الأربعاء 22 مايو 2024

دانيل إلزبرك: كم أصبعا يمكن أن يداعب الأزرار النووية؟

كتاب آلات الفناء

ثقافة8-8-2022 | 13:49

محمد الحمامصي

يعتبر المحلل العسكري السابق دانيل إلزبرك في طليعة المبلغين عن خطايا الحكومة الأمريكية، وسجل بفخر اعتزازه بالخروج عليھا وفضح أسرارھا التي تجمعت لديه من خلال عمله في دوائرھا ومؤسساتھا.

عرف بإصداره كتاب شھير بعنوان أوراق البنتاغون في عام 1971، و الذي طرح فيه أسرار وزارة الدفاع ووثائقھا، وتورط العسكر والسياسيين الأمريكيين في فيتنام اعتبارا من عام 1945 لغاية عام 1967، وبعده قرر إصدار كتاب ثان يخصصه لموضوع التخطيط لحرب نووية اعتمادا على وثائق ومذكرات ومستمسكات رسمية كثيرة تمكن من الحصول عليها نتيجة أشغاله بمراكز ھامة في البيت الأبيض، لكن هذا الإصدار تأخر صدوره ما يقارب من 50 عاما نتيجة ضياع هذه الوثائق والمذكرات والمستمسكات، وما أن تم رفع السرية عن معظم الوثائق التي ضاعت، بموجب قانون حرية الاطلاع على المعلومات شرع في كتابه هذا "آلات الفناء.. اعترافات مخطط أمريكي للحرب النووية" والذي ترجمه وقدم له أخيرا د. محمد جياد الأزرقي.

يتناول الكتاب الصادر عن الدار العربية للعلوم ناشرون، أخطر المنشآت العسكرية في تاريخ البشرية "الترسانة النووية الأمريكية" والتي تهدد بزوال الحضارة التي نعرفها في حال أُسيئ استخدامها من طرف الرئيس، حيث يكشف إلزبرك، ولأول مرة، عن روايته المباشرة الصادمة للبرنامج النووي الأمريكي في الستينيات.

من القواعد الجوية الأبعد في قيادة المحيط الهادئ، حيث اكتشف أن سلطة الشروع في استخدام الأسلحة النووية تم تفويضها على نطاق واسع، إلى الخطط السرية للحرب النووية العامة في عهد أيزنهاور، والتي إذا تم تنفيذها، كان من شأنها أن تتسبب في شبه انقراض للبشرية، يوضح أن إرث حشد الأسلحة الأكثر خطورة في تاريخ أمريكا - والتجديد المقترح لها في ظل إدارة ترامب - يهدد بقاءنا ذاته.

إن أحدا مطلعا آخر يتمتع بإمكانية وصول عالية المستوى للوثائق بهذه الصراحة عن الإستراتيجية النووية التي اتبعها أيزنهاور وأوائل سنوات كينيدي، ولم يتغير شيئا بشكل جذري منذ تلك الحقبة.

يقول إلزبرك إن "العناصر الأساسیة لاستعداد أمریكا لحرب نوویة تظل الیوم كما كانت علیه قبل 60 عاما تقریبا ستظل آلاف الرؤوس النوویة على أھبة الاستعداد للانطلاق متوجھة نحو القواعد العسكریة الروسیة، بما فیھا مواقع القیادة والسیطرة، وأغلبھا داخل المدن أو قربھا.

المنطق الرسمي المعلن لمنظومة الصواریخ ھذه ھو الافتراض بالحاجة إلى الردع أو الرّد على أیّة ھجمة عدوانیة روسیة ضّد الولایات المتحدة. ھذا المنطق السائد یقوم على الخداع. فردع ھجوم نووي مباغت یقوم به السوفیات، أو الرّد على مثل ھذا الھجوم ما كان إطلاقاً ھو الوحید أو الغرض الأساسي من خططنا النوویة دائما واستعداداتنا.

إن طبیعة ومستوى ومواقع قواتنا النوویة الاستراتیجیة، كانت دائما مرسومة وفق أغراض مغایرة تماما، وھي محاولة حصر الأضرار التي تصیب أمریكا جراء ھجمات روسیة انتقامیة لھجمات مباغتة من الجانب الأمریكي على الاتحاد السوفیاتي أو روسیا.

إن القدرات، بشكل خاص، تھدف إلى تقویة مصداقیة التھدیدات الأمریكیة للبدء بھجمات محدودة أو تصعیدھا. التھدید الأمریكي "بأخذ المبادرة للسیطرة على المناطق أساسا من خلال صراعات غیر نوویة ضّد قوات السوفیات أو الروس وحلفائھم".

ويضيف "تطلبت القدرات الاستراتیجیة للولایات المتحدة على الدوام، القیام بضربة أولى، بغض النظر عن القیادة والرئیس. تقوم الولایات المتحدة بضربة مباغتة دون أي استفزاز، وتكون أیضا ضربة قاضیة لا تتطلب ضربة "ثانیة" تحت أي ظرف، إذا لم یكن تحاشي القیام بضربة استباقیة.

ورغم أنه تم إنكار ذلك رسمیا، فإن ضربة استباقیة محدودة لغرض التحذیر، إما باستعمال تحذیر تكتیكي عن ضربة متوقعة أو تحذیر استراتیجي بأن تصعیدا ذریّا على وشك الوقوع، فإن كافة ھذه موجودة في جوھر تحذیراتنا الاستراتیجیة.

لقد وجه دونالد ترامب خلال حملة انتخابات الرئاسة لعام 2016 سؤالا إلى مستشار السياسة الخارجية حول الأسلحة النووية قائلا"إذا كنا نمتلك هذه الأسلحة فلماذا لا نستطيع استخدامها؟ الجواب الصحيح لقد قمنا بذلك.

في مخالفة للرأي السائد أنه "لم یُستعمل أي سلاح نووي منذ ِھروشيما ونَاجزاكي، فإن رؤساء أمریكا قد لجأوا إلى استعمال الأسلحة النوویة عدداً من المرات خلال بعض الأزمات، أكثرھا بشكل سري لم یطلع علیه الرأي العام الأمریكي، ولكن یعرفه الخصوم جیّداً وعلى علم به.

لقد استعملوھا بطرق دقیقة، حین وجھت الصواریخ نحو مكان معیّن، دون أن یُضغط على الزناد. أن یكون جھاز الإطلاق جاھزا دون الضغط على الزناد، فھو الھدف الرئیسي والمبرر لامتلاك ذلك الجھاز".

ويتابع إلزبرك "الأبعد من ذلك، أن الردع الموسع یغطي كافة الحلفاء في أوروپا والیابان، ویعتمد على جاھزیتنا والمحافظة على استعداداتنا لتنفیذ تھدیداتنا بالاستخدام الأول، بدءا بمبادرات الھجمات الذریة بالأسلحة التكتیكیة قصیرة المدى و/أو القیام بھجوم علني لإفشال الضربة الأولى على الأرض السوفیاتیة/ الروسیة، باستخدام صواریخ نوویة استراتیجیة بعیدة المدى رداً على ھجمات كبیرة غیر نوویة من قبَل قواتھا وقوات حلفائھا التقلیدیة. لقد كرر دونلد ترامپ، حین كان مرشحا للرئاسة عام 2016 عدم رغبته في رفع مبدأ الاستخدام الأول عن "طاولة الاختیارات" في أیّة مواجھة، بما فیھا مواجھة مع داعش أو في أوروپا.

كما أنه صرح بأنه سیكون "آخر من یستعمل السلاح النووي"، ما لم یكن طبعا ينوي الاستخدام الأول. سئل خلال نقاشات الحملة المذكورة عن الأسلحة النوویة وما یدور من الأقوال إن الرئیس أوباما كان ینوي تغییر سیاسة البلد بشأنھا، والتي كانت سائدة منذ وقت طویل، بمعنى تحویلھا من الضربة الأولى إلى الاستخدام الأول، فھل تؤید مثل ھذه السیاسة؟".

استمر یتحدث لمدة دقیقتین وذكر فیما ذكر "أطلب من الجمیع انھائھا، تخلصوا منها ولكنني بالتأكید لن أقدم على الضربة الأولى. إنني أعتقد أنه إذا اخترنا البديل النووي، فإن الأمر سینتھي. وفي نفس الوقت، یجب أن نكون على أھبة الاستعداد.

لن أرفع شیئاً عن طاولة الخیارات". وخلال خلال الدقیقتین المقررتین لرّد هيلاري كلينتون حاولت ألا تكرر كلمات ترمب حول "الطاولة" أو الإجابة عن السؤال سوى "تطمین الحلفاء... أن دفاعنا مشترك ولدینا معاھدات نلتزم بھا". لكنه لو تّم الضغط علیھا، لكانت وزیرة الخارجیة السابقة قد أعطت إجابة مشابھة لإجابة ترامپ، كما فعل في كافة المقابلات التي أجریت معھا.

إن معاھداتنا للدفاع المشترك لم تتطرق إلى حرمان الولایات المتحدة من الاستخدام الأول للسلاح النووي. وبّخت الوزیرة خلال حملة انتخابات الرئاسة لعام 2008، السناتور باراك أوباما لأنّه ذكربأنه لن یستعمل السلاح النووي ضّد پاكستان. قالت أنه یتوجب على كل رئیس ألا يذكر أنه سیستعمل أو لن یستعمل ھذا السلاح أو ذاك.

ويشير إلى أنه "في نفس الوقت ولغایة عام 2016، كان الرئیس أوباما تحت ضغط لیتراجع عن تصریحه حول سیاسة التعھد بعدم الاستعمال الأول، من قِبَل وزیر الدفاع ووزیر الخارجیة ووزیر الطاقة، إضافة إلى الدول الحلیفة، من الذین بانت آثار جھودھم ونصائحھم جلیة في سطور مقالة نشرت عام 2010 في مجلة الأوضاع النوویة  NPRوخلال آخر سنة من فترة حكمه، استمر في انتھاج سیاسة التھدید الممكنة للمبادرة بحرب نوویة، غیر معلنة على الرأي العام، والتي كانت سمة إدارة كل رئیس أمريكي، اعتبارا من فترة حكم ترومن.

لقد ورث الرئیس ترامپ تلك السیاسة، وأعاد تأكیدھا، كما استمر في نھج سیاسة رچرد نِكسن، التي أطلق علیھا اسم "نظریة الرجل المجنون"، التي ینظر إلیھا البعض بشيء من القلق، بأنها أكثر عقلانیة من بعض الذین سبقوه".

ويؤكد إلزبرك أن ھذه السیاسة شكلت تهديدا بھجوم نووي من قبل الولایات المتحدة على أیّة دولة قد تكون في صراع معھا، مثل كوریا الشمالیة.

إن ھذا الرفض المتكرر من قبَل الولایات المتحدة للالتزام بعدم اللجوء إلى الاستخدام الأول، كان دائما یحول دون التوصل للقیام بحملة فعالة للحّد من انتشار الأسلحة النوویة. وقد استمرت بعمل ذلك تحت إدارة ترامپ. في الحقیقة، إنها شجعت انتشار تلك الأسلحة في بلدان أملت الحصول علیھا لمواجھة تھدیدات أمریكا أو تقلید تلك التھدیدات وافتعالھا.

كما أن الجوانب الأخرى لسیاسة أمریكا النوویة قد أثمرت نفس النتائج، أي تعزیز الانتشار بشكل فعال.

وبطبیعة الحال، إن الإصرار في المحافظة على خزیننا من آلاف الصواریخ الذریة، العدید منھا على أھبة الاستعداد للانطلاق، بعد مرور ربع قرن ونحن في فترة ما بعد الحرب الباردة، یُلغي نصائحنا لبقیة دول العالم «إنها لیست بحاجة لھذا السلاح" ولیس ھناك مبرر لإنتاج صاروخ واحد".

ويرى أنه بالنسبة إلى ھجمات استراتیجیة أمریكیة مقصودة ومسموح بھا، فإن النظام الذري مصمم لیكون مستعداً للاستجابة لمدى واسع من الأحداث، أكثر مما یتصوره الرأي العام.

وأكثر من ذلك فإن الید المخولة للضغط على الزناد في القوة النوویة، ما كانت إطلاقا تحت سلطة الرئیس أو إرادته ولا حتى في ید أعلى المسؤولین العسكریین رتبة.

وكما اكتشفت من خلال بحوثي عن القیادة والسیطرة في أواخر الخمسینات، أن الرئیس أیزنھاور قد خول تلك الصلاحیة بشكل سري للمبادرة بشن ھجمات نوویة، إلى الضباط في مسرح العملیات تحت ظروف معینة.

منھا انقطاع الاتصالات مع واشنطن، وھو أمر یحدث یومیا خلال عملیات المحیط الھادئ، أو في حالة عج الرئیس، وھو أمر حدث للرئیس أیزنھاور مرتین خلال فترة رئاسته، أو تحت ظروف أزمة مشابھة، حین یتولى القادة التابعون تلك المھام.

ولشدة دهشتي أنني بعد أن نبھت البیت الأبیض خلال إدارة كينَدي، وبدلاً من الرجوع عن "قرارات القائد الأعلى" الذي سبقه، فعل كينَدي ذلك أيضا ومثله الرؤساء جونسون ونكسون وكارتر. وتبعھم بالتأكید كل رئیس آخر حتى ھذا الیوم، رغم أن الحقب السابقة قد شھدت بعض الصلاحیة لقلة من المدنیین خارج واشنطن، واعتبر هذا التفويض سرا وطنيا بالغ المستوى والأهمية.

 

ويلفت إلزبرك إلى أن ھناك سببا عاجلا لتنویر الرأي العالمي حول ھذه الحقیقة التي تخص العصر النووي، وھي أنه من الناحیة الافتراضیة، ھذا التفویض السري المتماثل موجود داخل كل بلد نووي، بما فیه البلدان النوویة الجدیدة وھي إسرائیل والھند وپاکستان وكوريا الشمالية.

كم أصبعا یمكن أن یداعب الأزرار النوویة في پاكستان؟

ربما حتى الرئیس الپاكستاني نفسه لا یعرف ذلك بشكل مؤكد. وفي نفس الوقت تسربت تقاریر إلى الإعلام الأمریكي خلال العامین 2016 و2017، فحواھا أن الخطط الطارئة والتدریبات تھدف أساسا إلى قطع رأس قیادة كوریا الشمالیة وھیكل بنیتھا السیاسیة والعسكریة.

سیكون لھذا تأثیر في ذلك البلد لخلق "نظام الید المیتة" على غرار ما وجد منذ أیام السوفیات، بغیة التأكد من شن الغارات الانتقامیة في حالة تعرض البلد إلى أیّة ھجمات نوویة.

ويكشف أن أي نظام نووي استراتیجي يكون عرضة للإنذارات الكاذبة والحوادث وإطلاق الصواریخ دون تفویض، وھذه أمور لا یعرفھا الرأي العام، ولا حتى أغلب المسؤولین الكبار.

كان ھذا محور تركیزي على التحقیقات السریة بین الأعوام 1958 ـ 1961. أكدت الدراسات، التي أجریت عقب ذلك التاریخ، الإصرار على وجود تلك المخاطر.

ھناك احتمال أن النظام قد ینطلق "عن طریق الخطأ" أو عدم وجود تفویض خلال الأزمة، إضافة إلى احتمال التنفیذ المتعمد للتھدید النووي، الذي سیدمر النظام نفسه ومعه العالم بأكمله.

وهذه دائما مجازفة غیر معقولة تفرضھا الدول الكبرى على سكان المعمورة إن مثل ھذه المخاطر الكارثیة المتوقعة قد أخفیت عن الأنظار كي لا یطلع علیھا الرأي العام.

لقد تعلمت عام 1961، باعتباري داخل الحلقة، أن عملیة اتخاذ القرارات النوویة والسیاسات والخطط والتدریبات لحرب نوویة عامة، معرضة للخطر، حسب تقدیرات رئاسة الأركان المشتركة، حین أشارت إلى فناء مئات الملایین من البشر، ربّما ثلث مجموع سكان العالم.

الذي لم نعرفه في حینه ولم یعرفه أعضاء ھیئة رئاسة الأركان ولا الرئیس ولا مستشاروه للشؤون العلمیة، ولا أي أحد آخر لغایة مرور حقبتین أي حتى عام 1983، ھما مسألتي الشتاء النووي والمجاعة النوویة.

وھذا یعني أن الحرب النوویة الكبرى، التي أعددنا لھا العدة في حینه أو بعد ذلك، ستقتل كافة البشر على سطح الأرض، ومعھم معظم الكائنات كبیرة الحجم.

ويشدد إلزبرك أن التقدیرات العلمیة الحدیثة تؤكد وتزید من قوة التحذیرات السابقة قبل حوالي 30 عاما، بأن جزءا قليلا مما تبقى من ترسانة الأسلحة النوویة لدى الطرفین كاف لإحداث شتاء نووي الیوم، بناء على أسس الخطط القائمة، التي تستھدف مراكز القیادة والسیطرة والأھداف الأخرى في داخل المدن أو قربھا.

بعبارة أخرى، إن إقدام أي من الجانبین على تنفیذ الضربة الأولى باستعمال ھجوم أصغر مما خطط له في الستینات والسبعینات، والذي ما زال جاھزاً للتنفیذ من قبَل روسیا أو أمریكا، سیؤدي إلى الموت الناجم عن حجب ضوء الشمس وحرارتھا، وما یترتب علیھما من حدوث مجاعة وانتشارھا بین البشر في كافة أنحاء المعمورة، والذین یبلغ عددھم 7 بلایین إنسان.

سوف لن یكون ھناك مجال لحصر الأضرار في جانب الدولة المھاجمة أو حتى حلفائھا، ولا بین سكان العدو أو سكان البلدان المحایدة حول العالم نتیجة للضربة الأولى قبل شن الھجمة الثانیة، حتى وإن لم تحصل ھجمات انتقامیة، أو حتى لشن ھجمة استباقیة للقضاء على ترسانة الطرف الآخر ومنشأته قضاء مبرما. بعبارة أخرى تنفيذ أية مھام مناطة بالسلاح الذي صمم أصلا ليقوم بها. الخراب الذي یصیبھا ویصیب الآخرین نتیجة للضربة الأولى سیكون غیر محدود.