الأحد 19 مايو 2024

ماذا لو بقى في «بنى مر» ولم يذهب للإسكندرية هل صنع عبد الناصر التاريخ أم صنعه التاريخ؟

21-7-2017 | 14:15

 

سمعت من شيوخ الإخوان أنهم كانوا وهم فى السجن يشتمون عبد الناصر فى الزنازين من خلال أناشيد يؤلفونها ويغنونها، يحرفون مثلا أغنية أم كلثوم عن نجاة عبد الناصر من حادث المنشية التى تقول فيها «ياجمال يامثال الوطنية.. أجمل أعيادنا المصرية بنجاتك يوم المنشية» فيجعلونها «ياجمال ياكبير الحرامية أجمل أعيادنا المصرية بهلاكك يابن اليهودية»!!

وإذا أردنا الحقيقة فقد كان عبد الناصر مسلما وسطيا وكانوا خوارج، ولم يستطع الإخوان الرد على أسئلة جوهرية بخصوص عبد الناصر وترويجهم أنه كان يعادى الإسلام، فعبد الناصر هو الذى أنشأ إذاعة القرآن الكريم، وأنشأ منظمة المؤتمر الإسلامى، وقام بتحديث الأزهر الشريف، وأنشأ مدينة البعوث الإسلامية، وأرسل علماء الأزهر إلى إفريقيا وآسيا للدعوة للإسلام، وإذا كان القرآن قد نزل فى مكة والمدينة، وقام سيدنا أبو بكر بجمعه فى مصحف واحد، فإن عبد الناصر هو الذى أمر بتسجيله كاملا بصوت كبار القراء، ولتسجيل القرآن قصة تلاها إنشاء إذاعة القرآن الكريم،

وقد عرفت هذه القصة من الدكتور توفيق الشاوى الذى ساهم مع عبد الناصر فى إنشاء منظمة المؤتمر الإسلامى، وكان من قبل من الإخوان ثم تركهم عندما رأى انحرافهم واعتمد عليه عبد الناصر فى كثير من الملفات، ويحكى الدكتور الشاوى رحمه الله أن عبد الناصر كان قد زار إثيوبيا عام ١٩٦١ وفى هذه الزيارة أهداه الإمبراطور هيلاسلاسى مصحفا، وأثناء العودة فتح عبد الناصر المصحف ليقرأ فيه فوجد تحريفا مطبعيا فى بعض الآيات، وهذا يدل على أن عبد الناصر كان يحفظ عددا لا بأس به من سور القرآن الكريم، المهم أن عبد الناصر انزعج من هذه الأخطاء، وعندما حطت الطائرة به فى مطار القاهرة وذهب إلى بيته استدعى الدكتور الشاوى وقال له ما حدث، وطلب منه أن يضع فكرة تقضى على أى تحريف فى آيات القرآن خاصة من تلك النسخ التى تتم طباعتها فى إفريقيا، فاقترح الدكتور الشاوى أن تطبع مصر عددا كبيرا من نسخ المصحف وتقوم بتوزيعه فى إفريقيا، إلا أن عبد الناصر فكر هنيهة وقال له لا، يجب أن ننشئ إذاعة للقرآن الكريم، يصل مداها إلى إفريقيا وآسيا، ويجب أن نقوم بتسجيل المصحف مرتلا، ثم طلب منه عبد الناصر أن يقترح اسم شيخ يقوم بتسجيل القرآن بصوته، فاقترح الشاوى اسمين، الأول الشيخ الحصرى لأنه كان قد تقلد منذ أيام سابقة على هذه الواقعة منصب شيخ المقارئ المصرية، واقترح معه الشيخ مصطفى إسماعيل، فقال عبد الناصر فلنبدأ بالشيخ الحصرى، وكان أن استدعى عبد الناصر الشيخ الحصرى وطلب منه تسجيل القرآن كاملا بصوته، ففعل، ومن بعد ذلك بعامين تم إنشاء إذاعة القرآن الكريم التى ظلت تصدح بالقرآن الكريم لسنوات من خلال صوت الشيخ الحصرى حتى دخل الشيوخ مصطفى إسماعيل وعبد الباسط عبد الصمد وغيرهما فى قائمة من يقومون بتسجيل القرآن الكريم بأصواتهم.

كل هذه الأشياء التى عرفتها عن عبد الناصر كانت تؤكد لى أن الرجل لم يكن ولا يمكن أن يكون قد فكر ولو لحظة فى معاداة الإسلام، بل إن واحدا من شيوخ الإخوان الكبار قال لى إنهم كانوا يُعدون عبد الناصر قبل احتدام الخلاف بينهما وليا من أولياء الله الصالحين! ولذلك كنت أطرد كلامهم عن عداء عبد الناصر للإسلام من أذنى ولم أجعله يستقر فى قلبى فى أى يوم من الأيام، وإن كنت أضع الموضوع فى إطاره الصحيح وقتها وهو أن ثمة خلافا وطنيا وقع بين الإخوان وعبد الناصر، انتصر فيه هو لمصر وحاولوا هم أن ينتصروا للتنظيم على حساب الوطن، وهكذا هم فى كل عهودهم، وقد حملهم اللدد فى الخصومة على معاداة عبد الناصر بشكل أوقعهم فى تكفير الرجل، وهو الأمر الذى نهانا عنه الإسلام.

والذى لم يستطع أحد أن ينكره أو يجحده لأنه يظهر أمامنا فى كل حين هو أن عبد الناصر كان ولا يزال ـ للغرابة ـ مُلهما للمصريين، ومن الغريب أن يظلَّ مُلهِما لعموم الشعب فى أوقات الأزمات، ويا للغرابة أيضا، فقد عده الشعب زعيما إسلاميا عربيا، يقف فى مرتبته العليا مع الزعماء القوميين والإسلاميين فى آن واحد لأوطانهم، ومع ذلك فإن هذا الشعب الذى سخر بنكاته من حكامه ومنهم عبد الناصر، هو نفسه الشعب الذى سخط على عبد الناصر وسخر منه عند هزيمة ١٩٦٧ حتى بات الجميع يظنون أن الشعب المصرى سيُطيح ببطله وسيحذفه من الحكم بل من مصر كلها، وهو ذاته الشعب الذى ظن العالم أنه انتهى من التاريخ بسبب هزيمة ١٩٦٧، والمُدهش أنه هو أيضا نفس الشعب الذى بُعثت فيه الحياة وبغرابة شديدة خرج إلى الشارع ليمنع عبد الناصر من التنحى ويقول له: لقد أصبحتَ رمزا للتحدى فلا تتركنا، بك سنتحدى، وبك سنعبر الهزيمة، وقبل عبد الناصر التكليف الشعبى له ودخل فى حُكمه إلى مرحلة جديدة من التحدى فاستعاد صورته البطولية مرة ثانية أمام شعبه، هذا الشعب الغريب حد الدهشة والمُدهش حد الغرابة هو ذاته الشعب الذى غنَّى مع عبد الحليم بعد النكسة أغنيته الحزينة المشبوبة بالأمل «عدَّى النهار» وكنت تستطيع أن ترى دموع التحدى فى عيون المصريين وهم يسمعون عبد الحليم يختم أغنيته مغردا: «واحنا بلدنا للنهار بتحب موال النهار» التى كتبها له عبد الرحمن الأبنودى، وهو أيضا نفس الشعب الذى خرج بالملايين لتشييع جنازة بطله «المُتَحَدى» عبد الناصر فى جنازة لم يشهد التاريخ مثلها من قبل، خرج وهو يبكى، وفى ذات الآن خرج وهو يُغنى «الوداع يا جمال يا حبيب الملايين» وكانت هذه أول مرة فى التاريخ يغنى فيها شعبٌ بأكمله أغنية يكون هو فيها المطرب والكورس فى نفس الوقت، ولا أظن أن أحدا يستطيع وصف تلك المشاهد، يجب أن تكون حاضرا فيها لتعرفها حق المعرفة وتحللها وتخرج منها بتحليل دقيق للشخصية المصرية، وقد كنتُ حاضرا فى هذا اليوم رغم أننى حينئذ كنتُ غُلاما يافعا لم أبلغ مبلغ الشباب بعد، هل تعرفون لماذا أحب المصريون عبد الناصر رغم أخطائه وديكتاتوريته؟ هل تريدون معرفة لماذا غفر الشعب لعبد الناصر هزيمة ١٩٦٧؟ هل تتملككم الدهشة وأنتم ترون هذا الشعب فى كل مواقف التحدى بعد موت عبد الناصر يستحضر صورته وكلماته ويرفع صوره؟! هل تتعجبون وأنتم ترون أجيالا جديدة لم تر عبد الناصر ولم تعرفه حق المعرفة إلا أنها تهتف باسمه فى الملمات كأنها تستنقذ نفسها به من خطوب الدهر؟! هل تريدون معرفة لماذا لم تُمح صورة عبد الناصر من ضمير المصريين، رغم التشويه الذى مارسته ضده جماعة الإخوان بدوائرها المتسعة، واتهامه الدائم بأنه كان عدوا للإسلام، وكم من الجرائم فى التاريخ ترتكب تحت غطاء الإسلام، هل تعرفون لماذا صورته دائما ترتفع فى الشوارع فى الملمات، رغم التنكيل الذى لحق سُمعتَه من الطوائف السياسية اليمينية التى تضررت من قراراته الاقتصادية والسياسية؟ كل ذلك لسبب واحد، هو أن عبد الناصر كان عنوانا للتحدى وإن أخطأ، وغيره كان عنوانا للتراجع والخضوع وإن أصاب! فكلمة السر التى تُلهب خيال المصريين وتستنهض ملكاتهم وقدراتهم هى «التحدى».

فما سر شخصية هذا الزعيم الغريب؟ هى مثيرة للدهشة والإعجاب فى آن واحد، وأظنها تصلح كرواية يعجز عن تصور أحداثها كبار الروائيين، فهذا هو الفلاح الفصيح الذى أصبح رئيسا لمصر واعتبرته الأمة العربية زعيما لها، هذا هو الرجل الذى غيَّر خريطة المنطقة كلها شاء من شاء وكره من كره، كانت هذه هى أقدار الرجل فإذا كنت من «الجبرية» الذين يقولون إن الإنسان مُسير لا مُخير وكنت كارها له فعليك إذا أردت أن تسخط أن تسخط على القدر، وإذا كنت من «القدرية» الذين يقولون إن الإنسان يصنع قدره وكنت كارها له فاسخط إن أردت على عبد الناصر نفسه لأنه هو الذى صنع قَدَرَه، وفى كل الأحوال لا ينبغى أن تطغى عليك مشاعر الكراهية، فتظن أن عبد الناصر كان شابا خاملا بليدا جاهلا، أو ضابطا عسكريا لا يفقه فى أمور السياسة شيئا، أو أنه كان سطحيا ليس له أى عمق ثقافى أو فكرى، فالأمر كان على غير ذلك تماما، ومهما كانت نظريتك عن القدر فاعلم أن الأقدار العظيمة لا تذهب إلا للرجال العظماء، أما الأغمار من الناس فسيظلون يلعنون الحظ التعيس الذى جعلهم فى القاع.

من بنى مر هو، وسواء كان نسبه ينتهى إلى قبيلة «آل مُرة» القحطانية أولا ينتهى إلا أن المقطوع به أن نسبه يعود إلى قبيلة من القبائل العربية المهاجرة إلى مصر بعد فتح مصر، ولا يعنينا أن نعرف فى أى عام جاءت قبيلته إلى مصر، ولكننا نعلم علم اليقين أن قرية بنى مر نفسها رابضة فى مكانها منذ زمن سحيق، وفى قرية بنى مر كان الجد الأكبر «على عبد النبى» عاش فيها وعاش فيها أجداده من قبله، وارى ثراها جسده كما وارى من قبله ومن بعده جسد الأجداد والأبناء والأحفاد، ولكن هل خطر على بال الفلاح البسيط «على عبد النبي» ابن قرية بنى مر أن واحدا من أحفاده سيصبح رئيسا لمصر وزعيما عربيا كبيرا سيخلد ذكره فى التاريخ، عاش «على عبد النبي» الجد الأكبر لعبد الناصر فى «بنى مر» مديرية أسيوط فى أواخر حكم المماليك وأثناء الحملة الفرنسية على مصر، وأظنه كان يُساق للسخرة كما يساق باقى الفلاحين فيقاوم ويأنف ويأبى فيتعرض للجلد والتنكيل، لاتظن أن ما أقوله هنا مدون فى التاريخ ولكنه مدون على ظهور أبناء بنى مر، فأبناء تلك القرية كغيرها من قرى أسيوط يتسمون بالشجاعة والإقدام، فهكذا قال المؤرخون عن قبيلة «آل مرة» القحطانية، وعن أبناء أسيوط، لذلك لنا أن نتصور أن أبناء بنى مر كانوا يستعصون على المماليك ولا يرضخون لهم، ولنا أن نفهم من طبيعتهم ومن طبيعة أهل الصعيد أنهم كانوا أحرارا لا يحبون العبودية، ولا يمكن أن تتضح صورة الجد الأكبر «على عبد النبي» فى مخيلتك إلا إذا اقترنت بقوة الشكيمة وصلابة التحدى فلم يكن المماليك رحماء بالمصريين، ولم تكن طبيعة أسيوط وقراها رفيقة بهم، ومع ذلك فقد اكتسبوا من طبيعة جبال أسيوط صلابة صخورها، ومن النيل المتدفق أمامهم عمقه وطيبته، ومن لونه سمارهم، ومن امتداده اتساع عيونهم، ومع ذلك فإننا لن نستطيع أن ندخل من أبواب التاريخ لنقرأ سيرة الجد الأكبر على عبد النبى أو ابنه سلطان، أو حفيده خليل، فكل أولئك كانوا من المجاهيل البسطاء فلم يحفل بهم التاريخ، ولو كان التاريخ يعلم أنه سيأتى من صلب هؤلاء الرئيس جمال عبد الناصر لأصدر أوامره للمؤرخين كى يتوقفوا عند الفلاحين البسطاء المجاهيل من أجداده لنعرف حياتهم وصفاتهم، وعلى أية حال فإن سيرة الأجداد مثلها مثل سيرة أى فلاح مصرى فى تلك الأزمنة، حيث كان لا يُتاح له الذهاب إلى مدينة أسيوط إلا إذا أخد تصريحا بذلك بعد أن يتعهد بأن يلبس مركوبا فى قدميه، ولكن قلبى يدلنى على أن أجداد عبد الناصر لم يكونوا حفاة أبدا، وإن كانوا فلاحين، والفلاح وقت غيطه وزرعه وحرثه يطأ الأرض بطبقات باطن قدمه السميكة، إلا أن المتنورين منهم كانوا يلبسون فى أقدامهم المراكيب، ولكن كيف عرفنا أنهم كانوا من المتنورين؟ من قرية بنى مر نفسها لأن أرضها الزراعية كانت محدودة، ولم يحدث أن تملكها إقطاعيا كبيرا ولكن الأرض كانت قسمة بين الأهالى بعضهم من كبار الملاك وبعضهم من صغار الملاك، وجد عبد الناصر المباشر «حسين خليل» كان يزرع بضعة قراريط جعلته يُلحق ابنه عبد الناصر والد جمال بكتاب القرية ليحفظ بعض القرآن، ثم جعلته بعد ذلك يلحقه بمدرسة من مدارس الإرساليات فى أسيوط ليحصل منها على الابتدائية، ويتقن من خلالها اللغة الإنجليزية، وأظن أن شغف الوالد عبد الناصر باللغات كان ظاهرا عندما ألحق عايدة ابنته ـ الأخب غير الشقيقة لعبد الناصر ـ وأخواتها بمدارس فرنسية فى الأسكندرية، والذى عرفته يقينا من «عايدة عبد الناصر» أن والدها كان شغوفا بالثقافة قارئا للآداب، فما بالك بالإبن جمال نفسه.

لسنا هنا نتقصى حياة جمال عبد الناصر شبرا بشبر، ولكننا نقرأ شخصيته معا، وحين أردت الوقوف على نفسية هذا الرجل الذى حيَّر العالم ذهبت إلى طبيب نفسى من الأصدقاء كان مغرما بتحليل الشخصيات، فاستخرج لى من شبكة الإنترنت توقيع جمال عبد الناصر، وقال لى: انظر معى للتوقيع، ستجده يبدأ من أسفل ثم يرتفع، وفى ذلك دلالة على الطموح والفخر والاعتزاز بالنفس، أما الخط الذى يضعه دائما تحت توقيعه فهو يدل على أنه شخصية تحب أن يمتدحها الناس، ولا يقبل أبدا أى موقع هامشى فى حياته، ولكنه ينظر دائما لموقع القيادة، ثم انظر لتوقيعه مليا، ستجده يوقِّع باسمه الثلاثى وهذا يدل على أنه ودود مُحب لعائلته فخور بها بسيط فى تعاملاته مع الناس، وركز معى فى المكان الذى يضع فيه عبد الناصر توقيعه، إنه يضعه أقرب لمنتصف الصفحة، وهذا يدل على أنه يحب الحرية ويكره الغموض، لذلك فهو صريح وواضح لا يُخفى شيئا، وفوق هذا لك أن تضع عدسة مكبرة على خطوطه لتعرف أنها مستقيمة طويلة لتعرف أنه صريح جدا لا يكذب، وهذا أمرٌ سيء جدا بالنسبة للسياسى.

نترك الطبيب النفسى الخبير فى تحليل الشخصيات، لنذهب إلى الأفكار، لتجد أن جمال عبد الناصر كان مغرما بالقراءة جدا، ومنذ صغره وهو يقرأ الكثير من الأدب العالمى وكان حبه لرواية عودة الروح لتوفيق الحكيم لا يضارعه حب، ومن الغريب أن عبد الناصر منذ حداثة سنه وهو يقرأ للعقاد، وطه حسين، حتى أن كتاب مستقبل الثقافة فى مصر كان من الكتب المفضلة لجمال عبد الناصر، وقد آمن عبد الناصر بأفكار طه حسين وجعل من مقولته «التعليم يجب أن يكون كالماء والهواء» شعارا للتعليم عندما أصبح رئيسا، وقد منحه عبد الناصر قلادة النيل عام ١٩٦٥ وفى عهد عبد الناصر أصبح طه حسين رئيسا لمجمع اللغة العربية، نفس الأمر ينطبق على عباس العقاد، ونجيب محفوظ وغيرهم من كبار الأدباء والمفكرين والفلاسفة، كلهم كانوا موضع تكريم فى عبد الناصر، حتى إنه جعل من أعيادنا عيدا للعلم يكرم فيه العلماء، وفى عصره أطلق عبد الناصر العنان للمسرح المصرى لكى يبزغ، وللسينما لكى تتفرد، وللكتاب لكى ينتشر، وأعطى كمال الدين حسين إشارة البدء فى وضع نظام ثقافى وفكرى وفنى فى التعليم المصرى وفى ذات الوقت أعطى عبد الناصر لثروت عكاشة وزير الثقافة كل الصلاحيات لينشئ نظاما ثقافيا فريدا فى البلاد، ورغما عنى سأقف عند هذا الحد لأخرج منه برؤية محددة هى أن عبد الناصر كان محبا للثقافة والفنون والآداب مؤمنا بقيمتهم فى تشكيل عمق حضارى لأبناء الأمة، ومن إيمانه بمصريته كان إيمانه بأن هذه المصرية يجب أن تؤثر فى كل العالم الذى يحيط بنا، فتأثيرنا فى دوائرنا العربية وامتداداتنا الأسيوية، وجنوبنا الإفريقى هو من باب الأمن القومى المصرى لذلك كانت إرساليات الأزهر الشريف، وكانت صوت العرب، وكانت إذاعة القرآن الكريم، وكان التلفزيون المصرى الأول فى منطقتنا كلها، وكان وكان وكان. نعود إلى عبد الناصر نفسه الذى كان يقرأ لطه حسين ويعجب بكتاباته، ويقرأ لتوفيق الحكيم ويتأثر برواياته ومسرحياته، ويقرأ لفيكتور هوجو فيتأثر بروايته الخالدة «البؤساء» ويتفاعل معها إلى حد البكاء، ويقرأ لتشارلز ديكنز روايته المدهشة «قصة مدينتين» ويظل عبد الناصر طوال حياته قارئا نهما، وحينما كانت الرقابة تقف أمام فيلم أو رواية أو قصة إذا بعبد الناصر ينتصر للعمل الفنى والأدبى حتى تلك الروايات التى انتقدته شخصيا، مثل رواية الكاتب الكبير ثروت أباظة «شىء من الخوف» فحينما تحولت إلى فيلم عام ١٩٦٩ كان عبد الناصر هو الذى أنقذها من براثن الرقابة، أما عن ثقافته الإسلامية فقد كانت متنوعة، إلا أنه كان معجبا برسالة التوحيد للإمام محمد عبده، وفى ذات الوقت قرأ عبد الناصر كل عبقريات العقاد، وقرأ للمفكر الجزائرى «مالك بن نبي» وغيرهم وغيرهم. أمامنا الآن زعيم عربى مثقف، قارىء، ليس قارئا فحسب ولكنه كان نهما فى القراءة، وكما يقول المثل الإنجليزى كان «books worm دودة كتب» وكانت ثقافته متنوعة، وإذا عدنا إلى مرحلة الشباب الأول لعبد الناصر سنراه ثوريا قائدا رئيسا لاتحاد طلبة المدرسة الثانوى ومشاغبا يحضر المظاهرات ويتلقى الهراوات على رأسه ويُقاد إلى الحجز مصابا، وقد سجل عبد الناصر أحداث تلك المظاهرة التى اشترك فيها فى بداية الثلاثينات حيث ذكرها فى خطبته الشهيرة بميدان المنشية بالإسكندرية فى ٢٦/١٠/١٩٥٤ فقال: «حينما بدأت فى الكلام اليوم فى ميدان المنشية. سرح بى الخاطر إلى الماضى البعيد.. وتذكرت كفاح الإسكندرية وأنا شاب صغير وتذكرت فى هذا الوقت وأنا اشترك مع أبناء الإسكندرية، وأنا أهتف لأول مرة فى حياتى باسم الحرية وباسم الكرامة، وباسم مصر.. أطلقت علينا طلقات الاستعمار وأعوان الاستعمار فمات من مات وجرح من جرح، ولكن خرج من بين هؤلاء الناس شاب صغير شعر بالحرية وأحس بطعم الحرية، وآل على نفسه أن يجاهد وأن يكافح وأن يقاتل فى سبيل الحرية التى كان يهتف بها» كانت تلك الفترة المبكرة من حياته بالإسكندرية مرحلة تحول فى حياة الطالب جمال من متظاهر إلى ثائر تأثر بحالة الغليان التى كانت تعانى منها مصر، وحينما قامت ثورة يوليو كتب عنها جمال عبد الناصر كتابه «فلسفة الثورة» لنعرف من سيرته ومسيرته وأفكاره أنه كان ثوريا. ثم ينضم عبد الناصر وهو فى المرحلة الثانوية لجمعية مصر الفتاة، فلا يجد فيها هواه رغم أن أطرها كانت مدنية، لا مكان فيها للقواعد التنظيمية الجامدة، فلم يجد بدا من تركها، فيذهب للوفد ثم سرعان ما يتركه، والوفد كان حزبا ليبراليا، وفى عام ١٩٤٣ وبعد أن تخرج من الكلية الحربية بسنوات قليلة بدأ طريقه فى إنشاء تنظيم الضباط الأحرار، وسأنهى المقال بسؤال افتراضى يطرحه الفلاسفة فى بعض الأحيان، ماذا لو لم يقابل «الحاج عبد الناصر حسين» الفتاة الإسكندرانية التى تزوجها وأنجب منها جمال؟ ماذا لو كان تعيينه فى مصلحة البريد فى أسيوط ولم يضع قدمه على عتبات الإسكندرية؟ ماذا لو كان تزوج من فتاة أخرى؟ أترى كان التاريخ سيتغير؟ أى فرد صنعه التاريخ لن يُغيِّر التاريخ، ولكن الذى صنع التاريخ سيصبح غيابه فارقا على أحداث التاريخ، وهكذا هم الزعماء، لذلك كان عبد الناصر زعيما.