الجمعة 27 سبتمبر 2024

رخص الحياة!

22-7-2017 | 13:24

طه حسين

لم تهن حياة الناس على الناس كما تهون عليهم فى هذه الأيام، فقديما عرف الناس الحرب وأجروا دماءهم غزارا فى سبيل الحق حينا وفى سبيل الباطل احيانا، وقديما عرف الناس المكر والكيد كما عرفوا البغى والعدوان، وقتل بعضهم بعضا جهرا مرة وغيلة مرارا. ولكنهم كانوا يقدمون على ما كانوا يقدمون عليه من ذلك فى كثير من التحرج قبل أن يقدموا، وفى كثير من الندم والروع بعد أن يتموا ما أقدموا عليه.

كانت الحياة الإنسانية شيئاً له خطره فقدستها الديانات وعرفت حرمتها القوانين ورعتها الأخلاق وعظم أمرها المعتدون عليها أنفسهم، فكانوا يرون أنهم حين يحترثون عليها انما يقترفون أثماً عظيماً.. لأنه من الآثام التى لا سبيل إلى تداركها.

فقد اتيح للإنسان أن يصلح كثيرا من خطئه ويتدارك كثيراً من ذنوبه وبمحو بالإحسان آثار الاساءة، ولكن شيئاً واحداً لم يتح له وهو أن يرد الحياة إلى من حرم الحياة، فكان القتل خطأ أو عمداً من الشر العظيم الذى يروع الإنسان ويملأ قلبه ذعرا وروعا وندما وأنكارا.

وكان الناس يتحدثون فيكثرون الحديث عن المجرمين الذين يستحبون القتل ولا يحسبون عليه بعد اقترافه ندما ولا يحسون منه قبل اقترافه رهبة أو خوفا.

كانوا يرونهم شذاذا قد افلتوا من قوانين الطبيعة الإنسانية التى تكبر الحياة الإنسانية، وتعظم الاعتداء عليها من عمد أو خطأ، وربما دفع بعض الناس إلى شئ من الأمعان فى أكبار الحياة حتى تجاوزوا بها حياة الإنسان إلى حياة الحيوان نفسه، يرون أن الحياة جدوة مقدسة لا يجرؤ على اطفائها إلا الذين برنوا من شعور الرفق والرحمة والبر والحنان، فحرموا على انفسهم اشياء استباحها غيرهم من الناس، يحرمون ذلك على أنفسهم دهرهم كله أو يحرمون ذلك على انفسهم وقتاً معلوماً بين حين وحين.

ولأمر ما أمعن أبو العلاء فيما أمعن من الزعد حتى أنفق اكثر حياته لا يطعم إلا ما تنبت الأرض، ولأمر ما رأى قتل الحيوان جبنا، ورأى فيه دليلاً على ضعة النفس التى تدفع إلى الاستعلاء على الضعيف والبغى على مالا يملك أن يدفع عن نفسه البغى والعدوان. وقد تحدث الذين ترجموا له أنه مرض مرة والح عليه المرض حتى أضطره إلى ضعف شديد فوصف الطبيب له أكل الدجاج وامتنع هو على الطبيب وعلى الذين كانوا يمرضونه. فلما اشتد عليه الحاحهم اذعن لما أريد عليه وقدمت إليه دجاجة فلم يكد يمسها حتى أخذته رعدة شديدة، فانصرف عنها وهو يقول لها:

استضعفوك فوصفوك هلا وصفوا شبل الأسد

يريد أن الدجاجة لا يستطيع أن تمتنع على من يريدها. فالناس يطمعون فيها ويصفونها للمرضى على حين يمنع الأسد شبله؛ فلا يلمع فيه طامع ولا يصفه طبيب لمريض؛ ولأمر ما قال أبو العلاء فيما قال هذا الشعر الرائع فى تحريم الحيوان على الإنسان؛ فعرض نفسه لشر عظيم من غضب السلطان:

غدوت مريض العقل والدين فالفتى

لتسمع الباء الأمور الصعائع

فلا تأكلن ما أخرج البحر ظالما

ولا تبغ قوتا من غرض الذبائح

ولا ؟؟ أمات ارادت صريحة

لاطفائها دون الغوالى والحرائج

ولا تفجئ الطيـــــر وهى خــواذل

بما وضعت، فالظلم شر القبائح

ودع ضرب النحل الذى بكرت له

كواسب من ازهار لبــــت فوائح

لما أحـــرزته كى يكون لغيرهـــا

ولا جمعتــه للنــــدى والمنــــائج

مسحت يدى من كل هذا فلبثتى

ابهت لشانى قبل شيب المسائح

فأبو العلاء كما ترى بحرج على نفسه ويريد أن يحرج على غيره أكل الحيوان وما يخرجه الحيوان؛ حتى الشهد الذى لخرجه النحل، يرى ذلك ظلما وبغيا، ويخالف بذلك ما أباحت الديانات السماوية للناس من هذا كله. وقد انتهى شعره هذا إلى مصر فناظره فيه داعى دعاة الفاطميين وكاد الأمر ينتهى به إلى المطب.

وتقديس الحياة الإنسانية هو الذى دعا الناس إلى اكبار الموت وما بعد الموت، وهو الذى دعا الناس إلى أعظام حرمة الجنائز مهما تكن. وقد روى أن جنازة مرت بالنبى صلى الله عليه وسلم وهو جالس فى أصحابه فقام لها وقام أصحابه لقيامه ثم قبل له أنها جنازة يهودى، فقال : أليست نفسا.

وتقديس الحياة كذلك هو الذى دفع إلى ما شاع فى هذا العصر الحديث من انكار عقوبة الأعدام مهما تكن جريمة من يقضى عليه بهذه العقوبة، ويرى أصحاب هذا الرأى أن الحياة أعظم خطرا وأكبر حرمة من أن يستبح الإنسان لنفسه سلبها، ويرون أن الحياة شئ لا يستطيع الإنسان أن يمنحه فلا ينبغى له أن يسلبه.. وإنما يسلب الحياة من منح الحياة.

وكذلك أمعن الناس فى تقديس الحياة وفى انكار البطش بها والاعتداء عليها. ومازال أمر الله قائما بتحريم الحياة إلا بحقها ومازالت القوانين تحرم الاعداء على الحياة وتعاقب عليه أشد العقوبة وأصرمها. ولكن الدين والقوانين شئ وما دفع الناس إليه فى حياتهم الحديثة شئ آخر. وليس من شك فى أن الناس لم يعرفوا قط عصرا هانت فيه حياة الناس كهذا العصر الذى نعيش فيه.

تخالف الدول عن أمر الدين والقوانين فتقدم على الحرب المنكرة التى لا تعرف لحياة الأفراد والجماعات حرمة ، ولا ترجو للدين ولا للقوانين ولا للاخلاق وقارا، ولا تفرق بين الجند المسلحين المشاركين فيها والعزل الوادعين الذين لا يريدون حربا ولا قتالاً، ولا يتمنون إلا أن يعيشوا فى دعة وسعة، يحتملون أعباء الحياة ما خف منها وما تقل، لا يؤذون أحدا ولا يحبون أن يريدهم أحد بالأذى. وأغراق الحرب الحديثة فى الاثم واستهانتها بالحياة واستخفافها بالمقدسات كلها واشاعتها للموت وللهول بغير حساب، كل ذلك أهدر قيمة الحياة اثناء الحرب واهدر قيمة الحياة اثناء السلم أيضاً.

ومادام السلطان نفسه يستبيح الخروج على الذين والقوانين فى سبيل المنافع والمطامع، فلا على الافراد ولا على الجماعات أن يستبيحوا الخروج على الدين والقوانين فى سبيل المنافع والمطامع أيضاً. وما دامت الدول المتحضرة التى بلغت اقصى ما كان الإنسان يستطيع أن يبلغ من الرقى إلى الآن، تستبيح لنفسها أن تزهق النفوس وتسفك الدماء بغير حساب لتكسب المال وتبسط السلطان، فلا على الأفراد والجماعات أن يصنعوا صنيعها ويسيروا سيرتها، والناس يحصون صرعى الحربين العالميتين بالملايين ويحصون صرعى الثورات الأوروبية بين الحربين بالمئات والألوف، ويحصون صرعى الاستعمار بعشرات الألوف ومثاتها، وهذه الضحايا الكثيرة لا يضحى بها من خطأ ولا يضحى بها فى سبيل.

الحق والعدل، وإنما يضحى بها عن عمد وعن استجابة للبقى والطغيان وفى غير تحرج ولا تحفظ ولا احتياط.

وقد قرأت فى إحدى الصحف الفرنسية التى وصلت إلى من باريس فى هذه الأيام الأخيرة أن الفرنسيين قتلوا من أهل الجزائر سنة 1945 بعد أن وضعت الحرب العالمية أوزارها هددا ضخما يبلغ المقللون له خمسة عشر ألفاً ويبلغ المكثرون له أربعين ألفا. والله يعلم كما يقتل الفرنسيون من الجزائريين فى ثورتهم هذه القائمة، وكم قتلوا من التونسيين والمراكشيين وكم يقتلون منهم أثناء هذا الصراع المتصل بين قوة يريدون أن يعيشوا كراما وآخرين يريدون أن يستقاوهم ويتخذوهم رقيقا بعد أن الغت الحضارة الحديثة الرق فيما يقول اصحابها. وضحايا الاستعمار فى الهند الصينية من المستعمرين والناهضين لهم لا يحصون بعشرت الألوف وإنما يحصون بمثابها ومن يدرى كم كان عدد الذين ضحى بهم الاستعمار الانجليزى فى شرق الأرض وغربها منذ انقضت الحرب العالمية الثانية إلى الآن؟

وأنت لا تقرأ صحيفة فى الصباح أو فى المساء إلا رأيت فيها حديث الموت الذى يصب فى إيران على الذين لا يعجبهم ما كان من الاتفاق على استغلال آبار البترول، فقد أصبحت حياة الإنسان فى هذا العصر أهون شأنا وأقل خطرا مما تخرج الأرض من ثمراتها الحية والميتة، فإذا شخصت هذا العصر بأنه عصر الحياة الإنسانية الرخيصة والمنافع الإنسانية الغالية أو بأنه عصر الدم الإنسانى الذى لا تبلغ قيمته قيمة البترول الذى يبسط السلطان ويدر المال فلست غاليا ولا متجاوزا للحق.

وكنت أفكر فى هذا كله منذ وقت طويل وأحمد الله الذى لا يحمد على المكروه سواه، وأقول لنفسى ولكثير من الناس أننا مازلنا فى عافية مما يمتحن به غيرنا من رخص الحياة الإنسانية وغلاء المال والمنافع والمطامع على حقارتها.

ولكن الحضارة الحديثة قد ألغت المسافات والآماد وقاربت بين الناس على ما يكون بينهم من تباعد الأقطار والديار. وقد كنا نرى ذلك خيرا ونعده رقيا ودنوا إلى توحيد العالم أو تخفيف ما بينه من الفروق وإلى جمع الناس على كلمة سواء وتطهير قلوبهم من الضغن وتخليص نفوسهم من البغى وتمكينهم من أن يصيروا إخوانا يعيشون على ما أباح الله لهم من طيبات الحياة دون أن يستغل بعضهم بعضا أو يستدل بعضهم أو يستعلى بعضهم على بعض أو يتخذ بعضهم بعضا أربابا من دون الله، فقد تبين أنا كنا نخدع أنفسنا ونطمع فى غير مطمع وتتمنى ما لم يؤن أوان تحقيقه بعد. وتبينا أن الشر يغرى بالشر وأن النكر يدعو إلى النكر وأن الموت يرغب فى الموت.

ونحن نصبح ذات يوم فإذا الهول يتكشف لنا كأشنع ما يكون الهول، وإذا بعض المصريين يمكرون ببعض، وإذا الموت يريد أن يتسلط على مصر كما تسلط على كثير غيرها من أقطار الأرض. وإذا كل واحد منا كان آمنا أمن الغفلة الغافلة يظن أنه لن يتعرض إلا لما يتعرض له الناس الآمنون من هذه الآفات التى لا يسلطها الإنسان على الإنسان وإنما تسلطها الطبيعة على الحياة. أنا كنا غافلين حقا خدعنا ما عرفناه عن وظننا هذا الوادع الهادىء الكريم الذى لا يحب العنف ولا يألفه ولا يحب أن يبلغ أرضه فضلا عن أن يستقر فيها. ولم لا؟ ألم نشهد منذ عامين اثنين ثورة يشبها الجيش وفى يده من وسائل الباس والبطش ما يغرى بازهاق النفوس وسفك الدماء ولكنه يملك نفسه ويملك يده فلا يزهق نفسا ولا يسفك دما ولا يأتى من الشدة إلا ما يمكن تداركه، ولا يجرح إلا وهو قادر على أن يأسو، ولا يعنف إلا وهو قادر على أن يرفق، وإذا ثورتنا فذة بين الثورات لا تأتى من الأمر مالا سبيل إلى إصلاحه غدا أو بعد غد.

كل هذا لأن مصر لا تحب العنف ولا تألفه، ولأن نفوس أهلها نقية نقاء جوها، صافية صفاء سمائها، مشرقة اشراق شمسها، تسعى فى طريقها مطمئنة كما يسعى نيلها مطمئنا ناشرا للخصب والنعيم من حوله. تضطرب فيها الضغائن والاحقاد بين حين وحين، ولكنها لا تلبث أن تثوب إلى العافية كما تثور فيها الرياح فتملأ الجو غبارا ثم لا تلبث أن تعود إلى الهدوء الهادىء المطمئن.

كذلك عرفنا مصر فى عصورها المختلفة وكذلك رأيناها حين ثار جيشها منذ عامين فاخرج الطاغية ولكنه أخرجه موفورا يحيا كما يحب أن يحيا مكفوف الأذى عن مصر، لم يؤذ فى نفسه قليلاً ولا كثيرا.

واشتد على بعض أبنائها شدة يمكن أن يتداركها باللين فى يوم من أيام الصفو هذه التى نعرف كيف تملأ قلوب المصريين حبا ودعة وأمنا وسلامنا، ولكننا نصيح ذات يوم فستكشف أن فريقا منا كانوا يهيئون الموت والهول والنكر لأخوانهم فى الوطن ولاخوانهم فى الدين ولاخوانهم فى الحياة التى يقدسها الدين كما لا يقدس شيئا آخر غيرها من أمور الناس .

ما هذه الأسلحة وما هذه الذخيرة التى تدخر فى بيوت الأحياء وفى قبور الموتى؟ ما هذا المكر الذى يمكن، وما هذه الخطط التى تدبر، وما هذا الكيد الذى يكاد؟ لم كل هذا الشر، ولم كل هذا النكر، ولم رخصت حياة المصريين على مصريين، كما رخصت حياة الجزائريين والمراكشيين والتونسيين على الفرنسيين وكما رخصت حياة الأفريقيين والآسيويين على الانجليز..؟

يقال أن حياة المصريين إنما رخصت على المصريين بأمر الإسلام الذى لم يحرم شيئا كما حرم القتل، ولم يأمر بشىء كما أمر بالتعاون على البر والتقوى، ولم ينه عن شىء كما نهى عن التعاون على الأثم والعدوان، ولم يرغب فى شىء كما رغب فى العدل والإحسان والبر، ولم ينفر من شىء كما نفر من الفحشاء والمنكر والبغى.

هيهات أن الإسلام لا يأمر بإدخار الموت للمسلمين وإنما يعصم دماء المسلمين متى شهدوا أن لا اله إلا الله وأن محمدا رسول الله. ويرى قتل النفس البريئة من أكبر الأثم وأبشع الجرم وأنما هى العدوى المنكرة جاء بعضها من أعماق التاريخ وأقبل بعضها الآخر من جهات الأرض الأربع التى تستحل فيها المحارم وتسفك فيها الدماء بغير الحق ويتسحب فيها الموت لأيسر الأمر.

جاء بعضها من أعماق التاريخ. من أولئك الذين قال فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم يقرأون القرآن لا يتجاوز تراقيهم، والذين كان أيسر شىء عليهم أن يستبيحوا دماء المسلمين مهما تكن منازلهم فى الإسلام، وأن يتحرجوا فيما عدا ذلك تحرج الحمقى لا تخرج الذين يتدبرون ويتفكرون ويعرفون ما يأتون وما يدعون. وجاءهم بعضها الآخر من هذا الشر المحيط الذى ملأ الأرض ظلما وفسادا. من هذا القتل المتصل فى الحروب يثيرها بعض الأقوياء على بعض، وفى البطش يصبه الأقوياء على الضعفاء فى البلاد المستعمرة التى يريد أهلها الحرية ويأبى المتسلطون عليها إلا الخضوع والأذعان والسمع والطـاعة يفرضون ذلك عليها بالحديد والنار.

وأنباء هذا الشر المحيط تملأ الجو من طريق الراديو، وتملأ القلوب والعقول من طريق الصحف، وتثير فى نفوس الأخيار حزنا ولوعة، وفى نفوس غيرهم ميلا إلى الشر ورغبة فيه وتهالكا عليه.

لم يأت هذا الشر الذى تشقى به مصر الآن من طبيعة المصريين لأنها فى نفسها خيرة، ولا من طبيعة الإسلام لأنه أسمح واظهر من ذلك وإنما جاء من هذه العدوى.

والخير كل الخير هو أن نطب لهذا الوباء كما نطب لغيره من الأوبئة التى تجتاح الشعوب بين حين وحين. وقد تعلم الناس كيف يطبون للأوبئة التى تجتاح الأجسام وتدفعها إلى الموت دفعا. فمتى يتعلمون الطب لهذا الوباء الذى يجتاح النفوس والقلوب والمقول فيغريها بالشر ويدفعها إلى نشره وإذاعته ويملأ الأرض بها فساداً وجوراً؟

بهذا يأمر الله عز وجل فى القرآن العزيز حين يقول فى الآية الكريمة:

«ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون».