قبل أيام، داهم رجال مكتب التحقيقات الفيدرالية منزل الرئيس الأمريكى السابق دونالد ترامب فى منتجع (مار إيه لاجو) بفلوريدا والذى يملكه ترامب، التهمة التى على أساسها تمت المداهمة امتلاك ترامب لوثائق مصنفة على درجة عالية من السرية وتتعلق بالتكنولوجيا النووية، ولا يحق لرئيس أمريكى سابق أو حالى الاحتفاظ بها خارج قواعد التعامل مع هذه النوعية من الوثائق حسب القوانين الأمريكية.
وافق وزير العدل الأمريكى على عملية المداهمة بعد أن وردت معلومات لمكتب التحقيقات الفيدرالى من متعاون بتواجد عدد من الصناديق تحتوى على هذه الوثائق واحتفظ بها ترامب فى منزله عقب خروجه من البيت الأبيض، بالتأكيد لن تعلن جهات التحقيق الأمريكية عن طبيعة أو ما تحتويه هذه الوثائق لسريتها العالية، لكن تم تسريب اسمين وردا فى هذه الوثائق للإعلام الأمريكى أولهما الرئيس الفرنسى إيمانويل ماكرون والثانى مستشار ترامب وصديقه روجر ستون، كان الغريب أن عملية المداهمة سببها الرئيسى هو مخالفة قواعد السرية فيتم الكشف من جهات التحقيق عن هذين الاسمين ليتعارض الأمر مع السرية المفروضة.
يجب أن تزول الدهشة والغرابة لأن واشنطن بشقيها الجمهورى والديمقراطى أو نخبتها السياسية الحاكمة خرجت لاصطياد كائن مزعج اسمه دونالد ترامب خرج عن قواعد لعبة السياسة والمصالح والتوازنات التى تديرها واشنطن منذ قرن ويزيد، والهدف وضع هذا الكائن المزعج فى المكان الذى يليق به كما ترى النخبة الأمريكية الحاكمة وهو السجن.
تولت آلة دعاية هيلارى ـ أوباما وهما أيضا العدوان اللدودان لترامب تفسير ظهور الاسم الأول أو الرئيس الفرنسى ماكرون، فخرجت جنيفر بالميرى المساعدة السابقة لهيلارى كلينتون لتوضح سبب وجود هذا الملف الذى يحوى معلومات سرية للغاية عن ماكرون، قالت بالميرى إن المعلومات الحساسة الموجودة فى الملف عن ماكرون يمكن أن يستخدمها زعيم عالمى على عداء مع ماكرون ضده، ملمحة أن هذا الزعيم العالمى هو الرئيس الروسى بوتين.
يبدو أن تعليق المساعدة بالميرى خاص بها ولا يمثل أى دليل إدانة ولكن فى لعبة الاصطياد والتحضير لقضية اتهام ترامب بالتجسس وليس فقط الاستخدام السيئ لوثائق عالية السرية لن يمر وقت كثير وسيتحول الكلام المرسل للمساعدة بالميرى إلى حقائق ستؤكدها آلة الدعاية التى لا تتوقف عن العمل ضد ترامب منذ مداهمة منزله وسيكون تعليق مساعدة هيلارى هو الإشارة لكافة وسائل الإعلام الأمريكية الموالية لتيار العولمة فى الولايات المتحدة لتسير فى هذا الاتجاه حتى ينتهى الأمر بتوجيه اتهامات لترامب فى قضايا تتنتهى بأحكام قاسية.
يأتى الاسم الثانى أو روجر ستون، فإذ كان هناك ثأر بين تيار العولمة والنخبة الأمريكية وآل كلينتون ـ أوباما من جهة وبين ترامب من جهة أخرى فإن الثأر أشد مع روجر ستون لأنه هو من صنع ترامب ونظرية الترامبية وهو الذى أخرج هذا الكائن المزعج من دوائر الأعمال والبيزنس وأوصله إلى البيت الأبيض فى واشنطن فى انتخابات عام 2016، وهزم هيلارى كلينتون ولكن قبل معرفة لماذا ظهر اسم ستون يجب أولا معرفة تاريخه وكيف صنع ترامب والترامبية.
لا يثير اسم روجر ستون أى انتباه خارج الولايات المتحدة أو حتى داخلها فهو ليس سياسيا فى شهرة كسينجر أو بريجينسكى مثلا، لكن داخل أروقة الحكم فى واشنطن وخاصة فيما يتعلق بلعبة الانتخابات فهو اسم يثير الذعر أو كما يطلقون عليه المخادع الذى يفعل أى شيء فى أى وقت.
الظهور الأول لستون كان فى انتخابات الولاية الثانية للرئيس الأمريكى ريتشارد نيكسون الذى يعتبره ستون مثله الأعلى ويرسم وجه نيكسون كوشم على جسده وكان أصغر من تم التحقيق معهم فى فضيحة "ووتر جيت" التى أطاحت بنيكسون من على عرش البيت الأبيض ثم كانت الانطلاقة والتألق مع حملتى رونالد ريجان فى الثمانينات، فأصبح الساحر الذى يستطيع أن يحشد ويسيطر وبحيل لا تعرف سقف على أصوات الناخبين فى الولايات الأمريكية، لقد كان فى ذلك الحين جمهوريًا مخلصًا، بعد ريجان انضم لخدمة آل بوش الأب والابن فهو من راهن على جورج بوش الابن ليدخل الانتخابات الرئاسية بدلا من شقيقه جيب بوش عكس كل التوقعات واستمعت النخبة الرأسمالية الأمريكية الكلاسيكية بقيادة آل بوش إلى رأيه وعندما تعادلت الأصوات بين جورج بوش الابن وآل جور فى انتخابات العام 2000 وكان الحسم فى فلوريدا، طلبت حملة بوش الابن من ستون الذهاب سريعًا إلى هناك للسيطرة على عملية الفرز اليدوى وعلى أصوات المندوبين فى المجمع الانتخابى حسب النظام الأمريكى ونجح ستون فى المهمة حتى ألغت المحكمة العليا الأمريكية عملية الفرز اليدوى ليفوز بوش الابن بعد أن كان آل جور متقدمًا.
لم تتوقف أنشطة ستون على الحملات الانتخابية بل أسس شركة للاستشارات أو شركة لخدمة أصحاب المصالح سواء أمريكيين أو دول فى واشنطن فكان يدير أقوى لوبى داخل أروقة السياسة الأمريكية ليحقق ملايين الدولارات من وراء هذا العمل.
رغم كل ما حققه ستون من نفوذ ومال فى دهاليز السياسة والمصالح فى عاصمة الإمبراطورية الأمريكية إلا أنه كان دائمًا ما يبحث عن عمل فريد لم يقم به أحد من قبل فى مجال السياسة الأمريكية وفى نيويورك التقى فى إحدى السهرات برجل أعمال شاب بدأ يلمع فى أوساط المال اسمه دونالد ترامب.
بدأ ستون يراقب رجل الأعمال ترامب غير المهتم بالسياسة وبعد أن أصبحا صديقين قال له ستون يجب أن تفكر فى الترشح للرئاسة لم يهتم ترامب كثيرًا بما قاله ستون، ففى هذه الفترة كان ترامب يحصد نجاحات كبيرة فى برامج تلفزيونية تحقق أعلى نسبة مشاهدة حول تدريب الشباب على فنون ريادة الأعمال غير الكتب التى يصدرها ترامب حول البزنس وتحقق هى الأخرى أعلى نسب التوزيع، ولكن بعد نقاشات طويلة بين ستون وترامب على مدار سنوات اقتنع ترامب بالفكرة ليصبح عضوًا فى الحزب الجمهورى ويطالبه ستون بانتظار اللحظة المناسبة للترشح فهو الآن يضع خريطة العمل وكانت أول خطوات ستون مع اقتراب اللحظة المناسبة هى فضح آل كلينتون من خلال كتب وحملة دعاية مستمرة وأيضا مهاجمة باراك أوباما ثم انطلق فى حملته ليتوسع فى هجومه قبل إعلان ترامب ترشحه بوقت قصير ويشن حربًا على كل النخبة الحاكمة من ديمقراطيين وجمهوريين لأن هناك مرشحًا قادمًا من خارج لعبة واشنطن المغلقة وهو دونالد ترامب .
عند بداية تدشين حملة ترامب الانتخابية قال ستون إنها ليست حملة عادية بين مرشح جمهورى وآخر ديمقراطى إنها انتخابات بين المواطن الأمريكى المنسى ضد النخبة الفاسدة والمتغطرسة فى واشنطن من جمهوريين وديمقراطيين.
بدأت الدعاية التى يصنعها ستون تخلق أسطورة ترامب وسط المهمشين الأمريكيين أو المنسيين كما يطلق عليهم والذين لهم حق الانتخاب ولا ينتخبون ولو انتخبوا تذهب أصواتهم إلى النخبة التى لا تهتم بهم ومع كل يوم يصيغ ستون مفهوم الترامبية التى رأى أنها وترامب أكبر من الحزب الجمهورى الذى هو وسيلة فقط لكى يترشح ترامب فى الانتخابات وعندما يسأله المراسلون عن خطابات ترامب الغريبة على الحياة السياسية الأمريكية كان ستون يخبرهم أن أمريكا في ورطة عميقة والأمريكيون في أوقات عصيبة للغاية والتحايل على ذلك أو ادعاء بأن كل شيء عظيم هو خطأ فأمريكا بحاجة إلى رجل قوي، نحن بحاجة إلى شخص قائد حقيقى وليس مدينًا لأى من المسؤولين وشخص غير مرتبط بالقرارات السيئة خلال الثلاثين عاما الماضية هذا القائد هو ترامب إنه الرجل المناسب فى المكان المناسب فى الوقت المناسب مع الرسالة الصحيحة، وعندما يتحدث إلى الناخبين الذين يوجه لهم رسالة ترامب كان يهدم مفهوم العملية الانتخابية ذاتها وكل النخب التى تحكمت فى السياسة الأمريكية لعقود طويلة حتى آل بوش الذين عمل معهم، فيرى أن آل كلينتون وبوش كانوا يديرون الأمور براحة شديدة ويتاجرون بالمكتب الرئاسى فى البيت الأبيض وظلت السياسات كما هى حروب لا نهائية وتآكل الحريات المدنية والاقتراض الهائل والديون وعمليات الإنقاذ للمحتالين في وول ستريت والسياسة الخارجية التي تبدو لمعظم الأمريكيين غير مفهومة فلا يمكن للمواطن الأمريكى معرفة سبب إحباط الولايات المتحدة لأصدقائها ومساعدة أعدائها.
لم تكن الحملة الانتخابية لترامب التى أدارها ستون بطريقتين مرة وهو مستشار معلن وأخرى عندما ترك الحملة وحركها من خلف الستار نهايتها فوز ترامب بانتخابات 2016 بل كانت زلزالا أصاب اللعبة السياسية المعتادة فى واشنطن بشروخ عميقة تهددها بالانهيار وأطلق قوة الشارع الأمريكى المهمش أو المنسى والذى ظهرت فى أحداث 6 يناير 2021 باقتحام مبنى الكونجرس.
لم تغفر النخبة الأمريكية ما فعله ستون فاصطادته أول مرة فيما عرف بقضية تواطؤ ترامب ومستشاريه مع الروس فى الحملة الانتخابية وتسريب معلومات وفى التحقيقات ولجان الاستماع بالكونجرس لم يتكلم روجر ستون حتى تم إلقاء القبض عليه فى 2019 وتم توجيه تهم إليه، ولكنه أصر أنه لن يشهد ضد ترامب وتم الحكم عليه بالسجن فى 2020 ولكن قبل خروج ترامب من البيت الأبيض أصدر قرارًا بالعفو عنه.
هذا القرار بالعفو من ضمن الوثائق التى أعلن العثور عليها فى منزل ترامب والمدهش أن القرار كان علنيًا ولا يوجد به سرية لكن ما يتم التلميح له حاليًا بقوة من سياسى النخبة فى واشنطن أنه يوجد مع هذا العفو أوراق تثبت إدارة روجر ستون لأحداث 6 يناير المتعلقة باقتحام الكونجرس من فندق الويلارد الفخم فى وسط العاصمة واشنطن بعلم ترامب وإذا ثبت ذلك فإن قائمة طويلة من الاتهامات تنتظر ترامب وستون وتذهب بهما خلف القضبان لينضما إلى طابور المنسيين الأمريكيين .
قد تحقق النخبة الأمريكية والمعولمين انتقامهم بسجن ترامب وستون وكل من صنع الترامبية لكن المؤكد أن قوة الشارع المهمش أو المنسى التى أطلقها ترامب فى حملته وسنوات حكمه أصبحت تهدد وجود أمريكا الدولة وتريد الانتقام من النخبة التى تطارد بطلها ترامب وستولد صراعًا داخليًا عنيفًا كانت أول علاماته الهجوم على مقر الـ FBI فى أوهايو من أحد مؤيدى ترامب والذى تم قتله وقبل وقت قليل أعلنت فوكس نيوز عن وجود تقرير مشترك من مكتب التحقيق الفيدرالى ووزارة الأمن الداخلى والمخابرات الأمريكية يشير أن هناك ارتفاعًا ملحوظًا فى التهديدات الموجهة إلى رجال الأمن والسلطة القضائية والتنفيذية وهناك دعوات على مواقع التواصل الاجتماعى من مؤيدى ترامب لحمل السلاح للقيام بانتفاضة مسلحة وحرب أهلية وتدمير مقرات مكتب التحقيق الفيدرالى بالقنابل القذرة وأن كل هذه الدعوات تؤكد أن انتخابات 2020 كانت مزورة وترامب لم يخسرها.