الإثنين 1 يوليو 2024

هرمون الحب واحد دماغ عاطفى وصلحه!

27-7-2017 | 17:21

بقلم –  د. محمد فتحى

بدأت علاقتى بهرمون الحب الأوكسيتوسين (Oxytocin) على نحو درامى.. توفيت طفلتى الأولى قبل الولادة، خلال أسابيع الحمل الأخيرة.. كان قد صدر لى عام ١٩٩٣ كتاب “طفل بالتكنولوجيا حسب الطلب”، وأتاح لى ما انطوى عليه من علم (فاز الكتاب بإحدى جوائز أكاديمية البحث العلمى ١٩٩٥) علاقة بعدد من كبار الأطباء.. ذهبت إلى الدكتور محمد فياض. بسط لى الرجل أمر “الحالة الطارئة” التى أواجهها، وقال إن الولادة ستتم بصورة طبيعية فبالإمكان خداع الرحم كيميائيا، وجعله يمضى فى سيرة الولادة العادية، بحدوث عملية الطلق الطبيعية.. ولأنه يعرف- من علاقاتنا السابقة- صعوبة قناعتى دون درس، أعطانى مفاتيح البحث فى المسألة بنفسى، وفى هذا الإطار الدرامى تعرفت على هرمون الأوكسيتوسين.

أوائل القرن العشرين اكتشف دارسو الكيمياء الحيوية وجود مادة يفرزها الفص الخلفى من الغدة النخامية فى منطقة تحت المهاد أو الوطاء (Hypothalamus)، يمكنها تعزيز تقلصات الولادة وإدرار اللبن. وفى عام ١٩٥٣ اكتشف الدارس فنسانت دو فينيو الهرمون، وسمى الأوكسيتوسين التى تعنى باليونانية “الولادة السريعة”، ونال فنسانت جائزة نوبل للكيمياء عام ١٩٥٥، تقديرا على اكتشافه.

ومع إثبات الدرس أن الأوكسيتوسين يعمل فى أحد المستويات (الفسيولوجية الوظيفية)على تقلص عضلات جدار الرحم، وحدوث الطلق، الأمر الذى يؤدى إلى سرعة عملية الولادة. كما يعمل على هضم جسم المرأة للغذاء وتحويله إلى حليب، وبالتالى تنشيط الخلايا التى تفرزه.. تم اعتماد الهرمون “سريعا” للاستعمال الطبى كعقار محرّض للولادة.

لكن الأوكسيتوسين حظى باهتمام كبير من علماء الأعصاب منذ سبعينيات القرن العشرين، عندما بدأت الدراسات تثبت قدرته، فى مستوى آخر سلوكى، على توجيه التصرفات “الأمومية” وتصرفات الارتباط الاجتماعى، لدى أنواع مختلفة من الأحياء، فظهرت مشاركته فى مجموعة من السلوكيات الاجتماعية، بما فى ذلك سلوك الارتباط بشريك واحد فى فئران الحقل، والترابط بين الأم والرضيع لدى الأغنام، بمساعدته فى جعل الدماغ يستجيب “للنداءات” التى يطلقها الصغار.

وحتى مشاعر التعاطف والثقة بين البشر.. فاستنتج العامة للتو أنه جزىء عاطفى، وشاع فى الصحافة الشعبية أنه “هرمون العناق”.

ومع الدرس الأوسع اتضح أنه جزىء قديم جدًّا استُخدم وأعيد استخدامه لأغراض كثيرة على مدى تطور المملكة الحيوانية الحديثة.. وتقريبًا كل مَن حاول البحث عن تأثير الأوكسيتوسين على أى شىء، يتصل بالسلوك الاجتماعى، وصل إلى نتيجة ما.

المهم أن الدراسات كشفت أن الخلايا العصبية المنتجة للأوكسيتوسين ترسل إشارات إلى كل أنحاء الدماغ، مما يشير إلى أن هذا الهرمون يلعب، فى مستوى ثالث، دورًا عاما فى تنظيم السلوك.

وقد دفع هذا الرأى بعض الأطباء لمحاولة اختبار الأوكسيتوسين كعلاج لحالات نفسية، مثل اضطرابات طيف التوحد، حيث يعانى المصابون، غالبًا، من مشاكل فى التواصل والتفاعل الاجتماعى، ولا يتعاملون مع المؤثرات الاجتماعية بشكل مناسب. ومع ٢٠١٠ ظهرت نتائج تبدو داعمة، إذ وجد الباحثون أن نفثات الأوكسيتوسين يمكن أن تحسِّن بشكل مؤقت عمليات التعاطف والتعاون الاجتماعى لدى الأفراد الذين يعانون من اضطرابات طيف التوحد.

مجمل القول أنه ظهر أن الأوكسيتوسين موجود عند الرجال والنساء وينشط أثناء التفاعلات الاجتماعية، وأنّ تركيزه يكون عند أقصى مستواه لدى الرجال والنساء مع بلوغ ذروة النشوة فى العلاقة الزوجيّة الحميميّة. وإنه يلعب دورا فى الترابط الأسرى والاجتماعى (والانتماء حتى فى الثدييات) وبالتالى يسبب زيادة كبيرة فى الثقة بين البشر، ويساعد فى تشكيل الذكريات الاجتماعية، ويقوى الارتباطات السابقة. ويبرز المعلومات الاجتماعية عن المحيطين فى المخ، ويسهم فى معالجة هذه المعلومات بربط المناطق المختصة بالمشاهد والوجوه والأصوات والرائحة بمنظومة المكافأة فى المخ، مما يجعلنا نشعر بالسرور لوجودنا مع من نتعاطف ونحب.

وبالتالى أوضحت الدراسات أن الأوكسيتوسين علاوة على آثاره الإيجابيّة فى المجال الجنسى، والكتلة العظميّة، وضغط الدم، وفى حماية وظيفة البروستات، يخفض ضغط الدم ويصد هرمونات التوتر والضغط ويساعد على تخفيف الالتهابات وينشط وظائف التمثيل الغذائى مثل الهضم والنمو. وإنه يهدئ ويحسن الحالة المزاجية، ويجلب مشاعر مختلفة كالاسترخاء وتفضيل الآخرين والإيثار والحب.

إن الفكرة القائلة أن الأوكسيتوسين يؤثر فى حل دائرة واسعة من المشاكل تكاد تكون أسطورية، والتى تمتد من الحب والجنس إلى التوحد، جعلته يبدو أكسيرا جديدا، لكن يجب أن نلتفت إلى أن الأوكسيتوسين يشكِّل جزءًا من نظام الجهاز العصبى، ولكنه ليس الجزىء المهم الوحيد، بل هو جزىء يلعب دورًا تنظيميًّا لعدد كبير من الأنظمة الأخرى بشكل ما. وما زال هناك العديد من الأسرار المتعلقة بتأثير الأوكسيتوسين على الثدييات عامة. فمن الصعب قياسه بطريقة موثوقة فى الدماغ، مما يجعل من الصعب أن نعرف بدقة مكان ووقت وكمية الأوكسيتوسين التى تُنتَج فى الأحوال الطبيعية، ولم يتمكن الدارسون بعد من الفهم الدقيق لكيفية عمله فى تغيير السلوك. وقد زاد اهتمام المجتمع العلمى بفهم طريقة عمل الأوكسيتوسين فى الدماغ، بالتزامن مع اتجاه متنامٍ فى علم الأعصاب، يهدف إلى دراسة وتوصيف الدوائر العصبية المحورية، ذلك أن هذا هو المستوى الحاسم لفهم كيفية قيام الدماغ بتنظيم السلوك.

ومنذ تم استخدام الأوكسيتوسين فى خمسينيات القرن العشرين، بهدف تسريع الولادة، اعتبره كثير من الباحثين آمنًا نسبيًّا للاستخدام فى التجارب. ومن هنا بدأ يدخل مؤخرا فى مجالات غريبة

يصلح مثالا عليها، أن دراسات نفسية راحت تبين أن إعطاء جرعة واحدة منه- على شكل رذاذ أنفى- قد تعزز جوانب مختلفة من السلوك الاجتماعى لدى البالغين الأصحاء. فكان الأفراد الذين استنشقوا الأوكسيتوسين قبل الدخول فى “لعبة الاستثمار” أكثر استعدادًا لتسليم أموالهم لشخص غريب، مقارنةً باللاعبين الذين عُولجوا بدواء وهمى و.. .

لقد افترض الدارسون أن الأوكسيتوسين قد يتمكن من عكس تأثير بعض الأعراض، لكن المعضلة الأزلية فى مثل هذه الأمور أن الخيال الشعبى يحاول العثور على إجابة بسيطة بنعم، أو بلا: فإما أن الأوكسيتوسين يعمل، أو لا يعمل، وإما أنه يعزز، أو لا يعزز عملية اجتماعية أو علاقة عاطفية معينة، لكن علوم الحياة نادرًا ما تكون على هذه الدرجة من البساطة. وفى هذا الصدد يؤكد الدارسون: “أن الأوكسيتوسين يؤثر على الدوائر العصبية بطرق مختلفة، وهو لن يؤثر على الجميع بالطريقة نفسها، فالأنواع البيولوجية التى ندرسها هنا معقدة بشكل لا يُصدَّق”. هذا كما أن الأوكسيتوسين المصطنع ليس له نفس أو كامل التأثير مثل الطبيعى الذى يفرزه الجسم و.. .

وبالتالى فالأوكسيتوسين ليس بجُزَىء يمكن أن يتناوله الناس بأنفسهم، أو يعبثوا به، بعيدا عن الإشراف الطبى.

إن علاج نقص الأوكسيتوسين التقليدى كان يتمّ باللجوء إلى الطرق الطبيعية: التغذية السليمة. الرياضة. تقوية العلاقات العاطفية. العلاقة الحميمة. بينما تمثل العلاج الطبّى في: المكمّلات الغذائيّة مع حقن تحت الجلد والوريد. رذاذ للأنف. حبوب تحت اللسان.

إن ملامسة البشرة للبشرة تزيد إطلاق الأوكسيتوسين، سواء كانت ملامسة الأم أو الأب لوليدها، أو الواحد للآخر، أو حتى تلامس يد صديقين حقيقيين.. .

لكن التوجهات التجارية عملت مؤخرا على نشر استخدام الهرمون المصنع بالبخاخات. والمشكلة الملحة أن الإنسان الجائع المغامر الذى لا يتوقف عن السعى إلى اهتبال المتع دون تحفظ قد راح يستجيب لها دون أية اعتبارات طبية.

هل تحول الحضن الدافئ الحقيقى إلى عملة نادرة، هنا أو هناك، حتى يشيع الاستسهال فى التعويض بالبخاخات فى اصطناع أو عمل دماغ حب؟!