة للجزور.

يقول "شتا" على غلاف الكتاب الخلفي، "التقيت السيدة آمال غريب حسن الجندي، وذلك في طور الشروع في كتابة بيوجرافيا (سيرة غيرية) أو سيرة ذاتية خاصة بها. في عدة جلسات تم تدوين ملحوظات من خلال حكيها المباشر وبعض التسجيلات الصوتية. وحيث أنها قد عايشت حياة مدينتها الساحرة العريش، وسيناء الفيروز، وحياة المصريين، ابتداء من عصر الملك (فاروق) وحتى الآن، وقد عايشت أفراح الوطن وانتصاراته، وأيضًا حروبه وويلاته، فقد ارتأيت أن يتم كتابة البيوجرافيا الخاصة بها في رواية تحتوي سيرتها الذاتية ضمن الدراما والتراث والتاريخ لتلك البقعة الغالية من أرض الوطن. إضافة إلى التطواف ببقاع وبحار العالم الآسرة".

ما سبق من حديث د حمدي شتا على الغلاف الخلفي للكتاب، يؤكد أننا أمام كتاب سيرة ذاتية، بطلته وسارد أحداثه، هي آمال غريب حسن الجندي، أبنة سيناء ذاتها، وأن من يقوم بفعل السرد هنا ليس راويًا، أو شخصية روائية من نسج خيال الكاتب، وإنما السارد هنا هو صاحبة السيرة الذاتية التي عايشت الأحداث وسردتها، ومن ثم قام د حمدي شتا بقديمها في كتاب يضم هذه السيرة الذاتية، وهو الأمر الذي يتعارض مع كلمة "رواية" التي تصدرت الغلاف الأمامي للكتاب، فخيال المؤلف هنا لا محل له من الإعراب في كتاب سيرة ذاتية يوثق لأحداث ووقائع حدثت بالفعل وموثقة باليوم والتاريخ.

ينطلق الكتاب من العام 2001، حيث الأزمة القلبية التي مرت بها "آمال غريب" التي يتناول الكتاب سيرتها الذاتية، والتي تعرضت في هذا التاريخ لأزمة قلبية حادة، تطلّبت تدخلًا جراحيًا لعمل دعامة للشريان الأول، بينما الشريان الثاني كان قد أغلق تمامًا، ولم يُجدِ معه أي تدخل طبي، حيث أصبح نسبة 30% من القلب لا تعمل، على إثر هذه الحالة، مكثت بطلة سيرتنا الذاتية في العناية المركزة لتسعة أيام قبل أن تبدأ صحتها بالتحسن، لتعودة رويدًا رويدًا للحياة، ويعود قلبها ليعمل بكامل طاقته، وهو الأمر الذي دفع الأطباء لنشر ورقة بحثية عن حالتها الطبية النادرة.

يطوف بنا كتاب السيرة الذاتية لأبنة سيناء آمال غريب حسن الجندي - والذي تجاوزت صفحاتها الثلاثمائة وسبعون صفحة – ببلدان وأحداث كثيرة ومتداخلة بين مصر بشكل عام ومدينة العريش مسقط رأس "آمال" بشكل خاص، وبين أستراليا ومنجرا، حيث منزل وإقامة أبنة سيناء على شاطيء النهر، حيث تمارس هوايتها في صيد الكابوريا، بينما ذكريات مدينتها الآثيرة رفيقها أينما كانت، وحيثما حلّت، وإن كانت في أقصى بقاع الأرض.

تتذكر أبنة سيناء رفع العلم المصري على "رفح"، مهدها وميلادها، وتتذكر صوت أبيها وملامح وجهه الأحمر وعيناه الزرقاوين، والذي تقول عنه: "كان مثقفًا واعيًا، كان ناصريًا حتى النخاع، حيث عاش المشروع القومي مع الرئيس جمال عبدالناصر الذي أثر في كل كيانه، وكان من ذوي الرأي والحكمة في حل مشكلات العائلة، أبي (غريب حسن الجندي)، كان عمله في حرس الحدود"، كما تتذكر إخوتها وترتيبها السادس بين من عاش منهم، ولا تنسى ذكريات صيد الأسماك في عمر البراءة، وكيف كانت والدتها تضحك لا يصطادونه من أسماك وتعيده مرة أخرى للبحر.

يبدو أن ذكريات الطفولة عالقة بذهن صاحبة السيرة الذاتية، بل محفورة بدخلها، فتقول: "كنت أقضي طفولتي بمدينة الطور بين المياه والصيد والدير، وكان معظم قرنائي وأصدقائي مسيحيين، وكان قساوسة الدير يفتحون الدير لنا، ويغمرون الجميع بالمحبة والمودة والألفة، وكان لذلك أثر كبير عليّ... كنّا نعيش مع بعض، ندخل بيوت بعض، نأكل مع بعض، نفرح أفراح بعض، نواسي بعضًا في أفراحنا، ولم يكن هناك فرق في الطوائف، كنّا إخوة في الإنسانية، مسلمًا أو مسيحيًا، كلّنا أبناء آدم، وكلُ يعبد الله بطريقته، يربطنا وطن واحد في تعايش ومحبة وسلام".

في الفقرة السابقة، تترحم إبنة سيناء على أيام جميلة واعية، وتستنكر بشكل مُضمر على ما آلت إليه مآلاتنا، وما وصلت إليه أوضاعنا، رفضًا منها تنصيب أي إنسان نفسه حَكمًا على ثقافة أو معتقد أو فكر أو دين الآخر، فالجميع سواء، ولكل منهم الحق والحرية فيما يعتقد ويؤمن. وفي ذات سياق الطفولة وأيام البراءة، لم تنسى صاحبة السيرة الذاتية، أول يوم لها في المدرسة حيث جائتها أبتسامة مُدرّستها العريضة، والتي كانت سببا كافيًا لأن تُفلت يد والدها مطمئنة لتنخرط بين زملائها وأقرانها بالمدرسة.

تسرد آمال غريب حسن الجندي، وقائع مذبحة "دير ياسين" تلك المذبحة الشهيرة الي قامت بها العصابات الإسرائيلية عام 1948م، وكيف كان والدها منفعلًا غاضبًا في هذا الوقت حينما تلقّى الأخبار من المذياع الذي كان وسيلتهم الوحيدة لتلقي الأخبار من داخل مصر وخارجها، كما تستعرض تفاصيل ما تعرّضت له فلسطين أعقاب مجزرة دير ياسين، وما تلاها من مجازر في حق الشعب الفلسطيني، ودخول الجيوش العربية لمساندة الشقيقة فلسطين من جهة، وتدخل العالم لدعم المعتدي الإسرائيلي من جهة أخرى، إلى أن وقعت النكبة، وطورت إسرائيل عدونها من خلال عصاباتها (الهاجاناة والشاباك وشتيرن).

كان لمدينة العريش نصيب الأسد في مذكرات أبنة سيناء، التي ما إن تنتهي من الحديث عنها، حتى تعود إليها مرة أخرى، فها هي تعود للحديث عن العريش التي رجعت إليها مرة أخرى من القنطرة، وهي في عمر العاشرة، وتتذكر أن الحديث بين والدها وأصدقائه كان يدور حول الفالوجة وما حدث بها، وعن جمال عبدالناصر السياسي والعسكري النابغة، وتتطرق "آمال غريب" لسرد تفاصيل ما حدث في ليلة الثالث والعشررين من يوليو 1952م، وكيف كانت سعادة والدها وأعمامها بما حدث.

كانت أيام العام 1956م، صعبة على أبنة سيناء وأسرتها وفق ما قاله في مذكراتها، غزيرة التفاصيل غنية الأحداث، متشعبة المواقف، ومتنوعة الموضوعات، تلك المذكرات التي تُعد توثيقًا لفترة سياسية واجتماعية واقتصادية هامة من تاريخ الأمة العربية، لأسباب عدة، أولها أن آمال غريب أبنة مدينة ساحلية كانت الأقرب للأحداث، بل إنها كانت في أغلب الوقت مدينة الحدث وأرض الميدان والمعركة، ثانيًا أنها تروي تفاصيل وشهادات وأحداث عايشتها ومرت بها، أي أن ما قالته وسجله د حمدي شتا، لا أجتهاد فيه، بل إن الاجتهاد فيه بالإضافة أو الحذف يُعد مفسدة للأمر بكامله، ثالثًا وهو الأهم، أنّ صاحبة السيرة الذاتية تروي التفاصيل من خلال تتابع زمني دقيق، وتستشهد على ما تقوله بمواقف خاصة وأحداث عائلية وأسرية، الأمر الذي يزيد يسيرتها أهمية وقيمة، علاوة على أنها في المجمل، ليست سيرة ذاتية لأبنة سيناء آمال غريب حسن الجندي وحسب، وإنما هي سيرة مدينة وما جرى بها من أحداث بعين وقلب أبنتها التي تشتاق إليها كلما رحلت عنها، ولا تترك موضعًا في هذه السيرة إلا وعبرت من خلاله عن حنينها لمدينتها الأولى.

يتناول كتاب "قلب مفتوح" سيرة أبنة سيناء آمال غريب حسن الجندي، التي تتحدث عن العريش وحرب 1956م، وما عايشته المدينة من أحداث، كما لم تغفل الحديث عن الطعام السيناوي، فجاءت "اللصيمة" كعنوان فرعي موثق لعادات وتقاليد أهل سيناء في الطعام، والتي تقول عنها "ينفرد السيناويون بهذه الأكلة دون باقي القطر المصري، وإذا حدثت أحدًا عنها لأول مرة، فستجد الدهشة من أناس يشوون البطيخ، ويدسون العجين (اللبة) القرصة في الرماد".

لم تنس أبنة سيناء ذكرياتها مع مدرسة العريش الإعدادية للبنات، وفعاليات طابور المدرسة، وكيف كانت تربطها علاقة قوية بأستاذتها، الأستاذة هدى، مدرسة التربية الرياضية، وهي ذات الفترة التي واكبت إعادة افتتاح الرئيس جمال عبدالناصر لجامعة القاهرة وتكريم عدد من العلماء والفنانيين في عيد العلم إيمانًا منه بقدرة هاتين الفئتين على الارتقاء بمصر وشعبها.

تعود الذكريات بأبنة سيناء لتتذكر خطابات الرئيس عبدالناصر عن الوحدة العربية، حينما كانت في الصف الثالث الإعدادي بالعريش، وهي الفترة التي وصفتها بفترة المعارك الكُبرى (تأميم قناة السويس، فشل العدوان الثلاثي على مصر في احتلال القناة وانسحاب الدول المعتدية، وتسرد أبنة سيناء تفاصيل ما حدث إبان الوحدة العربية وبداية السير في طريق تحقيق حلم الوطن العربي الأكبر.

كان اليوم الأول في مدرسة العريش الثانوية العسكرية بنين، ذا مذاق خاص لدى أبنة سيناء تلك المدرسة التي التحقت بها ضمن أول دفعة من الفتيات يدرسن في مدرسة البنين الثانوية، وكان ذلك قبل أن يتم إنشاء مدرسة ثانوية لهن، وتذكر ضمن هذا اليوم قدوم عدد من الصحفيين من مجلة المصور والجيل الجديد، لإجراء لقاءات صحفية معهم بمناسبة انضمام أول دفعة من الفتيات للدراسة في مدرسة البنين الثانوية العسكرية.

لم تغفل سيرة آمال الغريب ما حدث في مدينة العريش في العام 1967، وهو حديث ذو شجون، ويعيد الإحساس بألم الجُرح الذي أندمل بفرحة النصر والعبور، وتتحدث أبنة سيناء عن رفضها، ورفض والدتها والأسرة لخطاب التنحي الشهير، للرئيس عبدالناصر، وتحت عنوان أيام الشتات تحدثت عن التهجير الذي حدث في هذه الفترة، وكيف كانت الكوابيس تطارد والدتها، خوفًا من جرائم جنود الاحتلال التي كانت تقع كل يوم في حق أهل الأرض وأبنائهم، وتفاصيل ورحلة وصولهم إلى معسكر (العبدلي) بالنصيرات بالأردن، وما عانته هناك، حتى زارهم محمد حسين هيكل وكان سببًا في الانفراجة وحل الأزمة.

كما تناولت سيرة أبنة العريش، إضراب أهل العريش عن العمل، كنوع من أنواع التصدي للاحتلال ومقاومته وفق المُتاح من إمكانيات، حيث تمت مقاطعة العدو في إدارة مديريات التربية والتعليم والصحة والعمل وباقي المديريات وجميع الأعمال.

تخرّجت أبنة سيناء من معهد الدراسات التكميلية، وعملت بمدرسة خالد بن الوليد بالعريش، ثم انتقلت للعمل في بنها، ثم حدثت حركة تنقلات وتفاجأت بنقلها للأسكندرية لتعيش مع أخيها محمد الذي يعمل بشركة النصر للبترول، وهناك تزوجت "سيف" غير أنها رفضت مباهج ومراسم الفرح نظرًا لغربتها عن أبيها وأمها.

تسرد أبنة سيناء تفاصيل نصر أكتوبر المجيد، وملحمة العبور، وتتحدث عن سفر زوجها للخارج وميلاد أبنتها الأولى حنان، وأنها وقع عليها الاختيار في هذه الفترة لتمثيل سيناء في البرلمان المصري، ولكنها أعتذرت نظرًا لظروفها، معبرّة عن أمنيتها هذه الفترة في خدمة بلدها من هذا الموقع، ثم تسرد تفاصيل رحلتها لهيدلاند، وبداية حياته الجديدة في هذه الأرض الغريبة، وعبر صفحات عديدة وممتدة، تدوّن تفاصيل رحلتها وحياتها خارج مصر، وما مرت به خلال هذه الرحلة، وهذه السنوات من مواقف وأحداث، وتتختم سيرتها الذاتية بالحديث عن رحلتها الروحانية إلى بيت الله، والتي انطلقت إليها من بيتها في بيرث بغرب استراليا.

سيرة حياة آمال غريب حسن الجندي سيرة غنية، ومُشبعة بالأحداث والتفاصيل، تخرج بك من الخاص إلى العام، وتستشهد على العام بتفاصيلٍ خاصة، فبينما تحدثك عن أمر قومي على درجة عالية من الأهمية، تجدها تسرد لك أمرًا خاصًا في طفولتها واكب هذا الحدث، فتشعر دائمًا وكأنها جزء من كل الأحداث الكبيرة التي تضمنتها صفحات كتاب سيرتها الذاتية.

آمال غريب في كتابها ليست ساردة لأحداث تاريخية حدثت في طفولتها وصباها وشبابها فقط، وإنما هي ساردة لتاريخ أمة كانت ومازالت جزء منه، شاهدة عليه وفاعلة فيه، لذا من المتوقع أن تَبّقى وتستمر وتدوم سيرتها الذاتية بكل ما ضمته من معلومات وتفاصيل مرجعًا خصبًا أصيلًا وفريدًا، لمن أراد أن يجد زاوية رؤية جديدة، وقراءة مختلفة وغير تقليدية لفترات تاريخية هامة من عمر الوطن.

Dr.Radwa
Egypt Air