تقرير تكتبه : أمانى عبد الحميد
لوحات وأعمال فنية عبرت بقوة عن ثورة يوليو منذ اندلاع شرارتها الأولى ومثلت تيارا من الوعى السياسي والاجتماعي والفني المتغير. رصدت بعمق حالة الحراك وانطلقت من جماليات الفن لتتجه نحو الفكر الكامن وراء مسارات الثورة تحول معها الفلاح والعامل والإنسان البسيط إلى بطل من أبطال العمل الفني وإن استحوذت عليهم الأحداث الكبرى مثل بناء السد العالى الحرب على الإنجليز وجلائهم الإصلاح الزراعي تأميم قناة السويس حرب الاستنزاف لتمثل فترة ثرية من عمر الحركة التشكيلية في مصر.
منذ بداياتها الأولى مع تأسيس كلية الفنون الجميلة في عام ١٩٠٨ تميزت حركة الفن التشكيلي في مصر بالقوة والاتساق مع التيار الوطني فلم تتخل عن دورها في النضال السياسي والاجتماعى, بل لعبت دورا كبيرا للمطالبة بالاستقلال الوطني منذ بدايات القرن العشرين, ولم تكن يوما بعيدة عما يجري حولها من أفكار أو قناعات أو آراء تحررية, فانطلقت ضمن حركة تنوير شاملة من الفلسفة والأدب والفكر والصحافة والفن والموسيقى. والسياسة بلغت ذروتها باندلاع ثورة ١٩١٩, لذا كان من الطبيعي أن يخرج فنانون يتبنون نفس التوجهات والآمال لخلق تيار وطني فني مثل محمود مختار وراغب عياد ويوسف كامل وحبيب جورجي, وظلت كذلك حتى النصف الثاني من القرن العشرين, فمنذ اللحظات الأولى واكبت حركة الفن التشكيلى ثورة يوليو وأحداثها وقراراتها التي غيرت الحياة على أرض مصر, فظهر الفلاح, العامل, المواطن البسيط, جموع البشر, وغيرها من ملامح المجتمع المصرى واحتلت موقع البطولة في معظم إبداعات كبار الفنانين, وأصبح الفن هو وسيلة التعبير عن إنجازات الثورة وقراراتها ورصد النهضة الوليدة والمشروع التقدمي التي تبناه جمال عبد الناصر. وأصبح أمام فنانى مصر تحدى البحث عما يكمن وراء الثورة والتركيز على الحلم الوطني النابع من أحلام البشر العاديين, فلا أحد ينسى أعمال صلاح طاهر أو عبد الهادي الوشاحي التي عبرت عن الثورة, أو الأعمال الفنية التي عبرت عن “الإصلاح الزراعي” مثل حسين فوزي, إنجي أفلاطون, راغب عياد, تحية حليم, جاذبية سري, سيف وانلي, حامد عويس, أو أعمال أرخت لموضوع الميثاق مثل لوحة عبد الهادي الجزار أو معركة بورسعيد كما سجلها محمد صبري, وإن كان مشروع السد العالي قد أثر في عدد من الفنانين منهم حامد الشيخ, عفت ناجي, عبد الرحمن النشار, خاصة وأن فلسفة ثورة يوليو كانت تتمحور حول إعلاء شأن أبناء الوطن وتقديرهم باختلاف شرائحهم.
جاءت الثورة وعبد الناصر لتضع إطارا أو قالبا لتسير فيه الحركة التشكيلية الفنية فكان تلاحق الثورة الاجتماعية والأحداث السياسية الكبرى لها أثر في وجدان الفنان التشكيلي وفتحت له آفاق واقع مختلف، وخلقت حافزا للبحث عن أشكال ورؤى جديدة دفعته إلى تصوير إرادة الشعب وبسالة المقاومة والمعاني الفكرية وراءها, ونجد الدكتور بدر الدين أبوغازي وزير الثقافة السابق يكتب دراسة له في عام ١٩٧٠ تحمل عنوان : « الفنون التشكيلية في عهد عبد الناصر» يؤكد فيها أن المناخ الفكرى والسياسي وأحداث حقبة جمال عبد الناصر كانت من العوامل المؤثرة في مضمون العمل الفنى وفى أساليب التشكيل المعاصر, وكما يقول : « كان دخول مصر عصر التصنيع وظهور معالم الاشتراكية مجالا لانفتاح رؤى جديدة لفنان التشكيلي فبدت صور جديدة لم تكن تظهر فى فن ما قبل الثورة إلا بقدر ضئيل ..», فاستخلص الفنان من عصر السد العالي وإرادة البناء والتشييد عناصر شكلت ملامح الفن فارتسمت على الألواح والتماثيل حركة الحياة الزاخرة. وعلى حد تعبيره ظهرت مقابلات تشكيلية بين قوى الطبيعة العاتية وجهد الإنسان لتطويعها وأتاح للفن أبعادا من الرؤية والتعبير والتطلع وظهر في الفن المصرى محاور جديدة أبرزها محور الإنسان بين الطبيعة والآلة.
وفي المناخ السياسي تأكدت فكرة الوحدة العربية ودفعت الفن إلى التوغل في التراث العربي, ولم تعد مصر بتراثها وحده منبع الإلهام الفني, بدأ اكتشاف عناصر الفنون الإسلامية والتراث العربي بل دخلت طاقات أفريقيا العميقة في مجال رؤيا الفنان المعاصر، واتجه إلى فنونها سابقا الغرب إلى اكتشافها والاستعارة منها, ويوضح «أبوغازي» ظهور الاهتمام بالتراث الشعبي وما قام من حولها من جهود لإحياء الفلكلور فانكشف للفنان التشكيلي عالم ملئ بالسحر والأسرار، وأصبح «الموتيف” الشعبي من مفردات لغة العصر التشكيلية, ولعل غرق النوبة القديمة بعد تهجير سكانها كان محركا قويا ساق الفنان المصري فدخلت الألوان والتشكيلات النوبية في التعبير الفني.
ويكتب قائلا : « في لحظات الخطر والعدوان كان لابد أن تكون الألوان آلاما وأن تشحن الخطوط بتوتر الغضب, وأن يتحول التكوين |إلى دوامة تمثل فيها حيرة الفكر وآنين الروح المثخنة بالجراح ..» وشغلت المعركة مجالا من التعبير الفني, بعض الأعمال سجلت مظاهرها بينما ارتبطت الأحداث في أعمال أخرى بمغزاها التاريخي ومعناها العميق, منها يعبر عن إرادة الصمود والإصرار والمقاومة, وفيها الحدس والأمل والاحتجاج, الصمود أيضا ماثل, صلب المعاني الكبرى وفي نفس الوقت انتصارها. وبالتالي أكد «أبوغازي» أن ملامح الفن التشكيلي خلال عصر عبد الناصر تغيرت، وإن كان أهم ما بدا عليها هو الخروج على العمود الأكاديمي في التصوير والنحت واختفاء كثير من اللوحات بمضمونها الدارج في المعارض, وتمرد اللوحة والتمثال على المناسيب الصغيرة وظهرت مناسيب صرحية كما ارتبط الفن بالعمارة.
ومن وجهة نظر أخرى, نجد أنه خلال فترة ما بعد الثورة ظهرت ثلاثة اتجاهات رئيسية داخل قنوات الفن المصري والتي كتب عنها الفنان أحمد فؤاد سليم أنها : « اتجاهات ولم تكن مدارس فن ..» حيث بات على كثير من الفنانين أن يحددوا مواقفهم الإبداعية والثقافية من وحى من ضميرهم الصافي ووجدوا أنفسهم أمام حالة من الحرية جعلتهم مسئولين إلى حد كبير عن التعبير عن شعارات الثورة التي كانت نفسها شعاراتهم هم وأحلامهم هم وآمالهم هم, وأوضح في دراسته التي تحمل عنوان « تيارات واتجاهات حركة الفن المصرى المعاصر منذ أوائل القرن وحتى اليوم» وقام بنشرها في ذكرى مرور خمسين عاما على ثورة يوليو, حيث أوضح أنه خلال الفترة الممتدة ما بين ١٩٤٥ وحتى ١٩٦٥ وظهر الاتجاه الأول عبر مجموعة من الفنانين ليمثلوا نبض معركة التحول الاجتماعي ذاته منهم حامد ندا وعبد الهادي الجزار وإنجي أفلاطون وتحية حليم, آدم حنين. وكانوا معنيين على حد قول «سليم» بالتعبير عن بنية الشخصية المصرية الجديدة من خلال الرمز من ناحية, والتأكيد على فكرة الكبرياء والانتصارات لجماليات الواقع المصري الذي ظل مهانا لزمن طويل من ناحية أخرى, جاءت أعمالهم لتمثل نوعا من الطموح الفنى والسياسي الذى كان يدعو للفخر والتأييد فانتشرت وسائل التعبير عن موضوعات تمثل واقع الفلاح المصري وتمجد العمل وتسجل الإنجاز.
أما الاتجاه الثاني فظهر خلال الفترة ما بين ١٩٦٠ وحتى ١٩٧٥ طبقا لدراسة «سليم» كان يضم مجموعة من الفنانين مثلوا نتاج عملية التحول الاجتماعي ذاتها, المنبع الأول لهذا الاتجاه اهتم بفكرة العودة إلى الريف والقرية المصرية والتي كانت محتفظة بخمائرها وتقاليدها الراسخة ومحصنة ضد اليأس وعذابها بالأسس الحضرية الضاربة في أعماق الزمن, فكانت العادات والتقاليد, السلوك اليومى, الزواج, الموت, الميلاد والأعياد, الملاحم, تقديس النيل, مع مختلف الغيبيات العالقة في الذاكرة المزدحمة, أما المنبع الثاني فلجأ إلى الفن المصري القديم أو الفرعوني على اعتبار أنه استنباط لجماليات لا يقبل الجدل, أما المنبع الثالث للاتجاه الثاني فلجأ الى المقومات الجمالية للعنصر القومي في الفن الإسلامي, جانب منه كان رد فعل في مواجهة هزيمة ١٩٦٧, وبالتالي اختار الاتجاه الثاني أن يتناول الشخصية المصرية عن طريق وضع عناصر أبطالها مرة واحد فوق المسرح على حد تعبير «سليم».
في حين كان الاتجاه الثالث الذي امتد خلال الفترة ما بين ١٥٥ وحتى ١٩٧٥ قائما على مجموعة متناقضة من الفنانين المصريين حيث كانت انتماءاتهم للفلسفات وللأفكار المغايرة ولحركة التحول الاجتماعي القوية دون موقف محدد, بعضهم صرح بازدرائه لفكرة الشخصية المصرية على اعتبار أنها نقيض لفكرة الحرية, كانوا يرون أنها حالة هروبية تذهب إلى حد تجميد العقل, وضم فنانين مستنيرين ومثقفين تجريديين, بينما كان الفريق الآخر يمثلون الشريحة المغلقة على القيم الماضية والأكاديمية المدرسية وآثروا المحاكاة الوصفية فنكبوا على رسم جذوع الشجر أو الزلط أو الأحجار الصحراوية, لذا كان الفريقان على النقيض في النظر إلى الوجود إلا أنهم تبنوا نفس الأفكار ونفس الوفاء العلنى لمفهوم الحرية.
لذا شكلت ثورة يوليو ١٩٥٢ قوالب حركة الفن التشكيلي في مصر بشكل جعلنا نرى لوحات كثيرة تعبر عن أهم الأحداث التي شهدها المجتمع المصري بناء على قرارات الثورة الكبرى مثل تمثال عبد الهادي الوشاحي «الثورة حماية ودفاع» ١٩٦٢, ومثل قرار بناء السد العالي الذي جسده بطرق عدة مثل لوحة «السد العالي ..إرادة الإنسان « عام ١٩٦٦ لأحمد نوار, ولوحة «بناء السد « لحسين فوزي, ولوحة «السد العالي» ١٩٦٢ لرمزي مصطفى, ولوحة “بناء السد” الشهيرة لعبد الرحمن النشار ١٩٦٤, ولوحة «دراسة في بناء السد العالي عام ١٩٦٦ لعفت ناجي, كما ظهر العامل والفلاح كما جاء في تمثال جمال السجيني «صحوة الفلاح» عام ١٩٥٥, وتمثال «العمل» لحسن العجاتي ولوحات إنجي أفلاطون «عمال البناء» و»العمال» و»العامل الزراعي», أو لوحة أحمد رائف «العمل في الحقل» عام ١٩٦٩, أو لوحة «من وحي الإصلاح الزراعي «١٩٦١ لجاذبية سري, ولوحة «خروج العمال» عام ١٩٥٣ لحامد عويس, ولوحة «العمل في الحقل» ١٩٦٢ لخديجة رياض, ولوحة « الإصلاح الزراعي « لكمال أمين عام ١٩٦٢, وظهرت لوحات مثل “الحرب والسلام “١٩٥٤ لسمير رافع, ولوحة «الثورة « لصلاح طاهر في عام ١٩٦٧, ولوحة «الميثاق» لعبد الهادي الجزار عام ١٩٦٢, كما عبر الفنانون عن حالة الحرب التي عاشتها مصر كما جاء في لوحة عصمت داوستاشي «حرب النكسة» و «الحرب» عام ١٩٦٧, ولوحة «معركة بورسعيد» لمحمد صبري عام ١٩٥٧, وكان عبد الناصر بطلا داخل عدد من الأعمال الفنية مثل تماثيل جمال السجيني ومنها بورتريه جمال عبد الناصر المصنوع من البرونز عام ١٩٥٦, ولوحة “ اتفاقية القاهرة” عام ١٩٧١, واللوحة الشهيرة لحامد عويس التي تحمل عنوان « الزعيم وتأميم القناة « ويظهر فيها جمال عبد الناصر وسط الحشود الشعبية من المصريين الذين يمثلون الطبقة العاملة تعلو وجوههم السمراء ابتسامة ونظرة فخر بزعيم أمتهم، على ضفة قناة السويس، وفيها يحتل الزعيم المساحة الأكبر للوحة وهو يحييهم بيده تعبيرا عن الشعور بالوفاء، والعمل يعكس تفانى الفنان المصري في التعبير عن مبادئ ثورة ١٩٥٢.