الخميس 16 مايو 2024

"الدواعش".. تجار الدين والآثار والحضارة!

20-7-2017 | 21:09

مصطفى حمزة

لم تقتصر محاربة الإبداع عند المتطرفين من الإخوان والسلفيين على  الأدب والرواية والفنون، وإنما امتدت مع ظهور التنظيمات الأكثر تشددًا، والتي تفرخت عن الإخوان المسلمين (الجماعة الأم)، مثل تنظيم القاعدة، وتنظيم الدولة الإسلامية المزعومة في العراق والشام «داعش» لتصل الحرب على الإبداع إلى كل جوانب الحضارة الإنسانية، والتي من أهمها الآثار القديمة، مثلما هو الحال في أفغانستان حينما قامت حركة طالبان بهدم تمثال بوذا، ومثلما دمر تنظيم «داعش» الإرهابي آثار متحف مدينة الموصل القديم، وآثار مدينة تدمر السورية، باعتبارها أصنامًا يجب إزالتها، والتقرب إلى الله بذلك.

وكعادة التنظيمات المتطرفة في تبرير جرائمها باستدعاء النصوص المقدسة التي نزلت في سياق قديم، أو بترت من سياقها، أو تم تأويلها على غير مرادها، أصدر التنظيم فتوى شرعية بعنوان: (وجوب إزالة الأصنام) أكد فيها أن هدم الأوثان والأصنام واجب شرعي سواءً كانت تعبد من دون الله أو لم يوجد من يعبدها، إلا أن عددًا من أنصار التنظيم أكدوا أن هذا الأمر يأتي في إطار جر دول الغرب لحرب ومواجهة برية مع تنظيم الدولة.

ونشر التنظيم الإرهابي في نص الفتوى أن الأدلة الشرعية قد دلت على وجوب هدم الأوثان والأصنام، متى تمكن المسلمون من ذلك، سواء وجد من يعبدها أو لم يوجد، مستدلين بما رواه مسلم عن عمرو بن عبسة أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم: وبأي شيء أرسلك؟ قال: "أرسلني بصلة الأرحام، وكسر الأوثان، وأن يوحد الله لا يشرك به شيء".

كما تضمنت الفتوى عددًا من الأحاديث منها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعلي رضي الله عنه: "لا تدع تمثالاً إلا طمسته، ولا قبرًا مشرفًا إلا سويته"، وأن جبريل امتنع عن دخول بيت النبي بسبب وجود تمثال بداخله وأنه أمر النبي بتحطيم رأسه، مؤكدًا أن "أشد الناس عذابًا يوم القيامة المصورون"، وأنهم يقال لهم يوم القيامة أحيوا ما خلقتم.

وعلى الرغم من أن الصحابة رضي الله عنهم لم يصلوا إلى الآثار الموجودة في مصر عند فتحهم لها ولم يذكر عن عمرو بن العاص أو غيره من الصحابة أنهم هدموا أثرًا واحدًا من آثار مصر الفرعونية، مع كثرتها وانتشارها في طول البلاد وعرضها، إلا أن التنظيم الإرهابي احتج على ترك الصحابة رضي الله عنهم للأصنام في البلاد المفتوحة كمصر بأنهم لم يروا هذه الأصنام لأنها كانت في أماكن نائية لم يصل إليها الصحابة الفاتحون، أو أنها كانت مغمورة بالرمال، أو داخل منازل الفراعنة وغيرهم، سيما مع نهي النبي صلى الله عليه وسلم، عن دخول هذه الأماكن، لأنها من ديار الظالمين التي يجب الإسراع أثناء المرور عليها -حسب زعمهم.

واحتجوا كذلك بعدم تعرض الصحابة لها بأنها لم تكن قد تم اكتشافها بعد، أو أن أبواب الأهرامات كانت مطمورة مغمورة بالتراب والرمال حينها، أو اكتشفت حديثًا بعد عهد الصحابة، وهذا كله من الاحتمالات، وكما هو معروف في الفقه الإسلامي الذي يجهل "الدواعش" أصوله وفروعه أن ما تطرق إليه الاحتمال سقط به الاستدلال، فليس لهم أن يستدلوا بأمور محتملة، وألا يقدموا على أمر إلا بعد أن يتبعوا قواعد الشرع فيه.

وزعم التنظيم أن ترك الصحابة للأصنام في مصر كالأهرامات وأبو الهول -إن ثبت أنهم رأوها- كان سببه عدم قدرتهم على إزالتها والعجز عن ذلك لعدم توفر الآلات والأدوات الحديثة، مستشهدين بأن هدم تمثال بوذا على يد تنظيم القاعدة استغرق عشرين يومًا، مع وجود الآلات والأدوات والإمكانات التي لم تتوفر للصحابة.

وحتى ينفي التنظيم عن الصحابة ترك هذه الآثار في مكانها، وعدم السعي لإزالتها وهدمها، نقل عن ابن خلدون في مقدمته أن الخليفة المأمون أراد أن يهدم الأهرام في مصر ‏فجمع الفعلة (العمال الأقوياء) ولم يقدر.‏

وقال أحد عناصر التنظيم خلال الإصدار المرئي الذي أصدره بعد تدمير آثار الموصل: "هذه أصنام وأوثان لأقوام في القرون السابقة كانت تُعبد من دون الله"، وإنّ "ما يسمى بالآشوريين والأكّاديين وغيرهم كانوا يتخذون آلهة للمطر وآلهة للزرع وأخرى للحرب يشركون بها بالله ويتقربون إليها بشتى أنواع القرابين"، أو في التبخيس من قيمة تلك الآثار التي "هان علينا تحطيمها وإن كانت بمليارات الدولارات".

ومن المعروف أن داعش تتاجر في الآثار وتجيز بيعها وشراءها، باعتبار أن الأرض وما يخرج من باطنها ملك لصاحبها، على الرغم من حديث النبي صلى الله عليه وسلم في البخاري ومسلم، من حديث جَابِرِ بْنِ عَبْدِاللهِ، أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ، عَامَ الْفَتْحِ، وَهُوَ بِمَكَّةَ: «إِنَّ اللهَ وَرَسُولَهُ حَرَّمَ بَيْعَ الْخَمْرِ وَالْمَيْتَةِ وَالْخِنْزِيرِ وَالأَصْنَامِ»، ما يعد مخالفةً صريحة وواضحة لهدي النبي، وارتكاب ما حرم الله.

ومن المفارقات أن داعش قام بهدم تماثيل متحف مدينة الموصل، لأنه لم يستطع حملها وبيعها، والدليل على ذلك أنه أخفى الآثار التي يمكن حملها ونقلها من مكان لآخر، حتى يتمكنوا من بيعها بعد ذلك، لتكون من أحد أهم مصادر التمويل التي لا تقل أهمية عن المصادر النفطية.

الجهل بالشرع يجعل هذا التنظيم الإرهابي لا يفقه ضوابط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والتي من أهمها أن يكون الأمر بالمعروف بمعروف والنهي عن المنكر بغير منكر، فلا يجوز تغيير منكر بطريقة تؤدي إلى منكرات أكبر، كما غفل المتطرفون أن أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم فيما يتعلق بحرمة الأصنام هو سد الذرائع مخافة أن تعبد من دون الله، ومن قواعد أصول الفقه الإسلامي التي يجلها التنظيم وقادته أن ما حرم سدًا للذريعة أبيح عند الحاجة، ولا أحد يجهل أو ينكر الحاجة الشديدة لوجود التراث الإنساني والحضاري إذا أمن الناس من عبادته.