الخميس 2 مايو 2024

الوجه الآخر للأزمة الروسية - الأوكرانية «4/1»

مقالات26-7-2022 | 01:24

دروس كثيرة ووقفات مهمة، وتحليلات واجبة للأزمة «الروسية- الأوكرانية».. فمن أهم الدوافع التي استند عليها الرئيس بوتين في قرار الحرب هو مخاوف مشروعة بالنسبة له.. من أبرزها الوعي تجاه خطورة تأثير موجات الثورات والتغييرات السياسية التي تفشت واجتاحت أوروبا الشرقية خلال العقود الأخيرة أو تحديداً في 1989م بداية برومانيا وبولندا.. بوتين خشى من تأثير هذه الثورات المتنوعة في شعاراتها وألوانها، خاصة أن صناعة الثورات وتصديرها بات أخطر سلاح فتاك يهدد بقاء وأمن واستقرار الدول والشعوب.. ويعتمد هذا السلاح الخطير على «الوعى المزيف» كأحد أهم مكونات الحروب الجديدة لإسقاط الدول.. من هنا خشى بوتين في ظل الاقتراب للمعسكر الآخر من مشارف وحدود أمن بلاده على تماسك الدولة والداخل الروسي وهو الأمر الذى دفعه إلى اتخاذ قراره الذى جهز له منذ سنوات وخوض حرب محسوبة بدقة.. وعقلانية من خلال عدم الاندفاع أو المقامرة والمغامرة تؤدى إلى نتائج خطيرة للجانب الروسي.

ما بين الثورات المتنوعة والملونة التي اجتاحت أوروبا الشرقية وغيرت سياساتها وتوجهاتها وتحالفاتها.. وثورات الربيع العربي الذى أسقطت دولاً في المنطقة العربية.. وأجبرت أخرى «غنية» على استرضاء شعوبها.. تتجسد خطورة صناعة وتصدير الثورات والانتفاضات الشعبية.. وكارثية تزيف الوعى لدى الشعوب.. انه أخطر الأسلحة الفتاكة.

 

الوجه الآخر للأزمة الروسية - الأوكرانية «4/1»

لا يجب أن تمر الأزمة الروسية- الأوكرانية علينا مرور الكرام، بل لابد من التوقف أمامها كثيراً بالتحليل والخروج برسائل ودروس سواء في دوافعها وأسبابها أو حتى مقدماتها وما سبق نشوبها على مدار العقود الماضية وما تكتنفه جنبات الصراع الأمريكي- الغربي من ناحية والروسي من ناحية أخري، فلا يجب أن نقيم ونحلل الأمور عند مسألة الحرب الناشبة الآن والتي تدور رحاها في أوكرانيا، بل ربما نعتبرها فقط هي أرض المعركة وساحة القتال والصراع، وتبدو فيها أوكرانيا كرأس حربة لمخطط غربي بدا في الأفق منذ عقود، وربما يتشابه في مكوناته مع ما جرى في المنطقة العربية تحت مسمى ثورات الربيع العربي وهى إحدى حلقات الثورات الملونة التي قامت ونالت من أوروبا الشرقية وغيرت ملامحها السياسية والفكرية وحالة التحول الجذري من اجتياح ثورات 1989م المعروفة باسم سقوط وانهيار الشيوعية وبمعنى آخر هي الثورات التي أطاحت بالدول الشيوعية في أوروبا الوسطى والشرقية.

بطبيعة الحال فإن التوقف بالتحليل والدراسة أمام الأزمة (الروسية- الأوكرانية) وخلفياتها وأسبابها والدوافع التي قادت إليها وأدواتها وآلياتها ووسائلها.. يضع أمام أيدينا الكثير من الدروس سواء لتفسير ما يجرى على الأرض، والوقوف على وسائل وأدوات الأطراف المختلفة، وتداعيات والدروس المستفادة من الصراع الناشب بين المعسكرين الغربي، والروسي المتحالف مع قوى عالمية أخرى.

الحقيقة أن هناك ثمة دوافع واضحة ومقروءة لدى الرئيس الروسي لإقدامه على اتخاذ قرار عملية عسكرية خاصة في أوكرانيا والحقيقة أنها تتسم بحسابات دقيقة ومحددة وفق مخطط استراتيجى شامل يشمل محاور أبرزها «العسكرية والاقتصادية والسياسية» تتسم بالعقلانية والحكمة والنفس الطويل خشية التورط في مغامرات أو اندفاع قد يجلب المصاعب لروسيا وهو ما يشير إلى أن هذه الحرب ذات الطبيعة الخاصة كانت في عقل الرئيس بوتين منذ فترة وربما منذ سنوات وتم التحضير لها بدقة شديدة وحساب تأثيراتها على الجانب الروسي، وإيجاد البدائل وقراءة أفكار والقرارات والسياسات المحتمل اتخاذها من المعسكر الغربي خاصة على الصعيد الاقتصادي، حيث بلغت العقوبات على روسيا ما يقرب من 6500 عقوبة تشمل كل المجالات والقطاعات والدولة الروسية وأفرادها وأصولها وهو ما سنتعرض له في السطور القادمة.

دراسة الأزمة الروسية- الأوكرانية يجب ان تكون متأنية خاصة في دوافعها وأيضاً في تأثيراتها الاقتصادية، أو أدواتها غير العسكرية مثل الإعلام الذى يرسخ يوماً بعد يوم انه سلاح خطير سواء في حماية الدول وتأمينها أو هدمها وإسقاطها فهو سلاح متعدد الأوجه والأهداف ثم أهمية الإعلام في التأثير غير المحدود على دعم القرار السياسي وأيضاً ما يسببه على عملية صناعة القرار.

الحقيقة أنني قررت أن أبادر بالتوقف أمام دروس الحرب الروسية- الأوكرانية الأخرى من خلال الوقوف على الوجه الآخر من الأزمة فقد تناولت تداعيات الأزمة على صعيد التضخم وارتفاع الأسعار والأمن الغذائي العالمي والطاقة والنفط.. لكن بطبيعة الحال طفت على السطح متغيرات وتداعيات أخرى سياسية واقتصادية وإعلامية، وربما من الأفضل أن يتناول الخبراء العسكريون الدروس العسكرية التي جاءت من العمليات الجارية بين روسيا وأوكرانيا المدعومة بأسلحة ولوجستيات عسكرية غربية.

توقفت أمام أبعاد مهمة أراها تحمل رسائل ودروساً مهمة للغاية سواء في تقدير الموقف الروسي، وهو تقدير موقف وجود وأمنى وسياسي وعسكري وما هي الأسباب والدوافع التي أدت إلى قرار الحرب والثاني الجانب الاقتصادي، والثالث هو المحور الإعلامي وهذه المحاور ستكون في سلسلة مقالات متتالية.

القرار الروسي نحو تنفيذ عملية عسكرية في أوكرانيا في اعتقادي أن ما جرى من ثورات في أوروبا الشرقية مدعومة من المعسكر الغربي، أفضت إلى واقع جديد في أوروبا الوسطى والشرقية هو أحد الدوافع المهمة لإقدام بوتين على اتخاذ قرار الحرب خاصة في ظل الاقتراب المحسوس من قبل المعسكر الآخر والذى يمثله «الناتو» واصبح على مشارف وحدود الأمن القومي الروسي وهو ما ارتآه بوتين واعتبرته الدولة الروسية يشكل خطراً داهماً على طموح موسكو بل ووجودها وخشية أن يكون مصيرها مثل سائر دول أوروبا الشرقية التي اجتاحتها موجات من الثورات منذ عام 1989 وبدأت برومانيا وبولندا، وجرت في أوكرانيا، وفصلتها عن الجسد الروسي سياسياً وفكرياً بالانتقال إلى المعسكر الآخر.. الرئيس بوتين أدرك خطورة التأثيرات العميقة والخطيرة للثورات والتغييرات السياسية التي اجتاحت أوروبا الشرقية خلال العقود الأخيرة منذ 1989 بمسميات وشعارات وألوان متنوعة لكنها في النهاية مدفوعة ومدعومة وخشى من تمدد هذه الموجات والتأثيرات إلى العمق الروسي.. بالاقتراب الأمريكي- الغربي من الحدود الروسية من خلال اتخاذ أوكرانيا كرأس حربة خاصة أن هذه الثورات أدت إلى انفراط عقد أوروبا الشرقية بالكامل وارتأت روسيا أن هذا من شأنه أن يشكل خطورة بالغة على تماسك الداخل الروسي على صعيد الدولة كما جرى في الثورات الملونة في أوروبا الشرقية بسقوط الشيوعية، أو كما جرى في أحداث ما يسمى بالربيع العربي التي أسقطت بعض دول المنطقة العربية ومزقتها وجعلتها مرتعاً للفوضى والانفلات والإرهاب لتتحول إلى اللادولة بعد سقوط الدولة الوطنية فيها.

روسيا قررت إبعاد الخطر الداهم عن حدود أمنها وعقول شعبها.. ورأت انه مهما بلغت قوة روسيا وقبضتها الأمنية، فان تحرك الداخل نحو الهدم والتدمير وإحداث الفتن من خلال نجاح المعسكر الآخر في بناء وعى مزيف وغير حقيقي هو أخطر أسلحة الهدم والتدمير يهدد وجود أي دولة، فالتدمير والهدم من الداخل وبأيدي الشعوب المغيبة التي تلقت جرعات عميقة من الوعى المزيف القائم على الأكاذيب والثقافات والأفكار المستوردة، والتشكيك والقسوة في ظل عدم إيلاء الدول وأجهزة إعلامها الاهتمام ببناء الوعى الحقيقي والشفافية والمصداقية العالية والتصدي لموجات الأكاذيب كفيل بهدم الدول وإحالتها إلى الفوضى والانفلات وسقوطها فريسة في أيدى اللئام والإرهابيين.

لم تكن الدروس والرسائل فقط من الثورات المتنوعة والملونة التي اجتاحت أوروبا الوسطى والشرقية، ولكن لنا دروس وعبر من أحداث ووقائع، ونتائج ما أطلق عليه ثورات الربيع العربي التي جرت في المنطقة العربية وبدأت بتونس، وأحدثت هزة عنيفة، وزلزالاً سياسياً تدميرياً فوضوياً أفضى في النهاية إلى سقوط الدولة الوطنية في دول كثيرة.. تعيش الآن معاناة حقيقية، وباتت الشعوب التي خدعت بالشعارات البراقة والجوفاء ووعود الرخاء والديمقراطية والرفاهية والحرية تصب جام لعناتها وغضبها وتجز أصابع الندم حسرة على ما جرى من خراب ودمار وفوضى وإرهاب وقتل وسحل وغرق في مياه البحار والمحيطات وخوف ورعب وهلع وانتهاكات غير مسبوقة حولت الدول الآمنة المستقرة إلى أشباه دول أو لا دول، في حين انتفضت الدول الغنية لحماية نفسها والتصدي لمحاولات تسلل ونفاذ هذه الثورات إلى داخلها من خلال إجراءات سمحت بها ظروفها وقدراتها وإمكانياتها من خلال قرارات لتهدئة الرأي العام فيها مثل زيادة المرتبات والتعيينات في الوظائف الحكومية، وهى إجراءات استباقية للحيلولة دون حدوث العدوى لشعوبها وهو ما يشير إلى أن الدول الغنية التي تتمتع بثروات طائلة ورغد العيش تأثرت شعوبها بالحالة العامة لهذه الثورات والانتفاضات الشعبية بغض النظر عن المستوى المعيشي أو الخدمات التي يحظون بها.

في اعتقادي أن هذا المحور على درجة كبيرة من الأهمية خاصة أن صناعة الثورات الملونة والانتفاضات الشعبية من خلال الوعى المزيف، والضرب في ثوابت ومرتكزات ومعتقدات الشعوب، وهز الرموز، والتشكيك في كل شيء، وتشويه أى إنجاز والمبالغة في وقائع الفساد، ونشر الأكاذيب والشائعات بات أخطر من الأسلحة التقليدية والنظامية ذات التكلفة الباهظة مادياً وبشرياً، وامتلك المتآمرون على الدول أسلحة فتاكة تحول الشعوب إلى قنابل مدمرة لدولها إذا لم تلتفت لأهمية وحتمية بناء الوعى الحقيقي، وتمتلك الإستراتيجية المتكاملة سواء لبناء الوعى والتواصل الدائم مع الشعوب وتغيير واقعها للأفضل أو مجابهة الأكاذيب والشائعات والتشكيك والتشويه وفى اعتقادي أن أقوى سلاح لمواجهة هذه الموجات المتواصلة من الحروب الجديدة هو الوعى الحقيقي المرتكز على إنجازات وحصائد الواقع، ثم التواصل المباشر، ودور الإعلام الوطني، وتحديد آليات مجابهة الشائعات والأكاذيب.

تأمين الدول والحفاظ على أمنها القومي لم يعد قاصراً فقط على امتلاك الجيوش الوطنية القوية المتسلحة بأعلى درجات الكفاءة والجاهزية ومنظومات التسليح المتطورة ولكن أيضا امتلاك منظومة الوعي الحقيقي والفهم الصحيح، خاصة أن الحروب الآن تنطلق من الداخل مدعومة من الخارج في تمويلها وإدارتها، وقبلها مهمة تزييف الوعى ونشر السخط والاحتقان والفتن وتغيير الهوية ونشر ثقافة التسطح والابتذال هذا مكمن الخطورة الحقيقي الذى يجب أن تلتفت إليه الدول، فالعدو يعمل الآن بنظرية «ليه تدفع أكثر، لما تقدر تدفع أقل» لتحقيق المهمة التدميرية للدول.

في اعتقادي أن ثمة حسابات دارت في العقل وتقدير الموقف الروسي، قبل أن يُتخذ قرار العملية العسكرية ضد أوكرانيا، وأبرز هذه الحسابات هو الخوف من تمدد الموجات الثورية والتغييرات السياسية التي اجتاحت أوروبا الشرقية وشكلت خطراً على تماسك الدولة والداخل الروسي، وهو ما يشير إلى استمرار المعسكر الآخر في غيه ومؤامراته على الدول والشعوب من خلال حروب من نوع جديد تستهدف عقل الشعوب، وثقافاتها وثوابتها ووعيها وتحويلها إلى ساحة للعبث والتحريض والتشكيك والتشويه، مما يخلق السخط والاحتقان الشعبي ضد الدولة ثم ينتج عن ذلك حالة من التغييب والوعى المزيف تدفع الشعوب إلى هدم وتدمير الدولة.

الاستباقية التي تبناها بوتين في تعامله مع (خطر المعسكر الغربي) واستخدامهم لأوكرانيا، ثم قرار الرئيس الروسي بالحرب يكشف أننا أمام درس مهم للغاية يتناول أمرين الاقتراب (الأمريكي- الغربي) على حدود أمن روسيا من خلال سعى أوكرانيا للانضمام إلى الناتو وبالتالي الاقتراب من العمق الروسي فأوكرانيا دولة حدودية لروسيا وان كانت موسكو قادرة بما لديها من قوة عسكرية ونووية على درء هذا الخطر، لكن التهديد الأخطر الذى ارتآه بوتين هو تهديد العقل الروسي من خلال الوأد المبكر لمحاولات تمدد الموجات الثورية التي اجتاحت دول أوروبا الشرقية وتهديد تماسك ووجود الدولة والداخل الروسي وهو ما دفعه وبشكل أساسي إلى الإقدام على اتخاذ قرار العملية العسكرية، مع الأخذ في الاعتبار انه استعد جيداً لكافة السيناريوهات والاحتمالات والقرارات التي سوف يتخذها المعسكر الآخر.

أخطر ما يواجه الدول في عالمنا المعاصر هو عملية صناعة وتصدير الثورات والانتفاضات الشعبية، وأصبحت من أخطر الأسلحة التي تهدد أمن وبقاء الدول ونجحت في تدمير دول وتغيير سياساتها وتحالفاتها السياسية، وهو ما تحسبت منه روسيا، ودفعها إلى حربها مع أوكرانيا، ودفع دولاً غنية وثرية إلى التحصين من هذا الخطر بمحاولات استرضاء شعوبها بزيادات كبيرة في المرتبات والإفراط في التعيينات بالوظائف الحكومية.

هذا الخطر الداهم يؤكد حتمية امتلاك القوة والقدرة الشاملة والمؤثرة سواء على الصعيد العسكري للتصدي ومجابهة محاولات الاعتداء على الأمن القومي وانتهاك السيادة والثروات والحقوق المشروعة، وأيضاً المستوى الاقتصادي بالعمل على تغيير حياة الشعوب وواقعها إلى الأفضل من خلال البناء والتنمية، والثالث وهو الأخطر والأهم ويتمثل في الاطمئنان الدائم والتأكيد على بناء الوعى الحقيقي والفهم الصحيح بوسائل وأدوات وآليات ورؤى وإستراتيجيات ترتكز على الدقة والتثقيف والتنوير والمصداقية العالية والشفافية بلا حدود، وعدم ترك مساحات أو فراغات لمنابر الأكاذيب والشائعات وتزييف الوعى أن تشغل أي حيز في عقل المواطن، وهو يتطلب إمكانيات وكوادر مؤهلة من دروس الحرب الروسية- الأوكرانية كثيرة للغاية، سواء في قراءة وتحليل دوافعها وأسبابها وخلفياتها التاريخية وكذلك استعداداتها وحروبها الاقتصادية التي أستطيع أن اسميها بحروب انتهاك السيادة الاقتصادية دون الاستناد إلى وجود غطاء أممي أو قانوني فيما يشبه البلطجة الدولية ثم الإعلام ودوره كسلاح خطير متعدد الأوجه والأدوار سواء للهجوم أو الدفاع أو المساندة، أو إحباط خطابات المتآمرين على أمن واستقرار وبقاء الدول وللحديث بقية عن دروس الأزمة الروسية- الأوكرانية على الصعيدين الاقتصادي والإعلامي وأيضاً عن النظام العالمي الجديد وملامحه، وما حصلت عليه القوى الصاعدة مثل الهند من دروس في هذا الصراع، وتجارب الصين مع الغرب.

تحيا مصر

Dr.Randa
Dr.Radwa