انتهينا في مقالنا السابق الذي حمل عنوان "الفلسفة علم قراءة الحياة"، أن معظم المشكلات التي تواجهنا اليوم في حياتنا هي فصل العاطفة عن العقل. كثيرا منا يُغلب عاطفة على عقله، أي يتبع هوى القلب على ما يمليه عليه عقله. قياس الأمور بالعقل هو أمثل قياس وهو ما يصل بنا إلى نتائج عظيمة. فما بلك وما ظنك عزيزي القارئ، أن الفلسفة تستطيع أن تأخذ بأيدينا فيما يواجهنا من منعطفات الحياة المختلفة، ولكن شرط هذا ان نستخدم عقلنا في التفكير فلسفياً. وأنهينا حديثنا بتساؤل، هل يمكن ان يتشابه الرأيان، أو كيف يمكننا ان نُفرق بين هوى القلب وما يمليه علينا العقل؟ يتطلب منا الإجابة عن هذا السؤال أن نُبين وجه جديد للفلسفة، هو في حقيقة الأمر ليس جديد بالمعنى الدقيق للكلمة، ولكن جديد على مسامع البعض، إلا انه يضرب بجذوره في الفلسفة منذ بدايتها أي مُنذُ بداية التفكير اليوناني، هذا الوجه هو الِاسْتِشَارَة الْفَلْسَفِيَّة. لذلك نبين من خلال مقالنا هذا، ما تعنى الاستشارة الفلسفية أو العلاج الفلسفي؟ وهل يوجد فرق بين العلاج الفلسفي والعلاج النفسي أو بين الاستثارة الفلسفية والاستشارة النفسية؟ ومن هو المستشار الفلسفي؟
ولكن قبل أن نبدأ الإجابة عن هذه التساؤلات، سأبدأ حديثي بعبارات موجزة نصف بها الدور الحقيقي والمُستهدف من الفلسفة. وخير ما نستدن إليه في هذا الصدد ما وصل إليه "ريكمان" أثناء وضعه منهج للدراسات الفلسفية قائلاً: "الواجب العام للفلسفة يتمثل في بناء أنماط تصورية تفسر الخبرة وتوضحها، وأن التحليل الدقيق يجب أن يسبق ذلك البناء وأن يكون متضمناً من ثم في كل تفلسف. نحن نُحلل التصورات لكي نكتشف معانيها، ونبحثها لكي نقف على صحتها، ونُدرك أبعادها".
كما أن الفلسفة يجب أن تستمر في دورها الرائد في مجال الأفكار، ولا يجب أن يُتهم الفيلسوف بأنه يقعد منتظراً أفكار واقتراحات الآخرين التي إن قُدمت إليه فإنه يقوم عندئذ إما بنقدها وإما بتوضيحها. لذلك فإن إسهام الفيلسوف ليس نوعاً من الوحي.. إن على الفيلسوف أن يتعلم أولاً مما يفعله الباحث، وعليه أن يدرك مشكلته، وبعد ذلك يكون قادراً بمهاراته الخاصة على بيان أن لفلسفته فائدة عملية. وهذا يعني ضرورة أن تكون معالجة الفيلسوف منصبة على المشاكل الواقعية المستقاة من الحياة اليومية.
إن الفلسفة بهذا المعنى "فن العقل" وعن الفيلسوف "فنان العقل"، شرط أن نفهم "الفن" بالمعنى الدقيق للكملة، فهي الأداة أو الوسيلة التي تُشييد منظومة متكاملة من المقولات والمفاهيم. الفلسفة هي الميل الطبيعي والروحي نحو التحلي بالحكمة، أما الفيلسوف هو "مُحب الحكمة". وبذلك نجد أن مهمة الفلسفة هي إرساء علاقة بين كل أنماط المعارف والنهايات الجوهرية للعقل البشري. وهذا ما أكده لنا الأكاديمي الفرنسي بيير هادو، قائلاً: "الفلسفة بالمعنى العريق للكلمة، ليس بناء منظومة مفهومية، بل هي طريقة في العيش".
كما قدم لنا الأكاديمي والعالم النفسي الألماني إريك فروم، تصوراً عن المجتمع السليم في ضوء معيار الصحة العقلية اللازمة، قائلاً: "أن المجتمع قد يكون سليماً وقد يكون مريضاً، وأن لذلك مقاييس محدودة معروفة، تحتم علينا أن نؤمن بأن لمشكلة الوجود الإنساني، أو غربة الإنسان في الكون، ووحشته في الوجود، وشذوذه بسيكولوجيته الخاصة عن كافة الكائنات، تحتم علينا أن نؤمن بأن هذه المشكلة حولاً صائبة وأخرى خاطئة، حلولا تفي بحاجات النفس وأخرى لا تفي بها. وتتحقق الصحة العقلية إذا تطور الإنسان إلى أقصى حدود الرشد طبقاً لمميزات الطبيعة البشرية وقوانينها. ويصاب الإنسان بالمرض العقلي إذا عجز عن تحقيق هذا التطور. ومعيار الصحة العقلية على هذا الأساس لا يكون في التوفيق بين الفرد ونظام اجتماعي معين، وإنما هو معيار عالمي، ينطبق على الناس أجمعين، وهو الاهتداء إلى حل مرضً لمشكلة الوجود الإنساني، يكفل للمجتمع الإنساني انسجامه مع الطبيعة، ويبعد القلق عن النفوس، ويردها إلى الاتصال بالطبيعة التي انفصلت عنها، فيبعث فيها الطمأنينة والارتياح".
وأستطيع بإيجاز – عزيزي القارئ – أن أقول إن فكرة الصحة العقلية تصدر عن ظروف الوجود البشري ذاتها، وهي هي بعينها في كل العصور وكل الثقافات. وتتميز صحة العقل بالقدرة على الحب وعلى الإنشاء، وبالتخلص من الارتباط بالقبيلة والأرض ارتباطاً أموياً، وبالإحساس بالذاتية الذي يقوم على أساس إحساس المرء بذاته باعتبارها أداته في استغلال قواه، وبإدراك الواقع داخل النفوس وخارجها، أي بتقدم العقل والنظرة الموضوعية. والسؤال الآن، كيف يمكننا أن نصل – بحسب قول إريك فروم – لهذا المجتمع ذو الصحة العقلية، أملاً في تحقيق الانسجام المنشود بين الإنسان والبيئة من حوله؟
إن أي نظام اجتماعي أو سياسي لا يعدو أثره أن يُعزز أو يعوق قيماً ومثلاً عليا معينة قائمة فعلاً بين أفراد المجتمع. إن المثل العليا التي تُنادي بها الأديان السماوية – الدين الإسلامي والدين المسيحي والدين اليهودي – لا يمكن أن تتحول إلى حقائق واقعية في مدينة مادية، بناؤها يدور حول الإنتاج والاستهلاك والنجاح في السوق. ولا يمكن من ناحية أخرى للاشتراكية الصحيحة أن تُحقق أهداف الأخوة والعدالة والفردية، ما لم تكن الطريقة السائدة بين أفراد المجتمع قادرة على هضم هذه الأهداف وقبولها. ولن يستطيع أن يصل أي مجتمع مهما بلغ من درجة الغنى والتقدم – حتى هذه المرحلة تتطلب التفكير فلسفياً – إلى هذه المرحلة من الفهم الصحيح والسليم، دون الاعتماد على الفلسفة. وهنا نصل إلى الدور الحقيقي للفلسفة، والسؤال الآن، هل يمكننا هذا الدور من العيش في الحياة بشكل أهدى وأنقى؟ بالطبع نعم، نستطيع أن تكون لنا الفلسفة خير معين لنا في هذه الحياة، ولكن في ضوء تطبيق فعلي لها وهو الِاسْتِشَارَة الْفَلْسَفِيَّة.
إن الاستشارة الفلسفية هي التطبيق الفعلي لممارسة الفلسفة في الحياة، وذلك من خلال علاقتها بمشكلات الحياة اليومية، وكأداة مهمة لمساعدة الفرد على إضفاء معنى على وجوده في الحياة. وهذا ما وصلنا عن الأكاديمية الألماني أشينباخ نقله لنا نقله لنا الدكتور سامح طنطاوي.
كما قدم لنا ران لاهاف الأكاديمي أمريكي مفهوم مُبسط للاستشارة الفلسفية، في ثلاث نقاط موجزة، ما الحياة إلا عمليةُ تفسيرٍ لأنفسِنا وللعالم (تأويل رؤية العالم)، الاستشارة الفلسفية تقدم بيئةً منضبطةً وموجهة للانخراط في تأويل أنفسنا وتأويل العالم، إذن الاستشارة الفلسفية تقدم عوناً في الحياة.
ولكل عزيزي القارئ، ان تعلم ان العلاج الفلسفي ليس شيئاً مُستحدثاً، ولكنه قديم قدم الفلسفة، فنجد بدايته مُنذُ بداية الفكر اليوناني، حيث اُثير لأول مرة في الفكر القديم، هذا العلاج منذ القرن 300ق.م، واخص بالذكر ما قامت به المدرستان الابيقورية والرواقية – وهما مدرستان فلسفيتان نشأت بعد موت الإسكندر الأكبر – الابيقورية كالرواقية فلسفة عمل، سعت مثلها إلى نجاة الإنسان وتمكينه من بلوغ السكينة (الاتراكسيا)، انطلاقاً من مبدأ "العيش في وفاق مع الطبيعة" الطبيعة المشتركة كلها: طبيعة الإنسان، وطبيعة العالم اجمع، الطبيعة التي كل ما فيها، حسب الابيقورية يتكون وينحل تبعاً لاجتماع وافتراق ذرات لا يعنيهما شيء.
والشيء بالشيء يُذكر، ان هاتان الفلسفتان نشأت في خضم أزمة سياسية، وفكرية – أقصد هنا الأجواء السياسية التي لازمت المواطنين في الفترة التي تلت موت الإسكندر الأكبر – وبما أخلاقية أيضاً، وتطوعتا لتقدما حلاً يأخذ بأيدي المواطنين وسط هذه الأجواء حتى توفر للإنسان النجاة. وانطلاقا من أساس مشترك: "وفاق الإنسان مع الطبيعة"، ويُقصد بالطبيعة هنا، طبيعة الإنسان، وطبيعة العالم الذي يعيش فيه، وذلك بتمكينه من بلوغ السكينة والطمأنينة (الأتراكسيا) وسط البلبلة السياسية، والفكرية، وجنون الاهواء.
كما أن كلتاهما تخاطبان "إنسان الحياة اليومية"، وترسمان له سبل الخلاص من أوصاب المجتمع، وان اختلفتا أسلوباً ووسائل إلى درجة التناقض. بهذا يتصالح الإنسان مع الطبيعة، وينعم الإنسان بالسكينة كإله بين البشر، لأن من يعيش وسط الخيرات الخالدة، لا يشابه الكائن الفاني في شيء".
وفي كلمة واحدة، نستطيع أن نُجزم بأن هاتان الفلسفتان استطاعا ان يقدما حلاً جزرياً وفعال لمصالحة الإنسان مع الطبيعة. والسؤال الآن، أين نحن من هذا الفكر الذي نطلق عليه بمنتهى الغطرسة والتعالي انه فكر قديم؟ ما هو تصرفنا ونحن أوشكنا على نهاية القرن الواحد والعشرون، وما زلنا نواجه مشكلات على مختلف الأصعدة وليس بأماكننا ان نضع لها حلولاً جزرية وفعاله؟
وخير ما نستند إليه هنا قول الفيلسوف ابيقور – مؤسس الفلسفة الابيقورية – قائلاً: "خاوية هي حجة الفيلسوف التي لا تُداوي أي سقام بشري (أي التي لا تُخفف أي شقاء بشري)، فكما أنه لا خير في الطب إذا لم يُزِل أسقام البدن، كذلك لا خير في الفلسفة إذا لم تُزِل سقم الروح".
ولننتقل الآن للإجابة عن السؤال الثاني الذي أثرناه في البداية وهو، وهل يوجد فرق بين العلاج الفلسفي والعلاج النفسي أو بين الاستثارة الفلسفية والاستشارة النفسية؟
بالطبع قارئ الكريم، هناك فرق كبير جداً بين العلاج الفلسفي والعلاج النفسي، أو بين الطب الفلسفي والطب النفسي، هذا الفرق من الممكن ان نصفه كالفرق بين السماء والأرض. ولنبدأ بالطب النفسي، إن الطب النفسي الذي يميل منهجه ومذهبه معاً لدراسة الإنسان كوحدة من جسم وعقل ومجتمع، وهو الذي هدى الطب إلى هذه النظرة الموحدة إلى الصحة والمرض على السواء، فالطب النفسي هو الذي بين كيف يؤثر الانفعال في الوظائف الفسيولوجية للبدن تأثيراً قد يؤدي إذا امتد به الزمن إلى تغييرات عضوية ذات شأن خطير.
أما العلاج الفلسفي أو الطب الفلسفي، هو لون من ألوان التفكير، وهو ذلك الهدوء العقلي في التفكير. ويمكننا من خلاله ألا نصل للعلاج النفسي أو اتقاء ذلك العلاج نهائياً. يحضرني هنا، مشهد سينمائي للفنان احمد زكي من فيلم "البيضة والحجر"، المشهد الذي يجمعه مع الممثلة معالي زايد، وعند سؤلها لأحد زكي عن كثرة الكتب التي توجد في حجرته، أجابها قائلاً: "اصلي بحضر رسالة دكتوراة في الفلسفة" ارتعش جسدها وقالت له إيه هي الفلسفة دي، يعني الوجع بتعها بيجي فين، أجابها في الدماغ عدل". إن بداية المرض النفسي ببساطة هي أن يكون الإنسان غير قادراً على مواجهة مشكلاته أو الوقوف على قرار مناسب لنفسه. أما الفلسفة تمكننا من عدم الوصل إلى هذه الحالة، شرط ان نستخدم التفكير الهادئ والتروي في اتخاذ القرارات.
ونصل هنا إلى تساؤلنا الأخير، وهو من هو الذي في استطاعتنا أن نلجأ إليه طلباً للاستشارة والمشورة، وفي كلمة واحدة، من هو المستشار الفلسفي؟
قدم لنا الأكاديمي الفرنسي بيتر ب رابه، في عبارات موجزة ودقيقة من هو المستشار الفلسفي، وما هي آلية عمله. المستشار الفلسفي هو خبير في تأويل رؤية العالم، يكشف التناقضات في رؤية العالم الخاصة بالمُعَالجَ (الإنسان صاحب الاستشارة)، وهو يُساعده على أن يفسر رؤيته للعالم بأسن يُساعده في فحص، وتغيير، تصورات سلبية معينة مسببة أو مسئولة (مع غيرها) عن مشكلاته ومحنه. والمستشار الفلسفي أيضاً يُساعد المُعَالجَ على كشف اللثام (أي القناع) عن شتى المعاني التي تتجلى في طريقة حياته، ويساعده على الإفصاح عن الجوانب الإشكالية التي يتبين أنها أصل محنته وتناولها بالفحص النقدي؛ الأمر الذي يحفزه على التغيير، ويساعده على إعادة تشييد رؤية للعالم أقوم وأكثر ثراءً وإيجابية.
وفي الختام، وخلاصة ما أود أن أقوله من هذا الاستعراض هو، لابد وان يتوازى مع التفكير الفلسفي، التفكير النقدي. لابد على دارس الفلسفة أو قارئ الفلسفة، أن تؤسس له القراءة الفلسفية نمطاً فكرياً جديداً بداخلة وهو، التفكير النقدي. والسؤال الآن، ما هي أوجه الشبه بين الفلسفة والنقد؟ نستطيع أن نلمس التشابه بين العلمية النقدية والعلمية الفلسفية، أو طبيعة العمل النقدي والعمل الفلسفي، فهما يلتقيان في أنهما يتجاوزان السطح ويتجهان إلى العمق، بحثاً عن الجذور المستنبطة في الظاهر الذي تراه العيون. فالسؤال الفلسفي إذن وثيق الصلة بما يعيشه الناس من مشكلات. انه غير مفروض على الناس، بل هو نابع منهم، ومشتق مما تضطرب به أفئدتهم. وبعبارة أخرى، انه غير منتزع من فرغ.
أضف إلى ذلك عزيزي القارئ، هناك فرق شاسع، بين الفلسفة ذاتها والخطاب الفلسفي، اما الخطاب الفلسفي، هي مباحث الفلسفة الثالثة وهي: الطبيعة والأخلاق والمنطق. أما ما نقصده بالفلسفة ذاتها، أي الطريقة الفلسفية في العيش، أي في فعل واحد موجود مؤداه أن نعيش المنطق ونعيش الفيزياء، ونعيش الأخلاق.
كان هذا هو المقال الثالث والأخير حول الفلسفة، أردنا من أجزائه الثلاثة أن نُصحح علاقتنا مع الفلسفة، لكي نستطيع أن نتخذها أداة لنا، تُعيننا على مواجه المشكلات اليومية.