بناء الشخصية السوية، أو المواطن الصالح.. منظومة متكاملة تتضافر فيها جميع مؤسسات الوطن.. من أسرة إلى مدرسة إلى جامعة.. إلى مسجد وكنيسة إلى قنوات وثقافة إلى رياضة.. إلى فكر ونخب ومثقفين.. فعلى مدار خمسة عقود ماضية وصولاً إلى زوال عهد الإخوان المجرمين، غابت الدولة عن هذا البناء.. وانسحبت وتركت التدنى يستشرى.. والتطرف والتشدد ينتشر، ولم تكن لديها رؤية لمواجهة هذه التحديات.. فاستباح المتاجرون والاستهلاكيون والمتطرفون والانتهازيون عقل ووجدان المواطن، فغاب الوعى عن قطاع غير قليل وتسطح وجدان الكثير، فأفرزت هذه العقود ظواهر وسلوكيات وانحرافات وهبوطاً وتدنياً وابتذالاً وطفت على السطح بعض النماذج التى تتخذ من الانحراف طريقاً فى مجالات عديدة.. من هنا علينا تشخيص ما حدث وجرى خلال 40 أو 50 عاماً.. لنضع رؤية العلاج والإصلاح.. ومصر بدأت بالفعل لكن ميراث الماضى ثقيل والتحديات كثيرة.
تعرضت الشخصية المصرية لهزات وتحديات عنيفة خلال العقود الماضية، ولم نحسن استغلال الروح المصرية المتوهجة التى تجلت خلال حرب وانتصار أكتوبر العظيم فى البناء عليها ودعم مقوماتها بالشكل الصحيح ولكننا افسحنا المجال للاستهلاكية فى كل ما يتعرض له المصريون ويدخل عقولهم وأنماط سلوكياتهم ويشكل وجدانهم، سواء من فنون وثقافة وتعليم وتربية وخطاب دينى اطلق العنان للفكر المتطرف والمتشدد وبالتالى الإرهاب والعنف وأيضاً الذاتية واختفاء الإيثار والتجرد وإنكار الذات إلى حد ليس بالقليل ثم «الانمالية»، والاتكالية، وغياب الرؤية لبناء الإنسان المتكامل تعليمياً وثقافياً وفنياً وصحياً لذلك أفرزت هذه المرحلة وعمرها تقريباً خمسة عقود ظواهر مجتمعية غريبة وشاذة فى ظل حالة الفراغ التى سمحت بنفاذ ثقافات وأفكار مستوردة لا تتواكب مع منظومة القيم، ومكونات الشخصية المصرية، فأخذنا من التطور والتقدم مظاهره الاستهلاكية، ولم نتبن أسبابه أو بما يناسب الحالة والنموذج المصرى.
تأثر الشخصية المصرية بهذه الأسباب وظهور قدر غير قليل من الشخصيات غير السوية هو نتاج ومحصلة ما شهدته هذه العقود انتهاء بعام 2011 ثم عزل نظام الإخوان الإرهابى، لتبدأ الدولة المصرية وتأخذ على عاتقها رؤية استعادة وبناء الشخصية المصرية، وتتحمل ما أفرزته الخمسة عقود الماضية، لكنها فى نفس الوقت وفى ظل تداعيات هذه العقود تتحمل عواقبها ومظاهرها السلبية.
الحديث عما جرى فى العقود الخمسة الماضية حديث طويل لكنه يحتاج إلى تضافر المفكرين والمثقفين وخبراء التعليم والاجتماع والنفس ورموز الفن والإبداع لتشخيص الحالة التى أفرزتها الخمسة عقود وأسبابها وكيفية الخلاص من مظاهرها، وكيفية استعادة مقومات الشخصية المصرية السوية التى لم تعرف سوى التسامح والاحتواء والحب والطيبة والولاء والانتماء والصبر والقدرة على التحمل وهو ما تجلى فى فترات الحروب والنضال الوطنى من أجل استعادة مصر وترابها.
التنقيب فى حقبة وبئر العقود الخمسة سيكشف لنا بوضوح حقيقة ما جرى وكيف وصلت الشخصية المصرية إلى بعض المظاهر السلبية التى لم تعرفها طيلة التاريخ، من تطرف وإرهاب وتشدد وعنف و«غلظة» وتزييف للوعى، ونجاح أعداء الوطن فى إيصال عدد غير قليل من المصريين إلى مرحلة «التنوير الهدام»، والتجرؤ على قدسية سلامة الوطن، أو الذهاب به إلى آتون الخطر والمغامرات.
الشخصية السوية التى لم يعرف المصريون غيرها على مدار التاريخ، وشهدت من الإبداع والتفوق والنضال والتضحيات والانتصارات تحتاج منا إلى عمل خلاق، ورؤى علمية تضع يدها على الداء الذى أصاب قطاعاً من المواطنين بمظاهر وسلوكيات وثقافات غريبة وشاذة تخالف طبيعة ومقومات ومكونات الشخصية المصرية، والحقيقة أن الرئيس عبدالفتاح السيسى طالب الجميع نخباً ومفكرين ومثقفين ورجال دين وكتاباً وأزهر وكنيسة وتعليماً بالعمل على ترسيخ الشخصية السوية.
التمحيص فى دهاليز الأفكار والثقافات والفنون التى قدمت للمصريين فى العقود الخمسة يسوقنا بطبيعة الحال إلى حقيقة ما جرى وما يحدث من البعض الآن ومنذ يناير 2011 وأرى أن هذه الدراسة، والحرص على البحث والتحليل تمثل لى مرحلة التشخيص الدقيق لحالة الانسحاب التى كانت عليها دولة الخمسة عقود الماضية وتجاهلها البناء الفكرى والقيمى والثقافى والفنى والتعليمى للشخصية المصرية.. وبتحديد الأسباب التى أدت إلى هذه الحالة، يمكن البناء عليها والاستفادة منها فى وضع رؤية وروشتة العلاج والإصلاح والتى هى مهمة دولة بناء الإنسان الحالية.. وأرى أن هذه النقاط مهمة فى وضع الرؤية.
أولاً: اتجاه الدولة إلى الانفتاح عقب انتصار أكتوبر العظيم واتفاق السلام لم يكن محسوباً بشكل دقيق، ولم يكن واعياً بتداعيات هذا الانفتاح رغم أنه فى اعتقادى كان مهماً لكنه تجاهل المخاطر الفكرية والثقافية والفنية والسلوكية فلم توجد الدولة آنذاك بدائل للمواطن عن الثقافات المستوردة التى أفرزها الانفتاح ولم تملك الرؤية للحفاظ على الهوية والشخصية المصرية، فتمادت فى الاستهلاكية وانعكست لغة التجارة والمكسب والخسارة على السلوك والوجدان.
ثانياً: تراجع دور المؤسسات الدينية فى تقديم خطاب يواكب تحديات العصر، دون تغيير أو مساس بالثوابت واحد من أهم الأسباب التى أدت إلى تنامى الفكر المتطرف والمتشدد والمغالاة وبالتالى العنف والإرهاب، وتجاهل الدولة فى بعض الوقت للتعامل الفكرى لهذه الظاهرة وعدم اقتصارها على الجانب الأمنى المهم أيضاً عدم الوصول إلى رؤية أو خطاب يتصدى لخطابات الجماعات المتطرفة والمتشددة التى أعلنت وكشفت بوضوح عن توجهاتها الإرهابية، وانتشرت هذه الجماعات تلتهم شبابنا فى القرى والنجوع والجامعات ومراكز الشباب وفى النقابات فى ظل استسلام من مؤسسات الدولة وكأن هناك اتفاقاً وهو ما ارتد إلى وجه الدولة ذاتها فى يناير 2011.
ثالثاً: أدى تفاقم الزيادة السكانية وزيادة النمو السكانى على قدرات وموارد الدولة إلى حالة من العجز فى مواجهة هذا الحمل الجسيم، فانتشرت العشوائيات وانهارت الخدمات الصحية والتعليمية وارتفعت كثافات الفصول، وأدى عدم تطوير القطاع التعليمى ومواكبته لتحديات العصر الجديدة إلى تحويل التعليم إلى مجرد الحصول على شهادة ورقية لا تعكس مستوى وقدرات أصحابها أو نجاح وفشل العملية التعليمية فى تحقيق أهدافها.
الزيادة السكانية لم تمكن الدولة من أداء واجباتها التى تتسق مع قدراتها بسبب الخلل فى النمو السكانى والموارد.. وهو ما أدى إلى تراجع كل ما هو مقدم للمواطن، بالإضافة إلى أن ثقافة الزحام والاختناق والتكدس والعشوائية، انعكست على السلوكيات ومفردات الأحاديث والتعاملات وأصبحت تشكل بؤراً لضيق الصدر ورد الفعل العنيف.. ناهيك عن الأخطر من إجرام وإرهاب.
هل وصلت دولة الخمسة عقود انتهاء بزوال عهد ونظام الإخوان الفاشى فى مرحلة ما قبل يناير 2011 إلى حالة الطناش أو الاستسلام أو الفاقة أو العجز، ثم ذهبت مع انطلاق أحداث يناير إلى مرحلة منهجية الهدم والتدمير ثم واصل الإخوان تنفيذ نفس المخطط؟.. السؤال المهم أيضاً.. ما هو حال الأجيال التى شاركت فى أحداث يناير 2011، ألم تكن نتاجاً للمرحلة أو العقود التى سبقتها من التسطيح والاستهلاكية، وغياب الوعى، وسطحية الوجدان، وفقدان العمق والفهم الصحيح حتى لمفهوم التغيير، حتى بات المواطن لقمة سائغة وفريسة سهلة الانقياد إلى الهدم والتدمير والتخريب.
والسؤال المهم أيضاً.. ما هو حال الأطفال فى عمر الخمس سنوات إلى 10 و11 عاماً، الذين عاصروا أحداث يناير وحكم الإخوان المجرمين، وما ارتكبوه من عنف وقتل وسفك للدماء واستباحة لحرمات الوطن.. كيف كان هؤلاء الأطفال فى ظل الفوضى والانفلات الأمنى.. ومشاهد التخريب والحرق والسرقة والنهب والرعب والفزع.. هل تأثروا، وماذا عن أعمارهم الآن.. اعتقد أنهم شباب فى الجامعات أو تخرجوا فيها ويشكلون قاعدة عريضة.
الحقيقة أن الشخصية السوية نتاج ومحصلة جهود كبيرة وخلاقة، وحالة من الأمن والاستقرار والبناء والتنمية، والبناء الإنسانى المتكامل فيما يتعاطاه الإنسان من أفكار و ثقافات وطرق تربية وخطاب دينى تقوم به المؤسسات الدينية فى مصر والمؤسسة الثقافية والتعليمية، وحالة النخب ومدى العمق والوعى والإدراك الوطنى لما يحتاجه الشباب من مختلف الأجيال، وهل تم إدراك «خطورة» حالة الانفتاح غير المسبوقة فى التعرض للأفكار والثقافات الغربية وماذا قدمنا للتصدى والحفاظ على الهوية.. وأيضاً ما يتلقاه من خدمات ورعاية وتلبية طموحات وتطلعات وحياة كريمة ومساواة وعدالة وشفافية، فى اعتقادى أن الأغلب من هذه المقومات والركائز لبناء الشخصية السوية كان غائباً من رؤية وعقل دولة العقود التى انتهت بزوال حكم الإخوان المجرمين فجميع ما ضخ فى عقل المواطن هو الشر والزيف ذاته.
رابعاً: تعرضت منظومة القيم المصرية لانتكاسة غير مسبوقة، فى ظل ما يقدم من فنون تسىء للشخصية المصرية، والدولة أيضاً، وتقدم إسفافاً وابتذالاً وتردياً وتسطحاً وتجارية مقيتة، واستهلاكية فى ترويج إثارة الغرائز والعرى والمشاهد الرخيصة، والمبالغة فى العنف والمخدرات والبلطجة، فها هى وصلت إلى درجة «الانحراف الفنى» وشهدنا أفلاماً تسوق الإجرام مثل «عبده موتة والألمانى وإبراهيم الأبيض» ثم أفلاماً تسىء للمجتمع والوطن مثل «دكان شحاتة وحين ميسرة» وأفلاماً تروج للخلاعة مثل موجة أفلام إيناس الدغيدى ناهيك عن الهبوط والتدنى الغنائى مثل أغانى المهرجانات والزار واهتزاز الأجساد بطريقة غريبة وشاذة، وأغانى التوك توك والميكروباص.. حتى أتينا بأجيال تشبه المسخ تعانى من التسطح الثقافى والفنى، وغابت فى الماضى برامج اكتشاف المواهب، ورعايتها واختفى زمن الفن الجميل، واختفت الرومانسية.. والمعانى الحقيقية للحب الذى فهم البعض معناه الحقيقى ليتحول إلى صفقات وخداع، واستخدام وأغراض، خال من الوفاء والتضحيات والعطاء فسيدة الغناء العربى أم كلثوم تغنى: «أنت لو حبيت يومين كان هواك خلاك ملاك» فالحب لا يعرف الجريمة أبداً وما حدث باسم الحب هو من قبيل البهتان والزور، لكن حقيقة ما حدث فى الأيام الأخيرة هو انحراف ونتاج أخطاء فى التربية وسوء الحال فى أصحاب هذه الأسر، وسوء تعاطى دينى وثقافى واجتماعى وفنى وعدم حماية كافية من طوفان الأفكار والثقافات المستوردة.
ما بين الشخصية السوية، والحب الحقيقى علاقة قوية، والأسرة هى اللبنة الأولى فى بناء هذه العلاقة لتشكيل وصياغة ملامح الشخصية السوية، التى تتعاطى مع المجتمع بحب وتسامح وعطاء.. بالمفهوم الشامل للإنسان الصالح.. ولعل غياب دور الأسرة أو عدم تعاطيها مع الأبناء بالشكل الصحيح.. انشغال الزوج والزوجة فى البحث عن حياة أفضل أو انشغال الزوج بنفسه وكذلك الزوجة، فالأزواج حالياً والزوجات هم أيضاً نتاج وإفراز للعقود السابقة، لذلك نبحث ونتحسر عن الأم بالمفهوم القديم التى كانت تتفانى وتنكر ذاتها من أجل الأسرة والأبناء وتتحمل فوق طاقتها وتحول كما يقول أهل البلد الفسيخ إلى شربات.. وللأسف حالة «الندية» المزعومة التى رسخها مجتمع منفتح بدون حساب أو حدود جعلت من مستصغر الشرر بين الزوجين حرائق كبيرة فى معركة «الندية» المفرطة التى ترفض فيها الزوجة التراجع خطوة أمام الرجل، وهذا لا يعنى أننى ذكورى ومنحاز للرجل، الذى يجب أن يكون قائداً حكيماً للأسرة وصاحب شخصية تدير بحكمة وتسيطر ليس بالصوت العالى ولكن بالرجولة والاحتواء والحب والعطاء، وعدم الذاتية والتفرغ لنفسه وتحمل مسئوليته لرعاية الأسرة وفى القلب منها الزوج، فلا يجب أن يكون خائفاً أو مستسلماً بلا قرار مجرد برواز فى المنزل، فالرجولة ليست مجرد عضلات وشنب وذقن وصوت عال.. اطلاقاً بل عطاء ونبل وحكمة وقرار واستيعاب.
لأنه مطلوب إعادة النظر، رغم فداحة النمو السكانى، وأن تعدادنا أكثر من اللازم بكثير، وإمكانياتنا ومواردنا محدودة وحالة الاستهداف الثقافى والفكرى الشاذ والغريب والمستورد لا تتوقف، لكن فى كل الأحوال علينا أن نسعى ونجتهد بالوعى والرؤى والإصلاح حتى نقضى على سلبيات الماضى، وميراث التدنى والانحراف والتسطح والابتذال.. نحتاج إلى العمق، باستعادة الأسرة الواعية، والتعليم المواكب بمدرسة تعد بديلاً للأسرة علماً وقيماً وأخلاقاً وتربية وعقلية ومسجد وكنيسة يقومان بدورهما فى احتواء الشباب وتوعيته وربطه بالدين السمح، وجامعة تكون منارة للعلم والعمل والأخلاق وفنون راقية تشكل الوجدان، وثقافة هادفة بلا انبهار بنماذج مستوردة أو غريبة لتساهم فى استعادة الهوية والشخصية المصرية، من خلال مواكب التنوير والتثقيف والإبداع فى كل ربوع البلاد لتخلق أجيالاً تدعم الوطن والمجتمع وتضيف له ولا تكون عبئاً أو خطراً على مستقبله.
الابتعاد عن المظهرية فى الأداء بالتمسك بمشروع وطنى ثقافى فنى تعليمى دينى متكامل.. ينفذ بعناية ورؤية وإرادة قوية وإخلاء الشارع من مظاهر التدنى.. وخفض معدلات الاختلاط غير الحميد الذى أفرز ظواهر خطيرة وأن تكون الجامعات مراكز للتعليم والتعلم والتقدم وليست لمجرد المتعة والرفاهية والعلاقات وكأننا فى منتجعات غربية، لا أطالب بفرض نموذج على أحد، ولكن التخفيف من حدة الاختلاط، وأن نراقب أبناءنا ونقدم لهم النصائح ولا يخجل الإعلام فى ظل وطأة حملات الإباحيين والمنفلتين فلسنا مع المتطرفين والمتشددين والإرهابيين وفى نفس الوقت لسنا مع المهاجمين والمسيئين والرافضين للدين نريد أن نصل إلى النموذج المصرى للتدين الذى حمى وصان هذا الوطن على مدار التاريخ نريد الوسطية والاعتدال وليس الإسراف والتطرف فى أقصى اليمين أو اليسار.. لعن الله الإخوان المجرمين الذين أفسدوا عقول بعض الناس وخربوها بأجندات تسىء للدين وتهدمه ولا تفيده أو تحقق غاياته.. ولعن الله الملحدين ودعاة الإباحية والانفلات الأخلاقى والقيمى.. فكل ذلك يخلق شخصية غير سوية منفلتة متطرفة يميناً أو يساراً.
بناء الشخصية السوية منظومة شاملة ومتكاملة يساهم فيها الجميع منذ الصغر وحتى الشباب تتضافر فيها جميع مؤسسات الدولة وأيضاً المجتمع المدنى والمجتمع بأكمله من أسرة وتعليم وثقافة ودين وفنون ورياضة، ودولة تقدم لأبنائها الخدمات وتمكنهم من الفرص.. وتتيح لهم فرص التعليم والعمل والرياضة واكتساب المهارات كما تفعل الدولة المصرية الآن، وعلى مدار 8 سنوات لكن الميراث كبير وثقيل ترسخ عبر 5 عقود كاملة.