السبت 27 ابريل 2024

سينيكا والمسائل الطبيعية.. قراءة في كتاب «مسائل طبيعية لسينيكا»

مقالات17-7-2022 | 17:50

انتهينا في مقالنا السابق الذي حمل عنوان "تراجيديا سينيكا.. قراءة في مسرحية "هيركوليس مجنونا"، عند تساؤل هل عظمة سينيكا تقف فقط عند هذا الحد من الكتابات المسرحية؟، وكانت إجابتنا بالرفض، لذلك وجدنا أن أفضل عمل يمكن أن يقودنا للتعرف على اتساع أفق ذلك الفيلسوف الرواقي ورؤيته المستقبلية، بل وتحليلاته العلمية هو عمله الخاص بتحليلي وبيان وشرح المسائل الطبيعية. 

يُقصد بالمسائل الطبيعية، هي تلك الظواهر التي نراها في بيئتنا اليوم كلها أو بعض منها على حسب طبيعة كل بيئة، وهي المياه الأرضية، نهر النيل، الغيوم، الرياح، الزلازل، المذنبات (المذنب هو جسم جليدي صغير يدور في النظام الشمسي يظهر عندما يكون قريب من الشمس)، النيران، البرق والرعد، على الرغم من أن هذه الظواهر كلها باتت تعرف عندنا اليوم ولا تمثل بالنسبة لنا نوعًا من الهلع أو الخوف، وأصبحنا نُطلِق عليها اليوم مصطلح "الظواهر الطبيعية".

والسؤال الآن، هل اكتشاف هذه الظواهر وليد هذا العصر؟ هل كان هناك دراسات أو أبحاث، حتى وإن كانت لا ترقى لأن تكون تحت مسمى البحث العلمي بالمعنى المفهوم الآن، سبباً في تكوين رؤية أو بداية طريق لاكتشاف هذه الظواهر؟ 

في حقيقة الأمر ولن نكون مُغالين إذا قلنا إن ما تركه لنا سينيكا في إرثه الخصب، وأخص بالذكر كتاب المسائل الطبيعية، اهم مؤلف، بل اهم دراسة بحثية، تقودنا لمعرفة سبب هذه الظواهر، وتُعطينا خوطاً عريضة للتعرف على طريقة التفكير في اكتشاف هذه الظواهر. 

والجدير بالذكر هنا، أن هذا الكتاب هو من ترجمة الأستاذ الدكتور حمادة على، وهو أستاذ ومتخصص في الفكر اليوناني عامة، وفي الفكر الرواقي على وجه الخصوص، وله أربع ترجمات لأربعة مؤلفات لسينيكا، وهذا الكتاب الذي نحن بصدد الكتابة عنه هو الكتاب الخامس، وهو الصادر عن دار رؤية، وسنُفصل حديثنا الآن حول بنية هذا الكتاب وما يحتويه من أفكار، وسنحاول كل ما استطاعتنا بيان نباذات واضحة عن هذه الأفكار، بحيث يدور نقاشنا على بيان تفصيلي لاهم نقاط التي وردت مع تعليقنا عليها.

يتكون الكتاب المُترجم من تسعة فصول، ويحمل كل فصل عنوان او اسم ظاهرة من الظواهر الطبيعية. إلا أننا سنبدأ حديثنا من الفصل الثاني متلاشين الفصل الأول وذلك لِمَا يحمله من دلالة في غاية الأهمية، لذلك سنأجل الحديث عنه إل أن نصل إلى تقيمنا لهذا الكتاب. والفصل الثاني من هذه الترجمة، يتحدث عن المياه الأرضية، والفصل الثالث يتحدث عن النيل، والرابع يدور حول مسألة الغيوم مثل المطر والبرد والثلج، والخامس يتحدث عن الرياح، والسادس عن الزلازل، والسابع عن المذنبات، والثامن عن النيران، والثامن والأخير يتحدث عن البرق والرعد.

يقدم لنا سينيكا في هذا الكتاب إجراء استقصاء عام للطبيعة، ويعلن مفتتح الكتاب عن نية سينيكا في سبر أغوار العالم واستقصاء الطبيعة بلا قيود. إلا أن القارئ المعاصر سيُصاب بالدهشة من التخصصات التي يعرض لها سينيكا من جغرافيا وأرصاد جوية وعلم الزلازل وعلم الفلك، وبالتالي فإن موضوعات هذا الكتاب تندرج تحت نطاق علم الأرصاد القديم. نضيف إلى ذلك التشبيه الذي ساقه له الدكتور حمادة، وهو "إن الأرض في المذهب الرواقي كائن حي، والعالم برمته كائن حي بالنفس، ويفترض سينيكا أيضاً المعتقد الرئيس للأخلاق الرواقية وهي الحياة الفضلى التي يعيشها المرء وفقاً للطبيعة أو العقل أو الفضيلة". 

كما نجد أن ما قدمه لنا سينيكا يمثل تفسيراً عقلانياً للأحداث التي تُنسب في الغالب إلى الآلهة المتعسفة أو المؤذية، أي أنه قدم لنا تحرراً من الخوف من الجوانب المفزعة للطبيعة. كما بين لنا سينيكا معلومات جمة عن آراء الكُتَّاب السالفين ويربطها نقديّاً بآرائه، ولا يفعل كُتَّاب الأرصاد هذا الصنيع. فلم يكن سينيكا واصفاً، بل مشاركاً بوجهة نظره النقدية وناقداً لآراء السابقين بغية أن يصل إلى آرائه، ويرتد هذا المنهج إلى أرسطو، وربما استعمله بوذدونيوس (مؤرخ وفيلسوف وجغرافي يوناني) كذلك.

والجدل حول التفسيرات التنافسية أمر حيوي لعمل سينيكا، فهو لم يكتب تاريخاً للموضوع، فالترتيب الذي يظهره به الفلاسفة في كتابه ليس زمانياً، بل يرتد عادة إلى ديناميات الحجة، وتقدم النظريات بنحو مجهول، وخير مثال الكتاب السادس، حين يشرع في الحديث عن أسباب الزلازل وأنها ناجمة عن الماء أو النار أو التراب أو الهواء أو أكثر من عنصر منهم أو جميعهم معاً، فالحديث يتبع ترتيب موضوعات مع آراء بعينها يُسمى أصحابها أحياناً وليس دوماً. 

أضف إلى ذلك أن القارئ لهذا الكتاب سيجد سينيكا عندما يقترب من علم الفلك يصبح دقيقاً، وهو يُحدث تقدماً بملاحظة العين المجردة عندما يتحدث عن المذنبات، ولكنه يرى أن ملاحظة العين المجردة لن تحقق تقدماً في معظم الموضوعات، صحيح أن البعثات وصلت إلى مصادر النيل الأزرق والأبيض ودرست المناخ هناك، وفُهمت أسباب فيضان النيل بشكل أفضل، إلا أنه ليس من طريقة لملاحظة العواصف الرعدية من الأرض تكشف السمات السماوية للرعد أو ملاحظة الآثار المرئية للزلازل التي تؤدي مباشرة إلى تشويه الطبقات الأرضية، حتى إن معظم المفاهيم الأساسية للأرصاد كانت مفتقدة أو غامضة للغاية وغير قابلة للتحديد بالكلية، وحددت فكرة ضغط الهواء بفكرة الضغط الذي يفعله الهواء أو الريح في الحركة، وهذا يختلف عن تصور علم الأرصاد الحديث لضغط الهواء، حيث لم يكن هناك باروميتيرات، فلم يميز الكتاب القدامى عند الحديث عن الحرارة والبرودة مثلما يتعرض الفيزيائي الحديث للفروق الحرارية ودرجة الحرارة، حيث لا يوجد وسائل موضوعية لقياس درجة الحرارة. ومع ذلك قدم سينيكا والكتاب القدامى عوناً للعلم اللاحق باكتشافاتهم المضطربة للإمكانيات اللغوية والمنطقية لمفاتيح معنى مثل عنصر السخونة والبرودة والكثافة والتخلل وترسيخها مفاهيمياً لزمن في المستقبل البعيد عندما عملت التجارب على توضيح هذه المفاهيم وقياس خصائصها كذلك.

نأتي الآن إلى ما أجلنا الحديث عنه وهو الدراسة التي كتبها الدكتور حمادة ووضعها في بداية الكتاب، وتحمل هذه الدراسة عنوان "الأخلاق البيئية عند سينيكا"، هذه الدراسة تمثل فاتحة الطريق لقارئ هذا الكتاب لأنها مبثابت الجانب الوصفي للطبيعة، وبيان علاقة البيئة بالإنسان. كما نجد أن هذه الدراسة هي في الأساس بحث علمي، فهي ليست كلام مرسل، بل انه مسند بإثباتات وأدلة علمية وبحثية تتمثل في المصادر والمراجع المستخدمة في الدراسة.

إلا أنه ينفص هذه الترجمة المراجعة عن الأصل اللغوي لها، وهو الأصل اللاتيني، فكما نعلم ان كتابات سينيكا كانت جميعها باللغة اللاتينية، وقد تم نقل جميع مؤلفات سينيكا للغات كثيرة أشهرها اللغة الإنجليزية، لذلك يجب على المترجم لأحد مؤلفات سينيكا أن ينقلها من اللغة الأصلية لها، وليست عن لغة أخرى غير اللغة الأصلية، ولكن هذا لا ينقص الترجمة التي بين أيدينا بشيء، بل ما نقصده هنا هو لابد من اكتمال الوجبة المعرفية التي نقدمها للقراء والباحثين في مختلف المجالات وتكون كاملة التوثيق والمراجعة حتى وإن غفل المترجم عن خطأ ما غير مقصود بسبب انشغاله في الترجمة، يكون المراجع قادر عن تصحيح ذلك الخطأ. لذلك سنجعل موضوع مقالنا القادم عن الأصل اللغوي للمؤلفات والمصادر العلمية لما تحمله من دلالات وأهم باللغة.

Dr.Randa
Dr.Radwa