الخميس 25 ابريل 2024

بين القلعة ولندن

مقالات7-9-2022 | 19:57

ارتبطت مدينة صقلية الإيطالية فى أذهان كثيرين بتاريخ دموى سببه الخروج الأول لعصابات المافيا من هذه المدينة الجميلة، عانت صقلية كثيرًا من حوادث إجرامية وفساد سياسى وحوادث اغتيالات وانهيار اقتصادى بسبب هذه العصابات، استطاعت الحكومات الإيطالية المتعاقبة مواجهة أنشطة المافيا الإجرامية حتى تخلصت صقلية إلى حد بعيد من هذا النشاط الإجرامى وعادت مدينة طبيعية. 

يقول الواقع إن صقلية أصبحت مدينة بلا عنف واختفت الأنشطة الإجرامية التى أدمت شوارعها فى فترات سابقة ، لكن الواقع شيء وما علق بأذهان الكثيرين عن ماضى صقلية شيء آخر، كان يمكن للمسئولين عن المدينة أن يصدروا بيانًا فى كل صباح ومساء بأن صقلية مكان رائع وآمن ويمكن للسائحين القدوم إليها والاستمتاع بشواطئها ومناظرها الخلابة وتاريخها الثرى، قد يصدق البعض هذه البيانات، لكن فى الأغلب لن يقتنع كل من عرف تاريخ صقلية الدموى ولن يغامر بزيارتها خوفًا على حياته. 

بدون بيانات ونشرات وتصريحات ذهب أهالى صقلية والمسئولون عنها إلى حل معادلة الواقع والصورة بالدعاية التى تقنع المتلقى بالحقيقة دون الأشكال الرسمية، كان يمكن للصقليين أن ينفقوا ملايين الدولارات على أفلام موجهة وحملات إعلانية فى كل فضائيات العالم باسم الدعاية لإثبات واقع مدينتهم الجميلة الخالية من العنف.

اختار الصقليون نوعًا آخر من الدعاية بأقل التكاليف أو ما يمكن أن يطلق عليه الدعاية الذكية غيرالموجهة، ذهبوا إلى وسائط السوشيال ميديا وصنعوا صفحات على هذه الوسائط، واحدة من هذه الصفحات اسمها صقلية الجميلة وظيفة هذه الصفحة أن تعرض الحياة اليومية البسيطة للمواطنين فى صقلية داخل المطاعم، الاحتفالات، موسيقى وموسيقيين الطرق، المستمتعين بشاطئ البحر، أشهر الأكلات، البائعين فى الشوارع، ربات البيوت وهن يجهزن وصفات الطعام الإيطالية الشهيرة، تعرض الصفحة كل تفصيلة تشعرك بالأمان والجمال فى هذه المدينة الرائعة. 

لم يلجأ صانعو هذه الصفحة وغيرها إلى مخرجين سينما عالميين أو نجوم الفن أو فنون تصوير مبهرة لأن المطلوب أن يبدو كل شيء واقعى وبسيط دون تكلف، فقط كاميرا موبايل تتجول وتلتقى بالصقليين ويتكلمون عن حياة مدينتهم وفى بعض الأحيان يكون هناك معلق بكلمات قليلة، حتى من لا يجيدون اللغة الإيطالية  فالصورة تغنى عن كل حديث بل على العكس عدم معرفة اللغة يسبب زيادة فى الشغف لكى تذهب وتستكشف بنفسك هذه الحياة. 

ينشر فى كل يوم المشرفون على هذه الصفحة عشرات الفيديوهات لا تزيد مدة الواحد فيها على دقيقة أو دقيقة ونصف، يتابع الصفحة ملايين من كل أنحاء العالم ودائمًا ما يعلق المتابعون نحن قادمون لزيارتكم ويرد المشرفين نحن فى انتظاركم ويجيبون على الأسئلة التى يطرحها المتابعون ويرشحون لهم ما يمكن أن يستمتعوا به لقضاء إجازة سعيدة.

إذا كانت إيطاليا بلد سياحى فهذه الدعاية الذكية البسيطة جعلت صقلية مقصد أول لزائر إيطاليا أو جعلت صقلية هى سبب الزيارة.. أما الماضى الدموى لصقلية فقد محته هذه الدعاية وحتى الحاضر الذى ما زال متأثرًا بأنشطة المافيا فقد سيطرت عليه الدعاية وصدرت فقط الوجه الجميل الآمن لمدينة اسمها صقلية. 

هناك مدينة أخرى هى لندن قررت استغلال حدث احتفالى سنوى بها لاستعادة رونقها عن طريق نفس النوع من الدعاية الذكية، لكن الأمر تحول إلى كارثة وفضيحة أمام العالم، وبنفس الدعاية استطاع المشرفون على الاحتفالية احتواء جزء كبير من الفضيحة. 

منذ ستينيات القرن الماضى يقام فى حى نوتنج هيل بلندن مهرجان احتفالى لإظهار تنوع الثقافات فى عاصمة الضباب، وسبب ظهور هذا المهرجان أحداث عنصرية وقعت فى الستينيات فقرر مسئولو المدينة وقتها محاربة العنصرية بالاحتفالات وإعطاء المتواجدين فى لندن من ثقافات أخرى خاصة الإفريقية ومنطقة الكاريبى الفرصة لإبراز ثقافاتهم ودمج الجميع فى احتفال إنسانى، لم يقام مهرجان نوتنج هيل منذ عامين بسبب الجائحة، وقررت  لندن إقامته هذا العام فى نهاية أغسطس الماضى على مدار يومين، لكن ما حدث فى يومى المهرجان كان كارثيًا بكل المقاييس على مستوى المجتمع البريطانى والدولة ولو كانت الحكومة البريطانية تمتلك القدرة على مصادرة الهواتف المحمولة للمشاركين لفعلت حتى لا يشاهد العالم تفاصيل الفضيحة. 

اقترب المهرجان فى ساعاته الأولى من مأساة إنسانية، بسبب سوء التنظيم من الشرطة البريطانية كادت أن تؤدى بحياة الآلاف من المشاركين، بسبب الازدحام وتعرض أفراد الشرطة والمشاركين لحالات من الاختناق والدهس، أما الحوادث الإجرامية التى وقعت في أثناء المهرجان فكانت لا توصف من بشاعتها وعلى رأسها حوادث الطعن، أبرزها مقتل أحد مغنى الراب طعنًا أمام أعين الجميع، أما عناصر الشرطة البريطانية تعرضوا للتحرش والاغتصاب رجال ونساء، حيث أبلغ العديد منهم عما تعرضوا له من اعتداءات جنسية في أثناء تواجدهم داخل المهرجان، وعن المشاجرات والمخدرات وبيعها وتناولها أمام أعين الجميع فحدث ولا حرج.

كانت أكثر المشاهد والفيديوهات تقززًا أن المشاركين فى المهرجان حولوا شوارع الحى الهادئ إلى مراحيض عمومية لأن إدارة المهرجان لم توفر لمشاركين بهذا العدد أى وسيلة أخرى، ما دفع سكان حى نوتنج هيل إلى التقدم بشكوى قضائية حتى لا يقام المهرجان مرة أخرى فى حيهم.

ما حدث فى نوتنج هيل سبب صدمة مروعة لبريطانيا بسبب ما كشفه من مدى عنف المجتمع والنزعة الإجرامية داخله وعجز الدولة البريطانية، ممثلة فى شرطتها عن فرض الأمن والنظام داخل مهرجان احتفالى فى حى صغير، وما زاد من صدمة البريطانيين أن العالم شاهد هذه الفضائح عن طريق آلاف الفيديوهات على وسائط السوشيال ميديا، وأن ما أرادته لندن باستعادة رونقها تحول إلى مأساة. 

بعد زوال جزء من الصدمة المروعة تحرك المسئولون فى العاصمة البريطانية سريعًا مستخدمين نفس وسائط السوشيال ميديا التى فضحتهم فأول ما فعلوه نشروا على كل الوسائط اعتذارات عما حدث واعتراف بالتقصير وعدم الاستعداد أعقبها نشر آلاف الفيديوهات والصور للجزء الاحتفالى من المهرجان، بعيدًا عن المأساة التى حدثت ثم الاستعانة بضباط شرطة متقاعدين ومشهورين فى بريطانيا لتحليل أسباب الكارثة وبدأت تظهر الإحصائيات والتحليلات بأن نسبة العنف غير مقلقة!! لطمأنة المجتمع البريطانى وسبب تقصير الشرطة الإرهاق الزائد أما السبب الرئيسى لكل ما حدث فهو عدم صلاحية المكان لإقامة المهرجان، وأن فى العام القادم سيقام المهرجان غالبًا فى حديقة الهايد بارك لأنها مكان متسع ويمكن السيطرة عليه أمنيًا. 

بالتأكيد لن تزول هذه المشاهد المأساوية لمهرجان نوتنج هيل سريعًا من ذاكرة من شاهدها أو الانطباعات عن العاصمة البريطانية لندن، لكن فكرة احتواء الكارثة دعائيًا بالاعتذار والاعتراف من المسئولين والمشرفين على المهرجان خففت نوعًا ما من غضب الرأى العام البريطانى وأعطت للخارج انطباعًا بأن هؤلاء المسئولين قادرين على تصحيح الخطأ دون عناد أو نفى وقوع أخطاء. 

نأتى إلى القاهرة على مدار أسبوعين أقيم فى القلعة المهرجان الموسيقى السنوى تحت إشراف وزارة الثقافة وبالتأكيد حظى المهرجان بتغطية إعلامية وعندما تتابع هذه التغطية تجد أنها تغطية كلاسيكية معتادة حول الفنانين الذين سيحيون الحفلات والمواعيد وأسعار التذاكر ونقل الحفل الختامى أو الافتتاحى على فضائية.

وسط هذه التغطية الهشة تجد إشارة إلى أن كل حفل حضره الآلاف من المشاهدين وأن الليلة الختامية للمهرجان وكانت حفلا للموسيقار عمر خيرت تجاوز الحضور خمسين ألف، وبالتأكيد تملك وزارة الثقافة نسبة الحضورعلى مدار الأسبوعين من حاضرين وزائرين للمهرجان وأعتقد حسب الآلاف الذين حضروا كل حفلة فنحن نتكلم عن رقم مليونى تواجد فى حى القلعة الشعبى العريق طوال فترة المهرجان. 

طوال الأسبوعين لم نسمع عن حادث أو سوء تنظيم أو عنف من هذه الجماهير التى توافدت على المهرجان وعندما تتبعت بعض تعليقات من حضروا المهرجان على وسائط السوشيال ميديا من الجمهور العادى الذى حضر وجدت إشادة بتنظيم المهرجان وسعادة بالاحتفاليات.

أعتقد أن مهرجان القلعة تم التعامل معه بأنه حدث عادى، احتفال موسيقى كأى احتفال ولم يتم التعامل معه بأسلوب الدعاية الذكية لقد بحثت عن أى استخدام من قبل المشرفين عليه لوسائط السوشيال فى إبراز هذا الحدث الذى جاء فى وقته فلم أجد فى حدود بحثى. 

بالتأكيد الكل يتابع حملات الدعاية الشريرة والكاذبة التى تشنها قوى الظلام ضد هذا الوطن وفى كل يوم تتصدى الدولة لحملات التشكيك والدعاية السلبية بشكل رسمى وواضح، الغريب أنه خلال أسبوعين كان يمكن أن نحرق هذه الدعاية السلبية ونخرس المشككين لو استخدمنا فنون الدعاية الذكية بأن ننشئ صفحات لأخبار المهرجان وينشر على وسائط السوشيال ميديا عشرات ومئات الفيديوهات لمن حضروا المهرجان وفعالياته ولشوارع القاهرة ومنطقة القلعة ليلا.

ليس مطلوب تجهيزات أو إمكانات مهولة لإنشاء صفحات وكتابة تغريدات وصناعة فيديوهات تنقل الحدث إلى العالم الافتراضى مجرد موبايلات بسيطة وعشرات من المنظمين أو المتطوعين يتولون هذا الأمر مثل  الطريقة الصقلية.

أتصور أن الرسالة التى كانت ستنقلها هذه الحملة الدعائية الذكية التى تنقل واقع المهرجان ستقول بوضوح أن هناك مجتمعًا متحضرًا راقيًا وآمنًا ودولة قوية قادرة على حفظ النظام والاستقرار دون الحاجة لأى بيانات أو تصريحات.

Dr.Randa
Dr.Radwa