الأربعاء 26 يونيو 2024

قرارات أنهت عصر «العبودية»

21-7-2017 | 17:23

بقلم: عزت بدوى

وصف الاقتصادى المصرى الكبير الدكتور عبد الجليل العمرى اقتصاد مصر ليلة قيام ثورة ٢٣ يوليو١٩٥٢ “«بأنه كان كبقرة ترعى فى أرض مصر، ولكن ضروعها كانت كلها تحلب خارج مصر» فالوثائق التاريخية تكشف أن الاقتصاد المصرى فى ذلك الوقت كان متخلفا تابعاً للاحتكارات الرأسمالية الأجنبية وكان محصولها الرئيسى هو القطن “حكراً” بين طبقة من الإقطاعيين والمضاربين الأجانب بينما أصحاب البلد الأصليون من الفلاحين لايملكون سوى جلباب واحد ويعملون بالسخرة فى زراعته لصالح الإقطاعيين، وكان بنك باركليز الإنجليزى يسيطر بمفرده على ٥٦٪ من الودائع لدى البنوك، كما كان بنك مصر الذى أسسه طلعت حرب باشا قد تمت السيطرة عليه من جانب رءوس الأموال الإنجليزية والأمريكية.. بل كانت كل مرافق الاقتصاد المصرى وهيئاته بيد الأجانب واليهود مرتبطة بالمصالح الأجنبية عن طريق البنوك وشركات التأمين والتجارة الخارجية.

 

كما كانت شركة قناة السويس تجسد قمة المأساة.. فهى حفرت فى أرض مصر وبأيدى عشرات آلاف من المصريين الذين جرت دماؤهم فيها قبل أن تجرى فيها مياه البحر، ثم تمت سرقتها من مصر لتتحول إلى دولة داخل الدولة، وكان المشروع الاقتصادى للحزب الحاكم فى ذلك الوقت هو محاربة الحفاء.. هكذا كان اقتصاد مصر وأهلها ليلة ٢٣ يوليو ١٩٥٢.

وكانت أول قرارات يوليو الاقتصادية عام ١٩٥٢ بعد أقل من ٥٠ يوماً من قيامها فى ٩ سبتمبر بصدور قرار الإصلاح الزراعى الأول للقضاء على الإقطاع وإقامة العدالة الاجتماعية بين المواطنين، والذى تضمن وضع حد أقصى لملكية الأسرة من الأراضى الزراعية بـ ٢٠٠ فدان وسمح لها ببيع الباقى بمعرفتها وتبعه بالقرار الثانى عام ١٩٦١ ثم الثالث عام ،١٩٦٩ وهكذا بدأ عبد الناصر قراراته الاقتصادية ببعث النهضة الزراعية فى مصر وتخليص الفلاحين من التبعية ومن العبودية، وقام بتوزيع من ٢ إلى ٥ أفدنة لكل أسرة ليصبحوا ملاكاً لها ويلحقوا أولادهم بالتعليم ليتقلدوا بدورهم الوظائف والمناصب المختلفة ثم تبعه بالعديد من المشروعات الزراعية العملاقة والتى مازالت قائمة حتى الآن مثل مشروع “بحيرة ناصر” أكبر بحيرة صناعية فى العالم ومشروع مديرية التحرير، لقد استطاعت مصر فى عهده تحقيق الاكتفاء الذاتى من مختلف محاصيلها الزراعية ماعدا القمح الذى حققت منه عند وفاته ٨٠٪ من احتياجاتها، كما أنشأ هيئة السلع التموينية عام ١٩٦١ لتكون مسئولة عن توفير احتياجات الشعب سواء من الأسواق الداخلية أو الخارجية.

يعد مشروع السد العالى هو أضخم وأهم مشروعات الثورة الاقتصادية والذى بفضله تم استصلاح ما يقرب من ٢ مليون فدان بعد وفرة المياه اللازمة من تحويل نظام الرى من رى الحياض إلى رى دائم وتخزين المياه التى كانت تغرق البلاد سنوياً ويعد السد العالى أكبر مشروعات التنمية فى مصر لما خلفه من نهضة صناعية وفر لها الكهرباء وقد اختارته الأمم المتحدة عام ٢٠٠٠ “كأعظم مشروع هندسى تنموى فى القرن العشرين والذى يعادل فى بنائه ١٧ هرماً من طراز هرم خوفو”.

كما حرص عبد الناصر فى خطته لتنمية مصر وانحيازها لفقرائها وطبقتها المتوسطة فى السير فى خطوط متوازية فى ذات الوقت، لسرعة انتشال شعبها من حالة الفقر المدقع الذى كان يعيش فيه فاتجه فى إقامة قلاع صناعية عملاقة، واعتمد فى تمويلها على التمويل الذاتى دون اللجوء إلى القروض أو المنح لترتفع مداخن المصانع فى كل مدن مصر حاملة الخير لأهلها بداية من كيما أسوان إلى مجمع الألمونيوم فى نجع حمادى ومصانع السكر وصناعات الحديد والصلب والمراجل البخارية وإطارات الكاوتشوك والكابلات الكهربائية، وذلك بعد إنشاء المجلس الدائم لتنمية الإنتاج القومى فى سبتمبر ١٩٥٢ وليصبح عمال المصانع أعضاء فى مجالس إدارتها لأول مرة ويضع حدا أدنى وأقصى للأجور لعمال الزراعة والصناعة وينشر المدارس والوحدات الصحية فى طول البلاد وعرضها، وهكذا غيرت قرارات عبد الناصر الاقتصادية الخريطة الاجتماعية فى مصر ويتحول إلى معشوق الجماهير ولم لا .. وهو الذى رد لهم كرامتهم واعتزازهم بأنفسهم بعد إعلانه تأميم قناة السويس وعودتها لأصحابها من المصريين، بعد أن كان الأجانب يخططون لمد فترة الامتياز لمدة ٩٩ عاماً أخري ثم يعلن تمصير وتأميم ومصادرة الأموال البريطانية والفرنسية فى مصر بعد العدوان الثلاثى على مصر عام ١٩٥٦ ثم يتم إنشاء المؤسسة الاقتصادية لإدارة المشروعات المؤممة عام ١٩٥٧ والتى تعتبر النواة الأولى للقطاع العام المصرى.

إن الوثائق الدولية وشهادات المؤسسات الدولية حول إنجازات عبد الناصر الاقتصادية تؤكد وتعترف بما تم تحقيقه على أرض الواقع فالعدد رقم ٨٧٠ من تقارير البنك الدولى، والذى رفض تمويل بناء السد العالى يشهد “بأن مصر استطاعت بالإجراءات التى اتخذها عبدالناصر تحقيق نسب نمو خلال الفترة من عام ١٩٥٧ وحتى ١٩٦٧ أى خلال ١٠ سنوات ما يقرب من ٧٪ سنوياً وهو ما يعنى أن مصر استطاعت فى عشر سنوات فى عصر عبدالناصر أن تقوم بتنمية تماثل أربعة أضعاف ما حققته فى الأربعين سنة السابقة على قيام الثورة، هذه النسبة التى حققتها خطة التنمية الاقتصادية والاجتماعية الأولى والثانية رغم الحصار الغربى على مصر وحرب اليمن لا مثيل لها فى العالم النامى كله فى ذلك الوقت حيث لم يزد معدل النمو السنوى فى أكثر بلدانه المستقلة على ، بل ٥٪ يصعب تحقيقها فى العالم المتقدم باستثناء اليابان وألمانيا ومجموعة الدول الآسيوية، بل مصر نجحت فى ذلك الوقت من إنشاء أكبر قاعدة صناعية فى العالم الثالث.

والآن وبعد ٦٥ عاماً من رحيل الزعيم جمال عبدالناصر وما تعرضت له هذه الإنجازات الضخمة من تجريف وتصفية وإهمال منذ سبعينيات القرن الماضى وحتى قيام ثورتى ٢٥ يناير ٢٠١١ و ٣٠ يونيه ٢٠١٣ إننا فى أشد الحاجة إلى ضرورة العودة من جديد للاعتماد على ذاتنا فى بناء اقتصادنا وضرورة إحياء المجلس القومى للإنتاج لأنه بدون الإنتاج والإنتاج وحده وزيادته لن ينخفض الغلاء ولن تتراجع الأسعار ولن ينخفض التضخم ولن تعود العملة الوطنية إلى قيمتها الحقيقية.

نحن فى أشد الحاجة للحفاظ على ما تبقى من قلاع صناعية وطنية وتطويرها وتحديثها والسعى بقوة لتحقيق الاكتفاء الذاتى من صنع أيدينا بدلاً من سيطرة الاحتكارات من جديد على السلع والأسواق .