الجمعة 19 ابريل 2024

مقال في حب القراءة والثقافة الجادة

مقالات1-8-2022 | 18:30

انتهينا في مقالنا السابق الذي حمل عنوان "وسائل النقل النظيفة.. ضرورة بيئية"، عند تساؤل، هل هناك أداة تستطيع أن تمنحنا فرصة للتطلع والتأمل، للوقوف على مشكلتنا ومواجهتها أم لاء؟ وأن وجدت هذه الأداة، ما هي آلية العمل بها داخل المجتمع؟ والآن نحن بصدد التعرف على هذه الأداة التي يمكننا باستخدامها أن نصل لمرحلة الكمال الفكري والعقلي اللازمان للتكوين الثقافي الجاد والمثمر في آن واحد.

أيها السادة، لن نجد أداة أو عملية عقلية تستطيع أن تعلوا بنا إلى السمو المعرفي والثقافي، إلا القراءة. فكما نعلم أن الحاسوب يمتلك لغته الخاصة وهي البرمجة، فالعقل الإنساني ايضاً يمتلك تلك اللغة، وهي القراءة. القراءة فى أبسط معنى لها هى "برمجة ثقافة المرء الفعلية". والسؤال الآن، هل نحن في حاجة لمُرشد أو مُعين لنا يُساعدنا في اختيار الكتب أو الموضوعات التي نقرأها؟ بالطبع نعم، الإنسان في مراحل عمره الأولى يحتاج إلى من يُرشده ويأخذ بيده، كي يصل إلى أولى عتبات الثقافة الجادة والمعرفة الحاقة السليمة.

ولعل أبرز مثال أسوقه لكم في هذا الصدد ما كتبه الدكتور أحمد عمر شاهين، قائلاً: "في سن الشباب كنا نسأل دومًا من هم أكبر منا سنًا وأكثر دراية في عالم الكتب والقراءة كما يمكن أن نقرأ من كتب في فرع أو آخر من فروع المعرفة، وأذكر أننا في القليل من المرات كنا نحصل على إجابة شافية، ومشت بنا الحياة، مجموعة من الأصدقاء، نقرأ كل ما يُصادفنا دون اختيار أو تنظيم، كنا سعداء بما نقرأ، يعجبنا كتاب ويسخطنا آخر، لكننا كنا قد كرسنا معظم وقتنا للقراءة ولا شيء سواها، وبعد رحلة طويلة مع الكتب، أستطيع أن أقول الآن إنه بقليل من التنظيم وبعض الإرشاد كان يمكن أن نوفر الوقت والجهد، ونحصل على القدر نفسه من المعلومات والمعارف والمتعة أيضًا".

وأكمل حديثه قائلاً: "لدى الكثير وقت فراغ محدود، ولا يريدون إضاعته في قراءة الكتاب الخطأ أو على الأقل بترتيب خطأ، بالإضافة إلى معرفة أهم ما كتبه الآخرون في فروع المعرفة المختلفة؛ لتجنب إفلاس العقل والعيش وسط بحر من المعارف لا يعرفون العوم فيه".

اتفق شكلاً وموضوعاً مع الدكتور شاهين، لأنه يُكمل ما انتهى إليه، صمويل جنسون (1709 – 1784)، "المعرفة نوعان: أن نعرف موضوعات بأنفسنا، أو نعرف أين يمكن أن نجد معلومات عنه". وعلينا أن نعي أن من يستطيع أن يُرشد أبنائنا هو من يمتك وحده زمام الأمور في هذا الامر، واخص بالذكر مُدَرِسي المكتبات في المدارس، لِمَا لهم من رؤية علمية، يستطيعون بها خلق الوعي القومي والثقافي لأبنائنا. وأُكرر لابد ان يكون مُدَرِسي المكتبات حاملاً للمؤهِل الخاص بهذا التخصص. حتى يستطيع ان يجمع من المعرفة والعلم في آن واحد.

كما أكدت لنا الدكتورة سهير القلماوي في أحد ترجمتها، بكلمات وجيزة عدداً الحاملة مضموناً للمعنى قائلة: "عرف الشرق مدنيات عريقة في القدم وكانت هذه المدنيات كلها تقوم على اجلال العلوم والفنون. ولما فنيت هذه الأمم القديمة، وانمحى سلطانها، لم تبق منها إلا بضعة آثار ونقوش على أحجار أو أبنية هندسية عظيمة جليلة أو بضع أوراق عليها خلاصة هذا التفكير الذي كان يدير هذه الممالك والامبراطوريات".

من هذه الكلمة الثرية فهماً والخصبة أثراً، نجد ان القراءة هي القلب النابض لأي حضارة، والأعظم أثراً لأي امة لمعرفة حضارتها. كما اِسْتَطْرَدَت الدكتورة حديثها قائلة: "والمدنية الفرعونية من أقدم هذه المدنيات وأعرقها ومن أكثرها امتيازا بإجلال العلم، بل بتقديس الحكماء. وكان الحكماء، لا عند الفراعنة وحدهم وانما في سائر المدنيات أيضًا، سدنة (خادم) الدين والعلم على حد سواء. فكان طبيعيا أن تجل المدنية الفرعونية الدينية منذ قديم مقام العلم والتعليم مقام الكتاب والمعلم والمدرسة".

وقدمت لنا الدكتورة سهير بردية قديمة تعرف باسم "ورق سالييه"، قد حفظت لنا نصاً ممعنا في القدم يدل على منزلة الكتاب عند أجدادنا الفراعنة. جاء في البردية: "يقول – داووف بن خيتى، أحد حكماء قدماء المصريين، لابنه يوم صحبه إلى دار المدرسة لأول مرة – يا بني ضع قلبك وراء كتبك وأحببها كما تحب أمك، فليس هناك شيء تعلم منزلته على الكتب. واعلم يا بني أنه ما من طبقة من الناس إلا فوقها طبقة أخرى تحكمها إلا الحكيم فهو الوحيد الذي يحكم نفسه بنفسه".

ولعل هذا أقدم نص حفظه لنا التاريخ في تمجيد الكتاب والمعرفة ويدلنا على أهمية الثقافة والاعتراف بمقامها في المجتمع. كما دلنا هذا النص على علو كعب المصريين القدماء – أجدادنا – في حب العلم والمعرفة حتى وصل بهم الحال إلى توصية أبنائهم بالقراءة والتثقيف.

ولنتذكر جميعاً انه لما نزل الوحي المحمدي على نبينا الكريم في غار حراء كانت أول كلمة بين السماء والأرض بعد طول انقطاع "اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4)". وكأنما هذه الكلمات كانت تعبيراً سماوياً عن بلوغ الإنسانية من الرشد ما يجعلها أخيراً تعرف الطريق إلى حياة أفضل – الطريق إلى القراءة وإلى المعرفة وإلى العلم. إلا انه بلغ اجلال الإسلام للقراءة والكتاب والعلم أن الله تبارك وتعالى أقسم بالقلم في قوله: "ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ".

ولكن الجيل الجديد، وأقصد بالذكر هؤلاء الأطفال النُشأ الذين يقضون معظم اوقاتهم، ما بين اللعب ومشاهدة التلفاز واستخدام الهواتف النقالة، انهم مظلومون ويقتلون طفولتهم بأيدهم وتحت إشراف أولياء أمورهم. إننا بهذا الأمر نمحي المستقبل، بتدميرنا للحاضر.

إلا أنه في مطلع سنة 2020م شهر مارس، كان هناك وميض من الأمل نستطيع به ان ننتشل أبنائنا من هذا الخطر الحقيقي المحيط بهم، هذا الوميض هو "المشروع الوطنى للقراءة" بهدف تنمية الوعي بأهمية القراءة، وتمكين الأجيال من مفاتيح الابتكار. إذ تتمثل رسالته في إحداث نهضة في القراءة عبر جعلها أولوية لدى فئات المجتمع، ويسهم المشروع الوطني للقراءة في تصدر شبابنا وأطفالنا ثقافيًّا من خلال إثراء البيئة الثقافية، كما يؤسس إلى العناية بكتب الناشئة عبر إثراء المكتبات ورفع جودة المحتوى والإخراج، وتشجيع المؤسسات والمشاركات المجتمعية الداعمة للقراءة، عبر تقديم مشروعات ثقافية نموذجية مستدامة. وذلك وفق خطة عشرية تتوافق مع رؤية مصر 2030. اما عن اهداف هذا المشروع، يستهدف المشروع جميع فئات المجتمع من طلاب المدارس والمعاهد الأزهرية والجامعات، والمعلمين، والمؤسسات التربوية، والمجتمعية.

وختاماً، لدي بعض النصائح تبدأ أولى هذه النصائح بما قبل الزواج، وثاني هذه النصائح تتعلق بمرحلة الطفولة، وثالثها تتعلق بالمرحلة الانتقالية إلى التعليم العالي أو الجامعة، ورابعها تتعلق بالمرحلة الجامعية. اما المرحلة الأولى، فلابد على الأزواج والزوجات وهم يُجهزون لبيت الزوجية أن يضعوا مكتبة في البيت تحوي بعض الكتب المفيدة ذات قيمة علمية، يقرأون فيها من حين لآخر أمام أبنائِهم. وثاني هذه النصائح أُقدمها للأم وهي في مرحلة الطفولة، أرجوا من الأمهات في هذه المرحلة أن يتحسسوا جيدا افعالهم امام أبنائهم، ولا يتركوا أبنائهم طوال الوقت امام شاشات التلفاز أو غيرها من الوسائل البصرية. لأن هذا الفعل بشهادة الأطباء يؤثر بصورة سلبية على الأطفال ويمنعهم في هذه المرحلة من اكتساب اهم شيء وهو الوعي النظيف. لذلك أتمنى من كل أم أن تلتزم بعادة الحكي القصصي لأطفالها، وتجعلهم ينظرون في الكتب المصورة والمليئة بالصورة، وفي الصباح تجعلهم ينصتون لجهاز الراديو لنُنَمي لديهم ملكة التخيل والسمع، حتى نصل بهم لمرحلة القراءة وهنا نصل لأولى درجات السلم الثقافي المنشود الذي أتمنى ان اجيد عليه أطفالنا، طفل اليوم هو أب أو أم الغد، فكما ذكرت في مقال سابق – فلسفة التربية والتعليم كما يجب أنّ تكون – عن أهمية ما نتركه من أثر في أبنائنا، قائلاً: "أن زرعنا اليوم في أبنائنا واستثمارنا فيهم، هو حرسنا غداً، بمعنى ان ما نفعله مع أبنائنا اليوم هو درسهم غداً لأبنائهم، أبناء اليوم هم أولياء أمور الغد". وبهذا نستطيع ان نضمن نتاج مستقبلي رائع. الطفل القارئ اليوم، هو قائد الغد.

وثالث هذه النصائح يتعلق بالمرحلة الانتقالية إلى التعليم العالي أو الجامعة، علينا أن نُعلم ونُعطي لأبنائنا فرصه للتحاور والحديث، في الحياة الدنيا وفي أمور تربوية نستطيع من خللها أن نُشكل ونضبط الوعي الخاص بأبنائنا في هذه المرحلة الحرجة. ولابد لنا ان نضع في حسباننا أن القراءة هي أحد الأدوات الضابطة لهذه المرحلة. اما الرابعة تتعلق بالمرحلة الجامعية، وهي مرحلة في تقديري فاصلة بكل ما تحمله الكلمة من معنى، فبها أما ان تكون قادراً على ان تكون حاملاً لعلم ومعرفة بالإضافة لشهادتك الجامعية، أو تكتفي بشهادتك الجامعية، ولكن هنا تكون قد اضعت حقك في المعرفة بيدِك، هذه المعرفة ستكون مرآة لك تُعينك على فهم حاضرتك والتخطيط لمستقبلك، أي فيما هو قادم. إلا ونحن في صدد هذه المرحلة، يطرأ علينا سؤالاً، هل كل أنواع الكتب والمعارف تضمن لنا المعرفة الحقة؟ هل يوجد علم دون آخر أستطيع أن استثمر فيه وقت الفراغ، كي أخرج منه بمعرفة سليمة وصادقة؟ سيكون هذا هو موضوع مقالنا القادم.