الأحد 29 سبتمبر 2024

العجيب جرجي زيدان

21-7-2017 | 15:17

الدكتور حامد طاهر - نائب رئيس جامعة القاهرة الأسبق

     هناك نوع من الكتاب لا يقتصر نشاطهم على الإبداع الفكرى والأدبى فقط ، وإنما يمتد ليشمل إنشاء مؤسسات أدبية وثقافية كبرى ، ومن أبرز هؤلاء جرجي زيدان ، الأديب اللبنانى الذى هاجر إلى مصر سنة 1883، واستقر بالقاهرة ، وأصبح من أشهر أعمدة الفكر والنهضة بها .

    والواقع أن العجب لا يكاد ينتهى من ذلك الإنتاج الضخم الذى أثرى به الرجل الحياة الأدبية والثقافية فى عصره ، وتركه  تراثا باقيا للأجيال اللاحقة ، فإذا أضفنا إلى هذا إنشاءه لمجلة الهلال التى أصبحت : دار الهلال ، وهى المؤسسة الكبرى التى ما زالت باقية حتى اليوم كصرح ضخم من صروح الثقافة المصرية الحديثة ــ تزايد العجب مرات ومرات من تلك الحيوية التى كانت تملأ روح هذا الرجل ، وتوجّه نشاطه .

     جرجي زيدان : نشأة متواضعة جدا . فهو أحد خمسة أبناء وبنات . ولد سنة 1861. أبوه صاحب مطعم صغير ، وكان يتمنى أن ينجب ولدا يتعلم القراءة والكتابة لكى يسجل له حسابات الزبائن الذين يدفعون بالأجل ! وقد تقلب الفتى بعد ذلك فى عدة مهن منها إسكافى وبائع قماش . وفى سن العشرين طمح إلى دراسة الطب ، فانتسب إلى الجامعة الأمريكية ببيروت ، ثم على إثر إضراب طلابى تم فصله من الجامعة ، فقرر الرحيل من بيروت إلى مصر ، ومن أجل ذلك استدان ثمن تذكرة الباخرة وكان يعادل حينئذ ستة جنيهات .

    وصل جرجي زيدان إلى القاهرة ، وكان يحكم مصر الخديو توفيق ، كما كانت خاضعة للاحتلال الإنجليزى ، وقد اتجه للعمل كصحفى أحيانا ، ومدرسا تارة أخرى . وفى تلك الأثناء نشر بعض الكتب ، ثم اشترك مع نجيب مترى فى إنشاء مطبعة الهلال ، التى استقل بملكيتها بعد عام ، وأصدر منها مجلة الهلال وهى التى صدر منها العدد الأول فى أول سبتمبر 1892. وكان هو محررها الرئيسى . والواقع أن معظم مؤلفاته التى ستظهر فى شكل كتب فيما بعد لم تكن إلا مقالات أو فصولا منشورة بالهلال .

 

     وهنا لا بد أن نذكر لزيدان ــ على سبيل الإنصاف ــ موقفين مهمين . الأول أنه كان أسبق من قاسم أمين فى دعوته التى اشتهر بها من أجل تحرير المرأة ، فقد كتب وفتح صفحات الهلال لكتاب آخرين تبنوا هذه الدعوة . والموقف الثانى أنه كان من المتحمسين لإنشاء الجامعة المصرية (القاهرة حاليا) ومما أثار استياءه أنه بعد أن دعى لتدريس مادة التاريخ الإسلامى بها ، تم استبعاده بحجة أنه مسيحى ، مع أهليته تماما لهذا العمل ، كما أن بعض المستشرقين كانوا يحاضرون فيها !

      إلى هنا سوف أتوقف عن سرد المعلومات التاريخية عن جرجي زيدان ، لأنتقل إلى مساهمته الحقيقية في تيار النهضة والإصلاح بمصر الحديثة :

     لقد كان زيدان من الرواد الأوائل فى كتابة  تاريخ حديث للأدب العربى من خلال كتابه (تاريخ آداب اللغة العربية ــ فى أربعة أجزاء)

     وكان من أوائل الذين كتبوا عن تاريخ الحضارة العربية والإسلامية  من خلال كتابه (تاريخ التمدن الإسلامى ــ فى خمسة أجزاء)

    وكان من أوائل من كتب عن الماسونية : تاريخها وأبرز رجالها فى الشرق من خلال كتابيْه (تاريخ الماسونية العام) و(تراجم مشاهير الشرق)

   كما كان من أبرع رواد الرواية التاريخية ، التى تقوم على استلهام التاريخ العربى والإسلامى ، وصياغته فى قالب روائى جذاب ، لكى يسهل على القراء استيعابه ، وذلك من خلال (23رواية تاريخية) كان أشهرها (المملوك الشارد) الذى تمكن من الفرار من المذبحة الدموية التى قام بها محمد على للمماليك بعد أن عزمهم على مأدبة طعام فى القلعة !

     أما مؤسسة زيدان الكبرى فكانت هى مجلة الهلال التى أصبحت فيما بعد دار الهلال ، والتى قدمت للثقافة المصرية والعربية لونا أصيلا وعصريا من المقالات والمعارف والمعلومات ارتبط بها القارئ وأصبحت جزءا من شخصيته .

    وقد أتاحت لى الظروف ، حين كنت أحضّر رسالتى للدكتوراه فى جامعة السوربون بباريس ، أن ألتقى بحفيدة جرجي زيدان ,واسمها دينا وهى فنانة تشكيلية وكانت تعمل فى منظمة اليونسكو . وبسرعة تعارفنا ، وقد أفضت إلىّ بمدى حزن الأسرة من تأميم ممتلكات جدها ، ومنها ذلك الصرح الثقافى الكبير الذى أقامه فى القاهرة .

ما يؤخذ على جرجي زيدان :

    كتب البعض منتقدا أسلوبه فى تحريف بعض أحداث التاريخ الإسلامى , والإساءة إلى بعض حكامه ، كما اتهموه بالعمالة للمخابرات البريطانية ، وبالشعوبية  ضد  الجنس العربى ، وعضويته بالمحفل الماسونى المصرى .

    ولا بد لكل هذه الاتهامات من أن يتم فحصها بعناية ، وأن تحدد أحداثها ومواقعها من حياة الرجل وإنتاجه الأدبى والثقافى . ويبقى أن الحكم (العام) على إنسان ينبغى أن يستند إلى معايير العدالة والإنصاف ، حتى لا نظلمه حيا وميتا ، ولا نطمس ببعض أخطائه البشرية معظم إنجازاته ( ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى) صدق الله العظيم .

جرجي زيدان فى مرآة أحمد شوقى :

بعد أن توفى جرجي زيدان ، رثاه ثلاثة من كبار شعراء مصر وهم أحمد شوقى وحافظ إبراهيم وخليل مطران . وسوف أتوقف قليلا عند رثاء شوقى الذى يتسم بعاطفة  حزينة بالفعل ، كما يسجل بعض مآثر الفقيد ، ويشير إلى بعض ما تعرض له من استبعاده من التدريس بالجامعة بسبب الدين ، فيقول وكأنه يخاطب عصرنا:

لا تجعلوا الدين بـــاب الشر بينكم

ولا محـــــل مباهـــــاة وإدلال

ما الدين إلا تراث الناس قبلكم

كل  امرئ لأبيــــــه  تابـــع تال

ليس الغلوّ أميـــنا فى مشورتـــــه

مناهج الرشد قد تخفى على الغالى

ويخاطب صديقه جرجي زيدان قائلا :

زيدان إنى مع الدنيا كعهدك  لى

رضا الصديق ، مقيل الحاسد القالى

رثيت قبلك أحبابا فجعت بهم

ورحت من فرقة الأحباب يرثى لى

وما علمت رفيقا غير مؤتمن

كالموت للمرء فى حل وترحال

أرحت بالك من دنيا بلا خلق

أليس فى الموت أقصى راحة البال

ثم يسجل قيمة مجلة الهلال فى قوله :

قد أكمل الله  ذيّاك (الهلال) لنا

فلا رأى الدهر نقصا بعد إكمال

ولا يزل فى نفوس القارئين له

كرامة الصحف الأولى على التالى

فيه الروائع من علم ومن أدب

ومن وقائع أيـــام وأحــــوال

وفيه همة نفس زانها خلق

هما لباغى المعالى خير منوال

وبالنسبة إلى إنجاز زيدان فى أعماله الأدبية ــ التاريخية ،

يقول شوقى :

علّمت كل نئوم فى الرجال به

أن الحيــاة بآمـــال وأعمـــال

ما كان من دول الإسلام منصرما

صوّرته ، كل أيـــام بتمثـــال

وضعت خير روايات الحياة فضعْ

رواية الموت فى أسلوبها العالى