توجيه نبوى شريف وبسيط للصحابى الجليل أبى الدرداء، الذى فهم الإيمان على نحو ترك حظوظ الدنيا واجتناب الحياة. والاكتفاء بالصلاة والذكر والعبادة.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد آخى بين سلمان الفارسي وأبى الدرداء بعد الهجرة النبوية إلى المدينة المنورة فى إطار ما عُرف بالمؤآخاة بين المهاجرين والأنصار لعون المهاجرين على الحياة حتى تستقر أعمالهم وحياتهم.
فزار سلمان الفارسي صاحبه فوجده لا يعرف سوى الصلاة والعبادة وترك زوجته وماله.
فقال له سلمان: إن لربك عليك حقاً، وإن لجسدك عليك حقاً، وإن لأهلك عليك حقاً .. فأعط لكل ذى حقٍ حقه.
ولما علم النبى صلى الله عليه وسلم بكلام سلمان، قال لأبى الدرداء: لقد صدق سلمان، إن لربك عليك حقا، وإن لجسدك عليك حقاً وإن لأهلك عليك حقاً.. فأعط لكل ذى حقٍ حقه.
إن من أشد الأخطاء التى يمارسها الإنسان المعاصر، اهتمامه بحياة غيره وحقوق غيره وإهمال حقوقه الشخصية التى قررها الله له فطرةً وديناً، أو الاهتمام بحقوقه هو فقط والحرص على الارتواء من بحر الحياة مع إهمال حقوق غيره تماماً.
الصورة الأولى: رجل آثر أولاده وأهل بيته بوقته وماله وكدّ فى الحياة لتوفير رفاهيتهم بمثالية كبيرة مدعياً أن رسالته الوحيدة فى الحياة هي أن يعيش لغيره دون أن يهتم بحقوقه من الحياة الفطرية التى أنشأها الله لنا.
والصورة الثانية: عكس الأولى، رجل يعيش أنانيته كاملة دون نقصان.. ويهمل حقوق أولاده وزوجته والناس دون أى اعتبار.
والصورتان رغم انتشارهما، وكثيراً ما يبدو على أصحابهما التدين وحب الله، وأحيانا يتم تبرير هذين المسلكين بقال الله وقال الرسول، لا تمثلان الإيمان الحق وسنة النبى صلى الله عليه وسلم .. ووصل الجهل بالبعض إلى الاستدلال بنصوص ذم الدنيا، وأن الرسول قد ذمها وهذا يعنى أن نحرم أنفسنا منها .
واسمحوا لى أن أعيد لكم عرض ما كتبته سابقاً عن الفرق بين حب الدنيا وحب الحياة لتتضح الحقيقة النورانية فى هذا الجانب.
الفرق بين حب الدنيا وحب الحياة؟
هناك فارقٌ كبير بين حب الدنيا وحب الحياة، حب الدنيا هو أن تعيش مسجوناً بين جداران ملذاتك وتعيش لها، دون أى اعتبار.
أما حب الحياة فهو أن تعيش إنسانيتك روحاً وقلباً وعقلاً ونفساً وجسداً.. تستمتع بالحلال -وما أكثره- كما تسمتع بعبادة الله في الخشوع والحب والتجلى والعطاء.
ولا يمكن أن تحب الآخرة وتستعد للقاء الله حتى تعيش حياتك وإنسانيتك.
" وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا ۖ وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ" القصص: 77
ألا تعلم أن الله أوجب على الزوجين أثناء الجماع أن يصلا إلى درجة الارتواء العاطفى والجنسى وربط ذلك بتقوى الله!
فقال تعالى: "نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّىٰ شِئْتُمْ ۖ وَقَدِّمُوا لِأَنفُسِكُمْ ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُم مُّلَاقُوهُ ۗ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ" البقرة: 223.
أى أن الإنسان لا يستطيع معايشة التقوى والإيمان، إلا إذا ارتوى بالحلال على مستوى احتياجاته الفطرية.
لقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستمتع بالنظر إلى أهل الحبشة وهم يلعبون فى المسجد.
ومرّ على شباب ينتضلون (يتسابقون فى الرمى) فقال: ارموا بنى إسماعيل فإن أباكم كان رامياً.. ( تشجيع الرياضة)
وقال لمن زعموا أن الحرمان من الزواج أو الطعام أو الراحة قربى إلى الله: "أما والله إنى لأخشاكم لله وأتقاكم لله، ولكنى أصوم وأفطر وأصلى وأرقد وأتزوج النساء فمن رغب عن سنتى فليس منى"
وقال للسيدة عائشة وهى عائدة من عرسٍ لبعض الأنصار: "هلا أطربتم لها فإن الأنصار يحبون الطرب" .
هناك مجموعة من الناس زعموا بأن هناك خصومة بين الله وبين حب الحياة ومعايشتها، وسوقوا أنك ينبغى تعيش الحرمان والذل والقهر والتعصب والكراهية حتى يرضى الله عنك!
وكذبوا على الله بهذه الفرية.
"وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَىٰ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعَىٰ إِلَى الْإِسْلَامِ ۚ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ" سورة الصف: 7
والحقيقة أن هذا النمط من التدين المشوه وظفه تجار الدين وسيلة للسيطرة على الناس وابتزازهم مالياً ونفسياً وسياسياً.
إن ظلم الإنسان لنفسه بتجاهل حقوقه واحتياجاته قد يوصله للانحراف، سواء الانحراف عن الاستقامة والدين، أو الانحراف نحو التعصب والتطرف.
وقد حدث هذا كثيراً، بل إن الانحراف فى عصرنا نتيجة طبيعية لذلك.
وتبقى وصايا النبى صلى الله عليه وسلم : إن لربك عليك حقاً وإن لجسدك عليك حقاً وإن لأهلك عليك حقاً.. فأعط لكل ذى حقٍ حقه .
والحمد لله على نعمة الإسلام ونعمة الحياة.