الجمعة 19 ابريل 2024

خلاصة السكر من أبنائنا المسكرين

مقالات20-8-2022 | 22:45

عادة لا تٌستدعى داخلي الحاجة للكتابة إلا بسبب الانفعال بمشاعر ما، فلا أدّعي احترافاً من نوع المتخصصين أو المحترفين أو المتفرغين للكتابة من أجل الكتابة أو من أجل الحياة، فمشاعري هي التي تحركني في العديد من الإتجاهات السلوكية، قد يكون على رأسها الكتابة، كسبيل من سبل التنفيس والمصارحة ومشاركة الآخرين تلك المساحة التي فاضت بها روحي ولم أعد أحتمل طيها بداخلي.

فبالأمس القريب، تمت دعوتي لإحدي الاحتفاليات المقامة لأطفال السكري من عمر 6 - 12 عاماً بمناسبة فترة الصيف وما يصاحبه من توترات وقلق في بيوت العديد من المصريين الذين تشمل أسرهم طفلاً سكرياً (أو مِسَكّر) كما يطلقون عليه في جروب أطفال السكر الأشهر على الإطلاق (أطفالنا والسكر)، شملت الاحتفالية فترة صباحية قام الأطفال فيها باللهو واللعب وحضور فقرات ترفيهية، تلتها محاضرة توعوية للأطفال وأمهاتهم كانت أروع ما يكون في فقرات الاحتفاليها كلها.

فهذا العالم من فئة أطفال السكر، كما العديد من العوالم الخفية علينا -نحن معتادي النعم- كعالم أطفال السرطان، وأطفال متلازمة داون والتوحد وذوي الهمم وكل المختارين من الله لاختبارهم في عبادة الصبر، هو عالم أبعد ما يكون عن حدود منازلنا ومشاعرنا، قد يصادفنا في الحياة مرة أو مرتين، في هيئة شخص عابر في لقاء، أو تجمع أسري، أو مقابلة في مستشفى ما، هي لقاءات لا ترقى لمستوى التفاعل والتآلف الكامل الذي يُمَكِنَك من الدخول إلى هذا العالم الغامض عنا.

تلك الدعوة لحضور هذا الاحتفالية لمست وتراً في قلبي ليس فقط تعاطفاً مع الأطفال مرضى السكر (وهم الأولى بحبنا واهتمامنا لا تعاطفنا الذي لا يجدي نفعاً بل ضُراً في بعض الأحيان)، لكنها أيضاً تعاطفاً مع أمهات الأطفال، نعم أمهاتهم على وجه الخصوص، فهن حاملات الجزء الأكبر من العبء مقارنة بسائر الأسرة، فهي التي تضع القواعد وتتابع وتراقب وتحذر وتتلقى اللوم والعتاب من أبنائهن، وهي التي تحتضن وتضم وتمسح الدموع وتبتلع ألمها الشخصي لتتفادى انهيارات نفسية طفلها الذي لا حول له ولا قوة، في مقابل مئات المرات التي تعجز عن الرد على نظرات التساؤل والاعتراض من أطفال لا حيلة لهم على مرض، ولا فهم لهم لما وراء هذا المرض من حكمة إلهية "لماذ هم؟!".

وجودي بالأمس، أشعرني بجزء من إنسانيتي المفتقدة، فالمحبة المطلقة التي كانت تنتشر موجاتها في الهواء باحتفالية الأمس بين سائر الحضور الذي لم يجمعهم سوى مشاعر إنسانية مجردة من أية أهواء أو أغراض أو انتماءات، اللهم إلا مشاركة المشاعر المعتادة التي يعيشها كل منهم منفرداً بيته في كافة تفاصيل حياته اليومية، ليست فقط التفاصيل المتعلقة بالنظام الغذائي، وهو أول أمر قد يخطر ببال أحد الأصحاء من غير المصابين بالسكر، فالتفاصيل التي سمعتها بالأمس خلال المحاضرة التفاعلية التي تمت بين المتخصصين والأطباء من ناحية والأطفال من ناحية أخرى كانت أشبه بالقصة القصيرة في هيئة أسئلة وأجوبة بطريقة ممتعة.

فالأمر لم يكن في إطار النمط المكرر والمعتاد في حالات التوعية كمرسل ومستقبل في إتجاه واحد، اللافت للنظر أن الأمر كان بمثابة اللعبة الحلوة (هات وخد) فتفاعل الأطفال وردودهم غير المتوقعة وتجاوبهم مع الحدث والقائمين عليه، بل وتجاوبهم مع الأسئلة الخاصة بنصائح السكر في فترة الصيف، كان أشبه بمظاهرة حب تملؤها مشاعر حب وامتنان صادقين، ففطرة الأطفال لا تحدثهم عن زيف ولا مجاملات الكبار، هم يمنحوك الفعل ورده كما هو دون ترتيب ولا تخطيط مسبق.

هنا كان درسي المستفاد بنهاية اليوم، فشكراً لأبنائنا المسكّرين (الصفة وصيفة المبالغة منها) فقد علموا أمهتاتهن عبادة الصبر دون قصد، كما قالت لي إحدى الأمهات، وبالتبعية أصبحن هؤلاء الأمهات بشكل أو بآخر بمثابة المواطنين الفاعلين المهتمين لأمر أطفالهن، المتابعين لكل التفاصيل والمستجدات، فسبحان من جعل من قبل كل محنة تولد المنحة أو قد تكون عدة منح، لا يعلم حكمتها إلا المبتلون أنفسهم باختبار المرض والصبر متلازمين، تماماً كعلامة نصر كبيرة تمنحهم الأمل في الشفاء عما قريب بإذن الله.

فالشكر كل الشكر لهم على كل طاقة المحبة والتفاؤل والصبر الجميل الذي قد لا نقوىَ عليه نحن الكبار وها هم قد ألهمونا إياه.