الأربعاء 27 نوفمبر 2024

نحتفي بذكرى رحيله : محمد عبده.. ماذا بَقِيَ من الإمام المُجدِّد؟

  • 22-7-2017 | 12:58

طباعة

محمد جبريل

شكلت الحداثة الوافدة على المجتمع المصري منذ منتصف القرن التاسع عشر صدمة عميقة لدى الوعي المسلم، حيث أحس بالضعف وقلة الحيلة في مواجهة عدوانها العسكري وزخمها الفكري، مما استدعي تلقائيا، إجراء -من قبل نخبة المجتمع- مقارنات بين ضعف المسلمين وتخلفهم، في مقابل انتصار الغرب وتفوقه، في ظل تطوع بعض طلائع الفكر الأوروبي والمتأثرين بهم من الشوام، للتعاطي مع الإسلام بوصفه سببا حصريا لتخلف المجتمعات الشرقية، وهو ما جُوبه برد دفاعي أنجزه علماء ذلك العصر وعلى رأسهم الإمام محمد عبده.

ونحن نحتفي بذكرى رحيل الإمام محمد عبده ( يوليو 1905) لكن منجر الإمام لم يقتصر على الدور الدفاعي عن الإسلام بل امتد إلى إعادة النظر في الموروث الديني لإعطائه فرصة أخرى للبقاء في أداء وظيفته في الحفاظ على التماسك الروحي للمجتمع تحت إكراهات الحداثة، عبر الانتقاء والتوفيق بينه وبين العصر، ومن هنا شق محمد عبده طريقا بين اتجاهين وتحت ضغطهما معا: الأول: استشراقي ذو طابع هجومي، والثاني دفاعي مرتاب في مشروع الحداثة بمجمله، وهو موقف الشيوخ الذين عاصروه ويعاصروننا ظانين أنهم بمقاومتهم لزحف الحداثة سيحفظون لحمة الدين وسيطرة وازعه على الناس، ومن ثم حدد هؤلاء سقفا منخفضا لأي تجديد يجيء لو كان المجدد هو الإمام.

فقه التجديد

منذ أن وضع جلال الدين السيوطي في القرن الخامس عشر الميلادي، كتابه عن المجددين في عصره "التبئة بمن يبعثه الله على رأس كل مائة" وحتى يومنا، لا يزال كل من يطمح إلى التجديد في الدين يتمثل ذاك الأثر النبوي القائل "إن الله يبعث على رأس كل مائة عام لهذه الأمة مَنْ يجدد لها دينها"(1) يقول الشيخ أمين الخولي، أحد تلامذة الإمام، في كتابه "المجددون في الإسلام": "لقد ملك النفس شعور الحياة إلى تجديد تطوري يُفهم به الإسلام، فهما حيّا، يتخلص من كل ما يُعرِّض هذا البقاء للخطر، ويُعيق الخلود" (2) ويتجاوز الخولي الفكرة الإحيائية التي سادت العالم الإسلامي آنذاك يقول "ليس التجديد إحياء ما اندرس، وإعادة ما أُهمل، فالتجديد الذي هو تطور ليس إعادة قديم كان، وإنما هو اهتداء إلى جديد كان بعد أن لم يكن" (3).

حتى يتم مهمة التجديد، عاد الإمام إلى التراث الكلامي ليسترشد به في فهم وتحريك الحاضر، فتبنى موقفين متناقضين، يمكن اعتبارهما علامة على طريقة الإمام الانتقائية في التفكير:

الأول: تبني موقف المعتزلة من العدل الإلهي لاستثمارها في تعزيز فكرة الحرية التي كان المجتمع يتطلبها آنذاك، ففي رأيه أن الإنسان حر ومسؤول عن أفعاله، ومن ثم يكون حسابه أمام الله منطقيا بناء على ما اختاره في دنياه، وترتب على القول بالعدل الإلهي اعتبار الحسن والقبح عقليين، فحتى يصير الإنسان مسؤولا يجب أن يكون محور التمييز بين الخير والشر هو العقل، وذلك على خلاف الموقف الأشعري السائد بأن الحسن والقبح شرعيان، وأن النقل هو الحاكم الوحيد لمسيرة الإنسان، وما عداه تابع.

والثاني: تبني مفهوم التوحيد الأشعري الذي يقوم على فكرة أساسية كما يقول الباحث أحمد سالم(4) "وهي فكرة الوجود المركزي لله في الكون" والهامش للإنسان في مقابه، وذلك على نقيض الموقف المعتزلي الذي يؤسس العلاقة بين الله والإنسان على أساس تعاقدي، ومن ثَم اعتبروا أن مفهوم العقيدة مشتق من العقد أو التعاقد وتكون أفعال الله بموجبه خاضعة لقانوني العدل والحكمة. هذا الرأي المعتزلي وصفه الإمام بـ"المقالات المضطربة" لكن موقفه التوفيقي لم يكن أقل اضطرابا، فقد تخلى عن رأيه بأن "القرآن مخلوق" الذي صرح به في الطبعة الأولى من كتابه "رسالة التوحيد" ثم حذفه من الطبعات اللاحقة نزولا على رغبة الشيوخ ذوي التوجه الأشعري.

لم تكن انتقائية الإمام التجديدية سوى محاولة لتطويع الموروث لمنطق العصر القائم على الحرية، مع الحفاظ على لبنة ذلك الموروث، أعني: التوحيد.

ما فعله الاستشراق

خلف التوجه الدفاعي عن الإسلام تكمن رؤية للذات والآخر معا، فالذي يُعرِّف نفسه باعتباره مسلما سيكون آخر غير المسلم بالضرورة، كما يرى الباحث نصر أبو زيد (5) وفي حالة الإمام فإن الآخر هو الغرب المسيحي. وقد كان حكم المستشرقين على الإسلام من خلال ممارسات معتنقيه واعتبار الإسلام متجسدا فيهم، خالق التوجه الدفاعي الذي سعى للفصل بين الإسلام وأتباعه، فالإمام يرى أن تلك الممارسات علقت بالإسلام خلال مسيرته الطويلة حتى أخفت جوهره، وهو ما يلح الإمام على ضرورة تفنيده وتنقية جوهر الإسلام. وفي إسقاط لافت على تهمة تسبب الإسلام في ضعف الشرق، اعتبر الإمام أن جوهر الإسلام الحقيقي ليس سوى الحداثة الأوروبية نفسها وذلك في مقولته الشهيرة عن فرنسا "وجدت هناك إسلاما ولم أجد مسلمين، ووجدت هنا مسلمين ولم أجد إسلاما". لاغيا بذلك السياقات التي نشأ الإسلام وتطور فيها، ومسقطا من حسابه الواقع الذي أنتج الحداثة كقطيعة معرفية وسياسية مع الدين.

لكن إقحام الإسلام في أي نقاش حول الحداثة والتنوير وعلاقتهما بالعالم الإسلامي، خاطئ كليا، والأولى في هذا السياق هو الحديث عن العالم الإسلامي، لأنه بالحديث عن الإسلام ستتحول كل القضايا السوسيولوجية إلى قضايا لاهوتية، حسبما يرى نصر أبو زيد(6) وهذا ما حدث في مناظرة هانوتو* ومحمد عبده، فحين اتهم الأول الإسلام بأنه "ديانة تحط الإنسان إلى حضيض الضعف" رد عليه الإمام بأن الإسلام دعوة تحتفي بالعلم والقوة، بينما المسيحية بريئة من كل فضل على العلم والمدنية. هذا النقاش اللاهوتي يغفل أنه "لم يكن الإسلام واحدا حتى في مراحله الأولى، بل كان أقرب إلى إطار جامع لتيارات متباينة اتخذت فيه موقفا تأويليا تعبر به عن موقعها الاجتماعي (7) فإذا كانت الطبقة المسيطرة قد أولت الإسلام تأويلا سلطويا لإحكام هيمنتها وتأبيدها، أوَّل المستضعفون إسلامهم بالثورة على بغي الفئة الحاكمة، كما يتم تغييب الاختلافات الحادة بين المجتمعات الإسلامية واختزالها في مفهوم "الأمة".

وكرد على فرح أنطون الذي دعا لتوطين العلمانية في ديار الشرق، يقول الإمام إن "الإسلام دين وشرع، وضع حدودا وحقوقا.. فلا تكمل العلة من تشريع الأحكام إلا إذا وجدت قوة لإقامة الحدود.. وصون نظام الجماعة، وتلك القوة لا يجوز أن تكون فوضى في عدد كثير، فلا بد أن تكون في واحد وهو الخليفة أو السلطان"(8) في الشق الثاني من احتجاجه يخلط محمد عبده بين السلطة بشكل عام التي تحفظ النظام العام للمجتمع وبين الخلافة التي هي شكل مخصوص من السلطة، أما الشق الأول فسأعود إليه في نهاية المقال.

إرث الإمام

أشيع بين الباحثين وعموم المثقفين أن الإمام انبثقت من عباءته تيارات متناقضة:

محافظة مثل رشيد رضا ومحمد فريد وجدي. وإصلاحية مثل مصطفى وعلي عبد الرازق، وأمين الخولي، وقاسم أمين، والطاهر حداد في تونس. وليبرالية مثل لطفي السيد وطه حسين وسعد زغلول. لكن إعادة النظر في ذلك الشائع تستوجب رفض نسبة التيار الليبرالي إلى الإمام، فلم يكن سوى نتيجة أولية للتعليم العام الذي أقره محمد علي والمنظمة الليبرالية الأوروبية، أما التياران: الإصلاحي فبينما أثمر منجز الطاهر حداد في تونس، اندثر في مصر تحت ضغط ما يُعرف بـ"الصحوة الإسلامية" التي سيّدت الأصولية على الشارع وحصنت أصولية الأزهر من النقاش والمساءلة بل تحولت أصوليته إلى جدار تستند عليه الدولة والنخبة ليحمي من الإسلام الحركي، بينما التيار المحافظ بقي متفردا ويمكن تلمسه في نقاشات البسطاء في العمل أو المقاهي وحتى في تعليقاتهم الجانبية على "فيسبوك".

قدّم الأمام محمد عبده، أطروحات إصلاحية في العقيدة والفقه والفتوى والتفسير، لكنها انحسرت، بينما بقيت آراؤه السياسية كأرض تأسست عليها الجماعات الداعية لإقامة دولة الإسلام، وعلى رأسها الإخوان المسلمون التي اعتنق مؤسسها حسن البنا رأي محمد عبده القائل بأن "الإسلام دين وشرع.. فلا تكمل العلة من تشريع الأحكام إلا إذا وجدت قوة لإقامة الحدود.. وصون نظام الجماعة، وتلك القوة لا يجوز أن تكون فوضى في عدد كثير، فلا بد أن تكون في واحد وهو الخليفة". نقله البنا عن أستاذه رشيد رضا ضمن آراء تنفي أن يكون المسلمون عرفوا في عصر من العصور تلك السلطة الدينية التي كانت للبابا على الأمم المسيحية، وأن الشريعة قررت حقوقا للحاكم فليس له سلطة دينية وإنما يدير البلاد بالسياسة".

تحولت تلك الآراء لصلب حجة الإسلاميين على رفض الدولة الحديثة والعلمانية، وبذلك قد يكون الشق السياسي من فكر الإمام -على انغلاقه- هو الوحيد الذي تبقى!

..............

هوامش:

(1) رواه أبو داود وصححه الألباني في "السلسلة الصحيحة"

(2) أمين الخولي، المجددون في الإسلام، ص 13 ط مكتبة الأسرة 2000

(3) الخولي، السابق

(4)أحمد محمد سالم، الإصلاح الديني عند الإمام محمد عبده .. قراءة معاصرة، مجلة رواق العدد 43، عام 2006، من إصدارات مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان.

(5) نصر أبو زيد، الآخرون .. من هم؟ وكيف نتعامل معهم؟ ترجمة إسلام سعد، جريدة القاهرة، 7 يوليو 2015

(6) أبو زيد السابق

(7) مهدي عامل، نقد الفكر اليومي، ص 241 ط الفارابي 1989

(8) محمد عبده، الإسلام دين المدنية والعلم، عرض وتحقيق طه الطناحي، ط الهيئة العامة للكتاب 2009

*باحث في شئون الإسلام السياسي

    أخبار الساعة

    الاكثر قراءة