ولدت لعائلة معقولة الأطوال والأحجام تميل إلى الوسطية بنسبة كبيرة في جيل الآباء والأعمام، ولأن الجينات عادة ما تمتد للعصب، فقد دأب والدي -رحمة الله عليه ورضوانه- على إبلاغي نقلاً عن عمته أن الجد الأكبر للعائلة كان يمتلك حصاناً متوسط الطول للتنقل، كان يمر من بين أرجل هذا الجد حينما يقف لتحية الناس أو يَهُب للنزول من عليه، ذلك تدليلاً على طول قامته وقدماه، ولأن العرق يمتد لسابع جد، فقد جاء شقيقي طويلاً على رأس الجيل الثاني للأحفاد على ما يبدو، ويحمل ابنه وابن قلبي ذو السبع سنوات -حفظه الله من كل سوء- نفس علامات الطول بإذن الله.
هي سمة من السمات المميزة التي قد يطمع فيها الكثير من باب التدليل على المهابة والفخامة، ولما لا وهي سمات الأجداد العظماء سواء من أجيال الأنبياء كآدم ونوح عليهما السلام، أو من أجيال أجدادنا صُنّاع الحضارة المصرية القديمة، الذين لهم كل الدلالات والعلامات المؤكدة على طول قاماتهم وقوة بنيانهم.
على هذا النسق كنت قد سافرت في منحة دراسية إلى ماليزيا عام 2007، فحدث في نهاية الأسبوع الأول أن اصطحبونا لزيارة البرجين التوأمين (الباتروناس) كما يطلقون عليه، وهو من العلامات الشهيرة المميزة للعاصمة إن لم يكن الأشهر على الإطلاق، المهم أنهم أخذونا في جولة ساحرة إلى أعلى البرج ومررنا بالكوبري الواصل بين البرجين بالدور الثمانين على ما أتذكر، ثم أخذونا إلى أسفل البرج في بهو يحمل عدة أجهزة لم أكن أفهم حيثيتها، ثم بدأت المرافقة الماليزية تشير لنا بالوقوف على جهاز منهم، علمت أنه مقياساً يقيس طول الشخص مقارنة بطول البرج، فيخبره كم يبلغ البرج عدد مرات طوله، وبالطبع كانت بمثابة لعبة شديدة المتعة بالنسبة لنا، فبدأنا واحداً تلو الآخر بالصعود على المقياس الطريف الذي يخبرك النتيجة بصوت منطوق ومرح.
كان معظم الدارسين من دول شرق أسيوية بالطبع قصار القامة بشكل ملفت، باستثناء البعض من أمريكا اللاتينية، أو بعض الأخوة العرب، وكنت أنا بالنظرة العابرة للموجودين بمثابة العملاقة حجماً وطولاً رغماً عن أن طولي في المعتاد يعتبر من متوسط إلى جيد، على كل حال كان الجميع ينظر إليّ وينتظر لحظة صعودي التي سيقارنون فيها بين عدد مرات طول البرج مقارنة بأطوالهم، ومقارنة بطولي أنا شخصياً، هذا لأنه مقياسهم كان بالطبع يحمل رقماً أكبر من رقمي بكثير، كانوا معظمهم بالنسبة لي بمثابة الأقزام، وكانت اللعبة ممتعة لي إلى الدرجة التي تأملت فيها شكلاً من أشكال تقييم الشعوب لبعضها البعض.
وبنفس الرؤية، هكذا كانت نظرتي للشعب الأمريكي على سبيل المثال، فسواء التقيتهم كسائحين على سبيل الصدفة بالمواقع السياحية في مصر، أو في المطارات خلال مرات سفراتي، أكاد أجزم أن كل الذين التقيتهم من تلك الجنسية كانوا من طوال القامة أشداء البنيان بشكل ملفت، تماماً كالمواصفات الجسمية لشخصية هيركليز الشهيرة، وكانت نظرتي لهم تماماً كنظرة الآسيويين لي.
ففي اعتقادي أن الجنس الأمريكي، إن جاز لي أن أطلق عليهم هذا المصطلح وهم الأمة ذات المائتي عام التي تحمل خليطاً من كل الأجناس، بل ويفتخرون بهذا ويعتبرونه شعارهم United in our Diversity أي متحدون في اختلافنا، أن تلك الأجيال لم تأتِ بالصدفة حاملة لتلك الجينات الوراثية الملفتة جداً للنظر، في حين أن النسبة الأكبر فيهم كانت من لصوص القارة العجوز، أي فقرائها الذين لا يحملون أي مقومات جينية ملفتة أو مميزة.
اللهم إلا فئة الأفارقة الأمريكان "كما اتفق على تسميتهم أخيرا" لا زنوج ولا سود ولا عبيد، تلك الفئة الوحيدة من الجنس الأمريكي المختلط هي التي يمكن القول بإنها تحمل مقومات الطول وصلابة البنية وفقاً للجينات الأفريقية المعروفة، لكن يقيني يحدثني أن الأجيال الحالية من الأمريكان قد تم توجيه جيناتها بشكل محدد منذ أجيال سابقة بعقود، ونعم لنظرية المؤامرة الفضل في تصوري هذا وليشكك من يشكك، فلا استبعاد لأية احتمالات مهما كان حجم خيالها، لما لا وهم واضعوا كل سيناريوهات أفلام الخيال العلمي أو كما كنا نسميها بالهجص العلمي وأصبحت واقعاً ملموساً!!
وبنظرة بعيدة عن كل هذا، وفي خضم تلك التفاصيل التي تُغِيرُ على مداخل عقلي بين فترة وأخرى، وجدت ما يدخل على قلبي نسائم من الطمأنينة والبشرى السارة، من خلال حملات الكشف المبكر عن التقزم والسمنة والأنيميا بين طلبة المدارس التي تقوم بها وزارة الصحة بتوجيهات مباشرة من السيد الرئيس بشخصه، ذلك أنه لوحظ أن كل جيل جديد من المصريين يميل في صفاته الوراثية إلى التقزم والسمنة وضعف البنية عن الأجيال التي سبقته، سواء كان ذلك نتاجاً لسوء التغذية أو لأسباب أخرى لا نجد لها تفسيراً منطقياً، وقد بلغ عددهم بالمدارس بعد الكشف والتنقيح حوالي 1.2 مليون طالب مصابين فقط بالتقزم، بخلاف المصابين بالسمنة والأنيميا.
فمن جانبها تولت وزارة الصحة منذ بداية العام الدراسي المنصرم 2021/2022، القيام بهذه الحملة في المدارس وعلى مدار العام الدراسي، حيث تم تحويل الحالات المصابة بأي من هذه الأمراض التي تشملها المبادرة إلى عيادات التأمين الصحي، لاستكمال الفحوصات اللازمة وصرف العلاج بالمجان، كما تم تسليم هؤلاء الطلاب "كارت متابعة" يحتوي على البيانات الخاصة بهم، وذلك لمتابعتهم دورياً والاطمئنان على حالتهم الصحية باستمرار من خلال 255 عيادة تأمين صحي بجميع محافظات الجمهورية.
سبق ذلك التخطيط أن قام السيد الرئيس في أغسطس 2021 بافتتاح المدينة الصناعية "سايلو فودز" داخل مدينة السادات بمحافظة المنوفية على مساحة بلغت 135 فداناً، هذا الصرح الضخم الذي يمثل نموذجاً صناعياً متكامل يحتذى به في مفهوم سلاسل الإمداد، ويهدف الجزء المخصص فيه لصناعة الوجبات المدرسية، إلى تقديم تغذية مدرسية صحية مؤمنة بخامات محلية يقوم المعهد القومي للتغذية بوضع مواصفاتها وفقاً للمواصفات العالمية، حيث بلغت تكلفة تغذية الطفل الواحد حوالي 644 جنيه سنوياً، بتكلفة إجمالية حوالي 8 مليار جنيه للمشروع الغذائي المدرسي، فيتم توزيع الوجبات المدرسية وفقاً لحالة طلبة كل محافظة، مع توفير منافذ بيع بجانب المدارس ووضع برنامج مستدام للتوعية الغذائية على مدار العام سواء في الدراسة أو فترة الإجازة.
الهدف النهائي للحملة التي ستستمر في الأعوام الدراسية المقبلة على الأرجح، هو إلحاق الأجيال الجديدة الناشئة بقطار الصحة العامة، واسترجاع تفاصيل وملامح الجينات الوراثية المصرية المعروفة متعددة الألوان والأشكال، منحوتة الملامح، ممشوقة البنيان، طويلة القامة كما طول نيلها، وثرية التفاصيل كما فيضانه.
كل ما نأمله هو عرض المؤشرات والنتائج بين حين وآخر حتى وإن كانت نتائج مرحلية لا نهائية، طامعين في ذلك في تحقيق ما فشلت فيه عهود سابقة، واستعدال كل ما أصاب بنيان أبناء هذا الوطن في عظامه، التي هي تحديداً -وللصدفة أو غيرها لا أعلم وفق نظرية المؤامرة أيضاً- سبباً أساسياً في انبهار العالم بتفاصيل حضارتنا، فالعظام الرابضة في بطون التوابيت منذ آلاف السنوات، والموجودة بجميع متاحف العالم هي لأجدادنا عظمائنا، الذين فنت لحومهم ولم تفنَ عظامهم، وجفت جلودهم ولم يجف نيلهم، ولن يجف بإذن الله، فنحن النيل والنيل فينا.