الخميس 21 نوفمبر 2024

توفيق الحكيم .. النزعات الإنسانية

  • 21-7-2017 | 15:15

طباعة

نبيل فرج

فى اليوبيل الذهبى للمسرح القومى الذى احتفل به فى 1985، وعرضت فيه مسرحية «مجنون ليلى» لأحمد شوقى، دعى الكاتب الكبير توفيق الحكيم، بصفته الكاتب المسرحى الأول فى بلادنا، لكتابة كلمة تلقى فى هذا الاحتفال، لم تجمع فى كتبه، ولا يعرف أحد عنها شيئاً.

وتوفيق الحكيم (1898- 1987) هو رائد المسرح العربى، افتتحت الفرقة القومية للتمثيل والموسيقى موسمها الأول فى 1935 بمسرحيته «أهل الكهف» بعد سنتين من تأليفها فى 1933، ووصف عرضها بالحدث الكبير على المسرح الذى شيده طلعت حرب فى 1920، وشارك الحكيم فى عروضه السابقة من خلال فرقة عكاشة.

وبذلك عُدَّ الحكيم، بهذه المسرحية التى لم يطبع منها غير مائة نسخة، من مؤسسى مسرح الدولة، وعلى خشبته الرسمية قدمت العديد من أعماله التى تملك قوة الاستمرار، وتحتمل تعدد التفاسير، وكان الجمهور يقبل عليها بكثافة، إن بالمشاهدة أو بمجرد القراءة، للاعتقاد السائد بأنها مسرحيات ذهنية دسمة الفكر، كتبت للقراءة لا للتمثيل أمام الجمهور العريض.

ولكلمة توفيق الحكيم فى هذه المناسبة قيمتها، ليس فقط لأنها بقلم هذا الرائد الذى تلخص حياته تاريخ المسرح المصرى، وإنما لأنها تتضمن ذكراً لوقائع لقائه بأحمد شوقى فى باريس التى ذهب إليها الحكيم. ليدرس القانون فانغمس فى فنونها..

وقبل هذا وبعده لأن هذه الكلمة تخطط لمسرح الدولة ما بين الأعمال الكلاسيكية والأعمال الطليعية، وتعرض عند إنتاج هذه الأعمال لقضايا الشعر والنثر، والفصحى والعامية، دون أن يخلع الحكيم على نفسه رداء الناقد، صاحب السلطة، كما كان ينفى عن نفسه فى ماضيه كل الأردية إلا رداء الفنان صاحب الفكر والنزعات الإنسانية التى تحمى الإنسان من الدمار، وترتقى بالعالم.

أما الإبداع الفنى فهو فى نظره الذى لا يتقيد بحرفية الواقع أو التاريخ، لأنه وليد الحرية المطلقة التى توقظ الذهن، وتشحذ النقد، وتثير الرأى، وترقى بالبشر وذاتيتهم، مانحة إياهم القدرة على اكتشاف حقائق الحياة، وطاقة صنع النهضة، وإنشاء ما هو ممكن الوجود.

تطرح هذه القضايا فى كلمة الحكيم رؤيته فى أدبه المسرحى، الذى يرتبط بمراحله الزمنية، ويعلى فيه من الأبنية الجمالية التى تتوازن فيها اللغة مع التمثيل، سواء كانت النصوص الدرامية المنفذة شعراً أم نثراً، فصحى أم عامية، من التراث القومى أو العالمى، لا يشترط فيها الحكيم إلا الشاعرية فى الشكل والمضمون. هذه الشاعرية التى تثرى العمل وترفع مستواه، بغض النظر عن أبعاده النفسية أو الاجتماعية، على أن يكون الإبداع تأليفاً خالصا وليس نقلاً أو اقتباساً أو محاكاة، أى أن يكون ابتكاراً وليس تقليداً، تنبع من مصادر مهمة من التراث الشرقى بملامحه الشعبية، تثبيتا للطبع والهوية والأصالة، فى غير انفصال عن القالب العالمى، وعن القضايا العامة، وحضارة العصر.

وكان الحكيم يستطيع أن يرى فى الفنون الشعبية والقديمة ما يتصل ويتلاقى بالفن فى أحدث أشكاله التى تعبر فيها عن الواقع بغير هذا الواقع، بل وتسبقه أيضاً.

ولولا تمسك الحكيم بالمسرح الواقعى لمضى فى هذا الاتجاه حتى آخر شوطه.

وقد حاول توفيق الحكيم فى مسرحية «الصفقة» (1958) حل مشكلة الفصحى والعامية فى المسرح بإنشاء لغة ثالثة أو لغة مزدوجة، إذا عربتها وفق القواعد اللغوية تنطق بالفصحى، وإذا سكَّنت أواخر كلماتها تصبح عامية.

وهى تجربة يؤخذ عليها أنها آلية أو معملية، ثبت فشلها عمليا، ولهذا لم يكررها، اعتقاداً منه لعدم جدواها، ذلك لأن لكل من النطقين خصائصه الصوتية والدلالية، فضلا عن أن تركيب العبارات لا يتمشى فى الأداء مع التعريب أو التسكين.

وعن القالب الغربى فلم يكن الحكيم يأبه للاختلاف بين الشرق والغرب، وليس لديه حرج فى استخدام القوالب الغربية، لأن الشعوب والأمم والأجناس شاركت كلها عبر الحقب فى صياغتها، على نحو ما شاركت فى ثورة العالم العقلية والعلمية.

ولم يكن الحكيم يرفض شيئا فى مجال الإبداع قدر رفضه الشعور بالنقص الذى يحتفل بكل ما هو أجنبى ولو كان سيئاً، وينتقص من كل ما هو شرقى، ولو كان جيداً .

وهذا يعنى أن الإبداع فى نظر الحكيم لا وطن له، ولكن للمبدعين أوطانهم، ولا فرق فى الإبداع بين الذكور والإناث .

وكثير من أعمال الحكيم، خاصة فى مرحلته الأخيرة. مثل «يا طالع الشجرة» وما كتبه من أشعار فى مستهل حياته الأدبية، تنتسب فى إطارها ومضمونها للتيارات المحدثة فى الأدب الأوروبى، التى تنتمى للفن الحديث، وأعلامها يونسكو، بيكيت، آداموف، وغيرهم ممن كان الحكيم يطالعهم، ويتتبع إنتاجهم.

وتتمثل أهمية هذه الكلمة فى أنها بقلم كاتب لا يبعد أدبه عن حياته الخاصة، أو عن السياق التاريخى الذى عاصره وهى المرة الوحيدة التى يورد فيها الحكيم أسماء الكتاب المسرحيين الجدد فى الخمسينيات والستينيات الذين تمتعوا مثله بسعة العلم ورفعة الإبداع، ومع هذا لم يكن الحكيم يهتم بذكرهم، وهم يمضون فى ركابه، حاملين سراج التجديد على اختلاف اتجاهاته.

في السطور التالية نقرأ  نص كلمة الحكيم التى يخطط فيها للمسرح المصرى:

***

مسرح الدولة

بقلم: توفيق الحكيم

سعدت بهذا الاختيار الموفق لمسرحية شوقى «مجنون ليلى» لتكون مسرحية الاحتفال باليوبيل الذهبى للمسرح القومى المستوحاة من تراثنا العربى..

وإنه ليدهشنى كيف لم يفكر أحد فى شوقى يوم افتتاح المسرح القومى منذ نصف قرن.. خصوصاً وقد اعترضت على اختيار مسرحيتى «أهل الكهف» وقلت إنى لم أكتبها للتمثيل على المسرح.. والظاهر أن ضخامة شوقى الشاعر قد صرفت الذهن عنه كمؤلف مسرحى.. مع أنه كان يحب فن المسرح. وقد التقينا فى باريس ذات صيف فى العشرينيات، وأخبرنى أنه كان يحضر بروفات المسرحيات على مسرح الأزبكية الذى كان طلعت حرب قد أنشأه منذ سنوات قليلة، وإنه حضر بروفات مسرحية لى وسأل عن مؤلفها فقالوا له إنه فى باريس. ثم طلب منى بهذه المناسبة أن أحضر له من المكتبات ما كتبه شعراء فرنسا عن «كليوباترا» لأنه بصدد تأليف مسرحية شعرية عنها.. ولم آخذ كلامه مأخذ الجد .. لأنى لم أقتنع بأن عبقريته الشعرية يمكن أن تقبل لها رداء غير الشعر.. فلقد كنت أذكر قول أحد أعلام الأدب الفرنسى فى عبارة له هى: «إن الشعر الجيد يقتل المسرحية الجيدة»..

وهو يقصد بذلك أن الممثل للمسرحية الشعرية الجيدة يجد نفسه مقيداً بجمال الشعر فيضحى بالمعنى والموقف فى سبيل الإلقاء الرائع الذى يسحر به الأسماع فيغطى على المضمون.. ولذلك كان الممثلون فى مسرحيات «راسين».. وغيره من عظماء الشعراء يلقون شعرهم على المسرح كأنه نثر فيصلون الشطرة بالشطرة، ولا يترنمون ولا ينغمون، ويظهرون فقط بالتمثيل الجيد الحر المنطلق من أسر القافية والنظم ما يبرز المعانى ويجسد المواقف ويرسم الشخصيات بكامل تكوينها الإنسانى..

ولكن المسرح القومى لكل بلد متحضر لابد أن يكون هو المأوى للمسرحية الرفيعة بشعرها البليغ أو نثرها الفصيح .. ولذلك كنت مع الرأى الذى يوصى بأن يخصص المسرح القومى فى بلادنا للمسرحية الراقية بلغتها العربية الفصحى.. ولكنى وجدت أن من المسرحيات المرتفعة ما يكتب بالعامية ويعالج شئون المجتمع وقضاياه مثل مسرحيات نعمان عاشور ويوسف إدريس وسعد الدين وهبه وألفريد فرج وغيرهم.

فكيف لا تدخل المسرح القومى هذه المسرحيات؟ .. ربما لو خصص لأمثالهم من الممتازين مسرح قومى للعصريات الراقية إلى جانب المسرح القومى للكلاسيكيات.. لكان هذا هو الأكمل والأجمل.. وهذا ما يحدث الآن فى فرنسا: فهناك مسرح الكوميدى فرانسيز للكلاسيكيات، وإلى جانبه الكوميدى فرانسيز.. الثانى المسمى «الأوديون»، للعصريات وغيرها .. فللدولة مسرحان حكوميان يمثلان ثقافة البلد: مسرح للكلاسيك والتراث ولغته الفصحى ومسرح للعصريات والمجتمع ولغته المناسب لذلك من الأساليب.. وإلى جانب ذلك المسارح الأخرى الخاصة والتجارية وما يسمى فى باريس مسارح «البولفار».. وهى حرة فى نشاطها الفنى بالمستويات التى يراها أصحابها حسب جماهيرها وتحت مسئوليتهم.. ولا رقيب عليها إلا النقد اليقظ الذى يميز المرتفع منها فينوه به أما المنخفض فيهمل إلى أن ينصرف الناس عنه..

ولقد فطنت الحكومة فى الثلاثينيات إلى واجبها فى أن تنشئ مسرحاً محترماً يكون عنوانا لثقافة الدولة فكان أن أنشأت هذا المسرح القومى الذى افتتح فى ديسمبر من عام 1935، وعينت مديراً له هو شاعر القطرين خليل مطران الذى كان له فضل إظهار المسرح بمظهر الاحترام.. ثم جاء المدير الثانى أحمد حمروش الذى نظم احتفال المسرح بيوبيله الفضى، وكان له فضل إظهار مسرحيات مؤلفين جدد أصبحوا فيما بعد من أعلام مسرحنا.. وأخيراً المدير الثالث وهى الممثلة القديرة سميحة أيوب التى نظمت هذا الاحتفال باليوبيل الذهبى، ولها الفضل فى افتتاحه بمسرحية لشوقى الشاعر العظيم ليكون رمزاً لصحوة كبرى.

    أخبار الساعة

    الاكثر قراءة