الجمعة 19 ابريل 2024

رُب رسالة خير من ألف خطة

مقالات9-7-2022 | 16:19

بحلول عيد الأضحى لهذا العام 2022، تمر أربعة سنوات بالتقويم الهجري على قيامي بأداء مناسك الحج، تلك التجربة الفريدة في عمر أي مسلم التي يحلم بأدائها والتي قد يفضلها على الكثير من أولويات الحياة، وأخص المصريين بالذكر في هذا، فلطالما تمنيت منذ بداية عملي بأداء العمرة كان حلماً بسيطاً كباقي أحلامي، لكن كان الله يعلم أن نيته كانت صادقة كل الصدق، ولم تواتيني الظروف بتنفيذه نظراً لظروف ارتباطات والدي وأخي.

حتى أنني في عام من الأعوام كنت في مهمة عمل في سلطنة عمان، وتصورت أنه يمكنني أن أحصل على تأشيرة دخول للأراضي السعودية من هناك بشكل أيسر، وذهبت بحقيبة ملابس كاملة محملة بملابس الإحرام وكل مستلزمات العمرة، وللأسف لم أوفق أيضاً.

 إلا إنني لم أيأس وداومت على التقديم سنوياً بقرعة الحج في نطاق عملي ولم يحالفني الحظ لسنوات، حتى أن جاء النداء وكان موعد إجراء القرعة، وانهالت علي الاتصالات من كل الزملاء بالبشرى أنني كنت أول الأسماء التي تم سحبها، لهذا الحد كانت الرسالة الربانية واضحة "ولا تقل لشيء إني فاعل ذلك غدا إلا أن يشاء الله"، وتلقيت الرسالة بالدموع والفرحة معاً، وذهبت إلى حقيبتي القديمة المحملة بكل ملابس الإحرام التي أعدتها منذ سنوات وقلت لها حان وقتك لقد أذن الله لنا بالتلبية.

وتشاء الظروف تيسيراً أن يصاحبني أخي وصديقتي وأسرتها، فتكتمل كل مسببات الاطمئنان والصحبة الطيبة، وانطلقنا إلى الأراضي الحجازية وصولاً إلى مكة في صبيحة يوم التروية، وفي حين توجه معظم الحجيج إلى مخيمات مِنى، توجهت أنا وأخي وصديقتي إلى داخل الحرم المكي، ورأيتها رأيت الكعبة المشرفة لأول مرة رؤية العين، وأنا التي كانت تستعجب لدموع المتحدثين من زوار بيته السابقين كلما تحدثوا عنها، كنت أقول في نفسي لماذا المبالغة! وما هو هذا السر العجيب وراء بريق عينيهم كلما تحدثنا عنها!

كانت الإجابة مع أول وهلة دخلت فيها إلى نطاق الحرم من الخارج، حتى وأن بدأت نبضات قلبي تتسارع بدون مبرر مفهوم، وبدأت من جانبي بمحاولة اختلاس النظر بين العواميد العديدة الضخمة التي تملأ المكان كأنني طفلة تبحث عن أمها، وبدأت الصورة في الاقتراب حتى أن بدأت أرى طيفها باللونين الأسود والذهبي، وهنا بدأت أشهر بخطوات أقدامي تتسارع وكأن جاذبية ما تشد أقدامي إلى داخل الصحن، حتى أن دخلنا وشعرت بدموعي بدون وعي تنهمر وأنا أردد بصوت مسموع "الله أكبر الله أكبر"، وصديقتي تأخذني من يدي لندخل في المضمار الأقرب للكعبة وأنا كالمخدرة رأسي في اتجاه الكعبة دون إيلاء اهتمام لموضع خطواتي، فلم أستطع تحريك عيني من عليها كأنني تحت تأثير المجال المغناطيسي للكعبة.

وما أن وصلنا إلى أقرب مضمار حتى أن أفلت يدها والتصقت بجدار الكعبة وتشممت رائحة المسك على الكسوة، وهنا كان الانهيار الكامل بإفلات كل الذنوب وطلب المغفرة وإطلاق العنان لكل الدعاء والأمنيات المكبوتة، لا أتذكر بالتحديد كم ظللت ملتصقة بجدار الكعبة، حتى أستعجلتني صديقتي لأداء طواف القدوم.

وما أن انتهينا منه حتى ذهبنا إلى منسك السعي بين الصفا والمروة ونحن نردد أدعية كل شوط من الأشواط، وأتخيل مع كل شوط منهم قصة السيدة هاجر وإبنها سيدنا إسماعيل في مخيلتي، وأحاول استشعار الحكمة من اختيار الله عز وجل لشخص السيدة هاجر المصرية لهذه المهمة الصعبة، وأتتني الإجابة في كل خطوة كنت أخطوها بين الجبلين فمنحتني القوة لأستكمل المهمة، كيف لا وأنا الحفيدة الوارثة للجينات وكل مقومات العزم والسعي والاجتهاد والعزيمة لتلك السيدة المصرية شديدة التحمل على ما قد لا يقوى عليه الرجال، فالله حاشاه لم يخلق ولم يدبر شيئاً عبثاً.

على كل حال، انطلق كل منا في طريقه لإيجاد الحافلة الخاصة به والتوجه إلى مخيمات مِنى، قمنا بكامل مناسك الحج بالذهاب مساءً إلى مخيم عرفات، والوقوف بعرفات في اليوم التالي ومنها إلى المزدلفة لجمع الجمرات، التي جمعتها لنا الشركة بالفعل في عبوة أعدتنا إياها قبيل بدء المناسك، ومنها عدنا إلى مكة لأداء طواف الإفاضة، ثم الذهاب مرة أخرى إلى مخيمات منى للتحلل والقيام في أيام العيد الثلاثة برمي الجمرات، ثم العودة إلى مكة لأداء طواف الوداع لكل من حان موعد مغادرته قبل القيام بعمرة أخيرة ثم الذهاب إلى حرمه النبوي.

 هي في مجملها تجربة شديدة التفرد والتفاصيل والمشاعر والخطوات، تمنيتها في قلبي بأبسط الطرق كمجرد زيارة للعمرة، ومنحني الله إياها في أعظم الصور التي يتمناها كل مسلم حق في صدره، ويأمل أن يؤديها ولو مرة واحدة بالعمر، الحج إلى بيته الحرام والقيام بمنسك السعي الفريد، أكرم الله الجميع بها ورزقهم فرحتها.