بقلم – عبدالقادر شهيب
لأن ثورة يوليو ١٩٥٢ كانت حدثاً كبيراً وضخماً فى حياة المصريين والتاريخ المصرى؛ فقد اقترنت بمجموعة كبيرة أيضاً من الأكاذيب التى استهدف من أطلقوها وروجوها، النيل من قيمة هذه الثورة والحط من شأنها والتقليل من نتائجها وآثارها، بل وحتى إنكار أنها ثورة!
ولا أعنى هنا تلك الأكاذيب التى ساهم الزمن فى كشف زيفها وعدم صحتها، مثل تلك الأكذوبة التى روجت فى بداية الثورة وسنواتها العشر الأولى، والتى ادعى أصحابها أن من اقتحم مجلس قيادة الجيش ليلة ٢٣ يوليو كان هو عبدالحكيم عامر، وهى الأكذوبة التى وضع نهاية لها جمال عبدالناصر فى خطبة التى ألقاها فى الاحتفال بالذكرى العاشرة لقيام الثورة، حينما أوضح أن يوسف صديق هو الذى اقتحم مبنى قيادة الجيش واعتقل كبار القادة العسكريين فى ذلك الوقت وفتح الباب أمام نجاح حركة الجيش، ولعل ذلك دفع البعض فيما بعد لتشويه دور يوسف صديق بالادعاء أنه تحرك خطأ مبكراً ساعة كاملة عن ساعة الصفر، رغم أنه يتحرك برفقة زغلول عبدالرحمن الذى أخبره بساعة الصفر وعندما تحرك اكتشفت خلو الشوارع من قوات الجيش، وألقت قواته القبض على كل من جمال عبدالناصر وعبدالحكيم عامر وهما يتجولان فى شوارع القاهرة، ومنهما علم أن أمر تحرك الضباط الأحرار تسرب إلى القصر وأن قادة الجيش سارعوا للاجتماع فى مبنى القيادة لبحث الأمر وإحباط تلك الحركة، ولذلك قرر يوسف صديق أن يغير مهمته وأن يتحرك بقواته المحدودة إلى مبنى قيادة الجيش ليستولى عليه ولإلقاء القبض عليهم، وهو ما نجح فيه لتنجح حركة الضباط الأحرار التى كانت مهددة بالإجهاض.
لكننى أعنى هنا تلك الأكاذيب التى مازال يرددها البعض بشكل ممنهج ومتعمد، خاصة أنها تلقى هوى لديهم أو تساعدهم فى صراعاتهم السياسية، أو تفيدهم في طرح رؤى وأفكار مغلوطة بعضها يتبناه فى ذات الوقت المختلفون سياسياً والذى يجمعهم العداء أو الرفض للحكم الحالى.. ولذلك ينفخون فى هذه الأكاذيب حتى تظل رائجة مستغلين أن رواج الأكاذيب أمر سهل وأن خداع عموم الناس بالأكاذيب أمر سهل، فى ظل فراغ سياسى نعانى منه وعبث إعلامى مازلنا نعيشه رغم كل المحاولات التى استهدفت مواجهته، وفوضى إلكترونية ممنهجة تقوم بها بعض الكتائب الإلكترونية.
● ● ●
وفى مقدمة هذه الأكاذيب التى أعنيها ويصر البعض على أن يلصقها بثورة يوليو، تلك الأكذوبة التى تنكر عليها وصف الثورة ويرفض من يروجوها أن يصنفوها فى عداد الثورات بجانب الثورات الشهيرة كالثورة الفرنسية والثورة الروسية، ويصرون على اعتبار ثورة يوليو انقلابا عسكريا رغم التغييرات العميقة التى تمخضت عنها فى مصر اجتماعياً وسياسياً واقتصادياً وأيضاً قيمياً وثقافياً.
نعم لقد بدأت ثورة يوليو فى شكل تحرك للضباط الأحرار لتغيير شكل السلطة السياسية فى البلاد، وليس فقط لتطهير الجيش كما قال بيانها الأول الذى ألقاه بصوته أنور السادات، بعد أن التحق بقيادة الضباط الأحرار فى مبنى قيادة الجيش الذى استولى عليه يوسف صديق وسلمه لهم حتى ينال علاجاً سريعاً لنزيف دم فى رئتيه كان يعانى منه ولم يمنعه من القيام بالدور الأهم والأساسى ليلة ٢٣ يوليو.. لكن ليس فقط التأييد الشعبى الواسع الذى لاقته حركة الضباط الأحرار هى التى تسبغ على ما حدث ليلتها وصف الثورة، وإنما ما ترتب على هذه الحركة من تغييرات شاملة هو الذى يمنحها وبجدارة وصف الثورة، خاصة أن هذه التغييرات حدثت سريعاً ولم تتأخر .. ففى غضون أيام تغير شكل السلطة السياسية فى البلاد ورحل الملك فاروق خارج البلاد، وبعدها بشهور قليلة تحول الحكم فى البلاد من حكم ملكى إلى حكم رئاسى بعد أن أعلنت الجمهورية.. وفى غضون شهور قليلة أيضاً تم تنفيذ الإصلاح الزراعى وتغير شكل الملكية فى الريف المصرى ليبدأ تغير فى شكل التركيب الطبقى والاجتماعى فى البلاد واضح بعد تنفيذ إجراءات وقرارات أخرى تمخضت أساساً عن تكوين طبقة وسط جديدة وواسعة فى المجتمع .. واقترن ذلك بتغيير منظومة القيم الاجتماعية السائدة، عندما صار العمل شرفاً وحقاً وواجباً، وأصبح الدين لله والوطن الجميع .. وهكذا تستحق ثورة يوليو بجدارة وصف الثورة لأنها غيرت من شكل وتركيب المجتمع وعلاقات القوى الاجتماعية فيه، حتى ولو كره البعض هذا التغير أو رفضوه أو اعتبروه إثما، لكن الأغلبية الساحقة من المصريين رحبت وارتضت به ورأته أنه يحقق مصالحها ويفيدها.
● ● ●
أما الأكذوبة الأخرى والثانية التى مازال يروج لها البعض بشكل ممنهج ومنظم حتى الآن، بل لعلهم نشطوا أكثر من ترويجها حالياً، فهى تلك الأكذوبة التى تقول إن الإخوان كانوا شركاء فى حركة الضباط الأحرار وبالتالى فى ثورة يوليو غير أن الضباط الأحرار وفى مقدمتهم بالطبع جمال عبدالناصر زعيم تنظيمهم، خانوهم ولم يشركوهم فى السلطة، ثم انقضوا عليهم فيما بعد وحلوا جماعتهم وألقوا بهم فى السجون، رغم أن أحد أقطاب الجماعة «سيد قطب» هو الذى أشار على الضباط الأحرار أن يطلقوا على ما قاموا به فى ٢٣ يوليو ١٩٥٢ وصف «ثورة» وليس «حركة» كما كانوا يقولون عقب القيام بحركتهم.
ويبرر الإخوان أكذوبتهم الفجة بالادعاء بأن جمال عبدالناصر كان عضوا فى جماعتهم وأنهم كانوا على علم بتحرك الضباط الأحرار قبل أن يقوموا بحركتهم وأنهم ساندوا الحركة فور القيام بها.. ولم ينكر عبدالناصر أنه اتصل بالإخوان قبل الثورة مثلما اتصل بغيرهم من القوى السياسية «والشيوعيين والوفديين»، بل إن زميله خالد محيى الدين قال بوضوح فى مذكراته إنه مع جمال عبدالناصر انضم بالفعل للجماعة وحلفا بالفعل على المصحف ولكنهما سرعان ما تركا الجماعة فورا بعد أن فوجئا أن الجماعة قد جاءوا لهما بهاوٍ لتدريبهما - وهما من الضباط المحترفين - على استخدام السلاح.. وهكذا فإن صلة عبدالناصر تحديدا بالإخوان لم تكن صلة تنظيمية، وبالتالى كان هو يخطط لتنظيم الضباط الأحرار بعيداً عنهم غير أن ذلك.
لم يجعله يقطع كل خيوط الاتصالات معهم باعتبار جماعتهم كانت كيانا موجودا فى البلاد، مثل غيرها من الكيانات السياسية الأخرى.. بل لعل اتصالاته بكيانات أخرى، مثل الشيوعية وخاصة تنظيم حدتو كانت أكبر.. وكانت منشورات عديدة للضباط الأحرار تطبع فى منزل حماتى السيدة «علية توفيق» زوجة العقيد أركان حرب يوسف صديق مع علم عبدالناصر بانتمائها لحركة حدتو ومشاركة شقيقها محمود توفيق فى قيادة الحركة.. وإذا كان عبدالناصر اهتم بإعلام الإخوان بحركة الضباط الأحرار قبلها بساعات قليلة فهو فعل ذات الشىء مع الشيوعيين ووفديين أيضا.. فقد كان عبدالناصر مهتماً بالحصول لحركة الضباط الأحرار على أكبر قدر من القبول والتأييد الشعبى.. أما القول بأن جماعة الإخوان ساندت ودعمت حركة الضباط الأحرار فهى لم تكن وحدها.. فعلت ذلك كيانات أخرى سياسية غيرها.. بل إنها تلكأت فى إعلان مساندتها ودعمها لحركة الضباط الأحرار حتى تأكدت من ترحيب عموم الشعب بها، وبالطبع نجاحها، ولعل ذلك يذكرنا بما فعلته الجماعة في ٢٥ يناير ٢٠١١، فهى أرجأت الإعلان عن دعمها للانتفاضة الجماهيرية ومشاركتها فيها حتى يوم ٢٨ يناير وتحديدا بعد انسحاب الشرطة من الشوارع والميادين.
● ● ●
ثم تأتى الأكذوبة الثالثة والتى تورط للأسف فى ترويجها مع الإخوان معارضون والرافضون للحكم الحالى إشارة إلى الخلفية العسكرية للرئيس السيسى والتى يشترك فيها مع عبدالناصر والسادات ومبارك ليضعوا الجميع فى سله واحدة بعنوان الحكم العسكرى .. ويدعى أصحاب هذه الأكذوبة ومن يروجونها إلى أن بلادنا لم تكن بحاجة إلى ثورة يوليو لأن حالنا قبل يوليو ١٩٥٢ كان أفضل فى ظل الحكم الملكى؛ حيث كان اقتصادنا أفضل والجنيه المصرى أقوى تجاه العملات الأجنبية الأخرى، ولا نعانى من الديون الخارجية بل وندين بريطانيا!.. ويتجاهل هؤلاء عمدا ومع سبق الإصرار ما كنا نعانى منه أولا من احتلال عسكرى بريطانى واستيلاء الاحتلال على مقدراتنا وثرواتنا، وما كنا نشكو منه من فساد واسع وظلم اجتماعى كبير حيث كان الأغلب الأعم من أبناء الشعب يشكو الفقر والحاجة ويفتقدون الحد الأدنى لمستوى المعيشة.. كما يتجاهل هؤلاء أن مصر خلال الخطة الخمسية الأولى «١٩٥٦ – ١٩٦٠» حققت أعلى معدل نمو اقتصادى فى تاريخها منذ عهد محمد على رغم رفض أمريكا تمويل السد العالى، ولعل ذلك هو الذى دفع إسرائيل للقيام بعدوانها فى يونيه ١٩٦٧ علينا، وهو العدوان الذى سبقته ضغوط اقتصادية تعرضنا لها وتحريض أمريكا لدول عربية خليجية ضدنا، خاصة فى اليمن.. إن مقارنة منصفة بين حالنا قبل يوليو ١٩٥٢ وبعده سوف تكشف بجلاء أننا كنا فى حاجة لثورة يوليو فى ظل صعود بدأته مجددا جماعة الإخوان فى طريق الوصول إلى السلطة الذى خططت له مبكرا، وضعف وعجز الأحزاب السياسية والفساد السياسى والظلم الاجتماعى وسطوة الاحتلال الإنجليزى.
● ● ●
وغير صحيح أن ثورة يوليو أضرت بنا كما تقول الأكذوبة الرابعة التى روجها الإخوان وبعض الذين لا يدركون قيمة ودور المؤسسة العسكرية فى التاريخ المصرى، وهو الدور الذى لاغنى منه لتأسيس الدولة قبل حمايتها، والذى لا يعود تاريخه لتأسيس الدولة المصرية الحديثة فى عهد محمد على وإنما يرجع إلى عصر الفراعنة وتحديدا تاريخ توحيد مصر فى دولة واحدة تجمع شمالها وجنوبها على يد موحد القطرين الملك مينا.
ويكفى لنرصد كيف أفادت ثورة يوليو ٥٢ مصر أن نستعيد ما كانت عليه مصر وتأثيرها ونفوذها سواء فى محيطها الإقليمى أو فى العالم كله.. لقد صارت ثورة ٢٣ يوليو هى الملهم لكل حركات التحرر فى كل دول العالم المحتلة سواء فى إفريقيا أو آسيا أو أمريكا اللاتينية .. وصارت السياسة التى تبنتها سواء فى التنمية الاقتصادية المستقلة أو فى تحقيق السلم العالمى نموذجا يحتذى من قبل شعوب ودول عديدة.. ولذلك صارت مصر الثورة هدفا لمؤامرات واسعة شاركت فيها أمريكا وإسرائيل ودول أوربية وأخرى عربية.. ولعل هذا يذكرنا بحالنا الآن بعد ما قامت به مصر فى ٣٠ يونيه والذى أفشل مخططات كانت تحاك لمنطقتنا كلها وليست لبلادنا وحدها، بفرض حكم الإخوان عليها.
وأخيرا تتبقى الأكذوبة الخامسة والتى تقول إن مصر منذ ثورة يوليو وهى تخضع لحكم عسكرى.. وينفخ الإخوان وآخرون بشدة فى هذه الأكذوبة الآن للنيل من الحكم الحالى .. وصحيح أن رؤساء مصر باستثناء مرسى وعدلى منصور كانوا كلهم لهم خلفية عسكرية ابتداء من محمد نجيب وحتى مبارك، إلا أن ذلك لا يعنى أن المؤسسة العسكرية كانت تحكم طوال أكثر من ٦٠ عاما كما يردد أصحاب ومروجو هذه الأكذوبة.
نعم كانت دفة الحكم فى يد الضباط الأحرار فى السنوات الأولى للثورة حتى انتخاب عبدالناصر رئيساً للجمهورية، إلا أن المؤسسة لم تكن تحكم طوال هذه السنوات والعقود التى عشناها منذ قيام ثورة يوليو حتى الآن.
فى السنوات الأولى للثورة وحتى هزيمة يونيه ١٩٦٧ كان هناك دور للمؤسسة العسكرية فى الحكم بحكم قيادة المشير عبدالحكيم عامر لها وحاجة عبدالناصر فى البداية لدعمه ثم تردده فى الحد من نفوذه السياسى فيما بعد.. أما بعد هزيمة يونيه فقد تفرغت القوات المسلحة كاملا للاستعداد لخوض حرب استعادة الأرض المحتلة «سيناء».. وبعد موت عبدالناصر استعان السادات فقط بالحرس الجمهورى لحسم الصراع على السلطة بينه ومن نازعوه فيها والذين أطلق عليهم مراكز القوى، وابتعدت المؤسسة العسكرية عن الحكم بعد حرب أكتوبر، وهو ما استمر عليه الحال عندما تولى مبارك رئاسة الجمهورية وطوال حكمه بل لعله كان يعتمد أكثر علي الشرطة في السنوات الأخيرة من حكمه .. أما مشاركة القوات المسلحة فى النشاط الاقتصادى فهى ليست بدعة خاصة بها وإنما سبقتها إليها كثير من المؤسسات العسكرية فى مقدمتها المؤسسة العسكرية الأمريكية .. كما أن هذه المساهمة ضئيلة وليست مؤثرة فى الاقتصاد الكلى حتى بعد إشراف القوات المسلحة على العديد من المشروعات القومية الآن.. فضلا عن أن هذه المساهمة الاقتصادية لم ترتب لها دوراً سياسياً.
ولكنها للأسف الأكاذيب التى تروج بشكل ممنهج حول ثورة يوليو ١٩٥٢.