بقلم – سكينة السادات
• فى بيت الأسرة فى كوبرى القبة ذى التسع غرف والثلاث صالات، كان يقبع الراديو الخشبى الطويل فى الصالة الكبيرة التى تقع بها مائدة الطعام وعدة كنبات فيما يسمونه الآن غرفة المعيشة، وكان الراديو يفتح منذ الساعة السادسة صباحا لسماع القرآن الكريم، ثم نشرات الأخبار وعندما يغادر والدى المنزل فى السابعة صباحا كل يوم متوجها إلى عمله كمدير إدارى لمستشفى كوبرى القبة العسكرى، كان الراديو يظل مفتوحا ولكن لا يلقى إليه أحد منا اهتماما، لأن الأبناء إما فى غرفهم، أو فى الحمام، أم مازالوا نياما والأم فى المطبخ وكل واحد فى حاله حتى هرع إلينا جارنا «أحمد أفندى « وصاح بأعلى صوته افتحوا الراديو قوام.. أخوكم أنور بيتكلم فى الإذاعة؟ ؟
• التفتنا جميعا حول الراديو ورفعنا الصوت وسمعنا موسيقى عسكرية، ثم جاء صوت المذيع يعلن عن بيان من الجيش المصرى، وسمعنا صوت أخى أنور يتلو البيان بصوته المميز الجهورى، وكأن على رءوسنا الطير وقالت الأم.. هوه جرى إيه؟ وقالت أختى.. أخويا أنور جراله إيه؟ والكل لا يعرف ماذا جرى ووالدى فى عمله، وقالت الأم:
- مش فاهمين حاجة؟ ثم قالت.. معايا نمرة تليفون بيته فى منيل الروضة كلموا الست جيهان ممكن تفهمنا الموضوع !!
• وطلبنا جيهان زوجة أخى وضحكت وقالت:
- ما تخافوش.. أخوكم بخير والحمد لله.. وأول ما ييجى بالسلامة سوف يتصل بكم إن شاء الله !
• وجاء والدى وهو مشرق الوجه سعيدا، وانهالت عليه المكالمات والتهانى وقال.. ولكل مجتهد نصيب الحمد لله الجيش حيطهر البلد وينصر الفقراء وأخوكم البكباشى أنور السادات مع إخوانه همه اللى عملوا الحركة المباركة !
• ورجعت بالذاكرة إلى اجتماع الرئيس جمال عبدالناصر والمشير عبدالحكيم عامر وأخى أنور فى المضيفة التى تقع خارج البيت وكيف كنا نركب سيارة الرئيس جمال الصغيرة ونضغط على «كالاكس» فيعنفنا «المراسلة» أى الجندى الذى يخصصه الجيش لخدمة الضابط، وكيف أصبح جمال عبدالناصر قائدا للثورة ثم زعيما لمصر فى حياته ومماته!
• وفى يوم زفافى شهد على عقد قرانى الرئيس جمال عبدالناصر والمشير عبدالحكيم عامر وأخى أنور السادات وقال الرئيس جمال يومها..
-هيه دى البت الصغيرة اللى كانت بتقدم لنا الشاى أبونعناع فى المضيفة؟
• ومرت السنوات وتفرق شمل بعض أعضاء مجلس الثورة، لكن الرئيس جمال وأنور السادات لم يفترقا اللهم إلا حوالى خمسة عشر يوما اعتكف فيها أخى فى قريتنا ميت أبو الكوم إثر وشاية حقيرة تبين كذبها، وجاءه الرئيس جمال وكان معه الرئيس جوزيف بروز تيتو إلى ميت أبو الكوم ورجعوا جميعا بسلامة الله إلى القاهرة، وحرص الصديقان على مسح تلك الفرية من حياتهما تماما ولم يفترقا مطلقًا بعد ذلك!
• ولازم أخى أنور الرئيس عندما شعر بمرض ساقه، ثم اختاره من بين كل زملائه لكى يكون نائبًا له ولم يثق فى أحد غيره!
• ثم كان العامان السابقان لوفاة الرئيس جمال عبدالناصر، حيث كانا يجتمعان كل ليلة فى بيت أخى أنور فى الهرم، ويغلقان الدور السفلى من المنزل الذى كان يقيم فيه أخى فى الهرم، ويمنع دخول أحد ويتناولان عشاء خفيفا تقوم السيدة جيهان بنفسها بإعداده وليس أى من الطهاة ويشربان الشاى بالنعناع فى الأكواب الصغيرة ثم يغادر الرئيس جمال المنزل إلى بيته فى أمان الله.
• ثم كانت الفاجعة عندما توفى الرئيس جمال عبدالناصر فى منزله إثر أزمة قلبية، وقال بعض السفلة والمجرمين إنه مات مسموما وثبت بالأدلة الدامغة وقرارات الأطباء أنه مات إرهاقًا بعد أن بذل جهدا مريرا فى مؤتمر القمة وإصراره على توديع الرؤساء للمطار وهو مريض!
• وجاء أنور السادات رئيسًا البلاد وكانت الدنيا كلها قد تغيرت! وكل البلاد اتجهت إلى الاقتصاد الحر، وكان لابد أن تتغير سياسة مصر أيضا إلى الاقتصاد الحر، وقال السفلة «همه همه» دا ماشى على سياسة جمال عبدالناصر بأستيكة !!
• كان لابد من التغيير ولو كان العمر قد امتد بالرئيس عبدالناصر لكان قد غيّر سياسته، حتى أكثر الدول اشتراكية وشيوعية اتجهت جميعا إلى الانفتاح والاقتصاد الحر، أما عندنا فقد قال أحمد بهاء الدين فى مقال اعتذر عنه قبل وفاته قال عبارة عملوها لبانة «همه همه أيضا» أى بعض الناصريين الحاقدين قال انفتاح سداح مداح ! وقال بهاء الدين فى حضرة السيدة جيهان:
- والله لم أقصد أى إساءة، العالم كله أصبح منفتحًا فلماذا ننغلق نحن على أنفسنا؟
• وخاض السادات حرب أكتوبر ونجح وعبر وحقق أول انتصار مصرى عربى على إسرائيل واستعاد سيناء، ثم طهر قناة السويس وفتحها للملاحة الدولية واسترد كرامة مصر جيشها.
•وظل السادات مخلصا لجمال عبدالناصر، وظلت أسرته محبة لجمال عبدالناصر حتى اليوم، وأنكر البعض ذلك لأنهم لا يعرفون المحبة ولا يعرفون الوفاء كما عرفه السادات وعرفه جمال عبدالناصر !
• ولم يحدث أن أساء السادات لأحد من أبناء عبدالناصر أو أهله، فقد ظل يقول أولاد جمال عبدالناصر هم أولادى وأعز كمان!!
• نفتقد كل هذا الحب والوفاء، فقد أصبحنا فى زمن الحقد والغل والجحود ولا حول ولا قوة إلا بالله.