أعترف بتطرفي الشديد في حب وطني إلى الدرجة التي قد توقعني في بعض المشكلات أحياناً، نتيجة عدم اتخاذي مواقف حيادية في مواقف بعينها، ولا يزعجني هذا الأمر كثيراً لكامل قناعتي بأن الثوابت لا مجال فيها لمناطق وسطى أو رمادية تمنحني قبول الآخرين أو تجعلني أحصل على ثقتهم أو ترسم صورة لطيفة لي عندهم.
وأرى في كياني بوازع الهوية المتفردة، وبكل تواضع وثقة مجتمعين، أنني أحمل درعاً وسلاحاً قد لا يقوى على كسره هؤلاء الآخرون، حصني في هذا هو تفاصيل هويتي التي قد لا يكن لي دخلاً فيها، لكني على عهدي بالله أنه طالما قد ارتضاها لي فهي واجبي ومسؤوليتي ما حييت.
وعلى يقيني أن الملايين من المصريين يشاركونني إحساسي هذا، فيتبارون في خدمة وطنهم يومياً يصارعون تفاصيل الحياة برغم كامل تحدياتها يوماً بعد يوم وعاماً بعد آخر، وينتفضون في حبه حين استشعار الخطر، وينطقون الحقيقة حين يتم إلباس الحق بالباطل، أو تطمس الحقيقة داخل رحم الباطل.
ولأن الدين لله والوطن للجميع، فأنا من الواعين بحدود تاريخ وجغرافيا هذا الوطن الذي لولاه لكان تاريخ وجغرافيا العديد من دول الجوار والمنطقة بل والعالم بأسره تغيرت، ليس من قبيل الغرور ولا المبالغة لكنها الحقيقة التي قد ينكرها البعض الجاحد صانع الفتن ممتهن الدونية عميل الآخر دون شروط حتى ولو بالكلمة المحرفة والمزورة في ميادين الإعلام أو ميدان الرويبضة والفتنة الأكبر المسمى بالسوشيال ميديا.
فلمصر تاريخ من الصراع المضني مع الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس، لا تنسى فيها مصر الباسلة ثأرها ولا حقوقها، ولا تنسى فيها دولة العرش البريطاني الصفعات المصرية المتتالية لها على مدار عقود، والتي أوقفت فيها الدولة المصرية التغلغل البريطاني لا فقط لقلب الوطن العربي، بل ولقلب القارة الأفريقية كلها، بعد كامل الدعم الناصري لحركات التحرر الأفريقية والتي بلغت ذورتها عام 1963، وهو نفس العام الذي يحسب بعد منه بمئة عام استراتيجية أفريقيا 2063.
فالحرب البريطانية على مصر منذ عام 1882 والتي انتهت باحتلال بريطانيا وإعلانها الحماية على مصر عام 1914، كانت قد قابلتها الثورة المصرية في نفس العام 1882 بقيادة الزعيم الراحل أحمد عرابي، الذي تم نفيه هو وقادة الثورة أمثال محمود سامي البارودي وعلي فهمي إلى جزيرة سيلان بالهند بعد تخفيف الحكم من الإعدام إلى النفي المؤبد ومصادرة أملاكهم.
ودخلت مصر إلى القرن العشرين وهى مثقلة بأعباء الاستعمار البريطانى بضغوطه لنهب ثرواتها، وتصاعدت المقاومة الشعبية والحركة الوطنية ضد الاحتلال مع المطالبة بالاستقلال، ثم تم إلغاء الحماية البريطانية على مصر في عام 1922 والاعتراف باستقلالها وصدر أول دستور مصري عام 1923، وصدور تصريح 28 فبراير 1922 الذي تضمن إنهاء الحماية البريطانية والاعتراف بمصر دولة مستقلة ذات سيادة.
وظلت القوات البريطانية في مصر إلى أن تم الاتفاق على معاهدة 1922 والمعاهدة الأنجلو – مصرية عام 1936، التي تمنح الملك فاروق سيادة تدريجية على الأراضي المصرية، بالرغم من أن الملك كان حاكماً صورياً تديره بريطانيا (للمتباكين على الملكية)، حيث أن بريطانيا مارست سيادتها على قناة السويس حتى تم تأميمها عام 1956 على يد جمال عبد الناصر بعد 72 عاماً من الاحتلال.
وكانت جذور أزمة السويس قد بدأت في الظهور عقب توقيع معاهدة الجلاء سنة 1954 بعد مفاوضات مصرية بريطانية رافقتها مقاومة شعبية شرسة للقوات الإنجليزية بالقناة، وبرغم ذلك بدت علاقة الزعيم جمال عبد الناصر مع الدول الغربية في تلك الفترة في صورة جيدة، خاصة مع موافقة البنك الدولي بدعم أمريكي- بريطاني على منح مصر قرضاً لتمويل مشروع السد العالي الذي كان يطمح به عبد الناصر أن يحقق طفرة زراعية وصناعية في البلاد، مانعاً به تبعات الفيضان من إهدار كامل للاستفادة بحقوق مصر المائية، إضافة إلى ما يستتبع الفيضان من خراب بالأراض الزراعية وطمس معالم العديد من المواقع الأثرية.
رأى عبد الناصر في تأميم قناة السويس فرصته الوحيدة للحصول على التمويل اللازم لبناء السد العالي، وبالفعل أعلن في 26 يوليو 1956 قرار التأميم، ومع فشل الضغط الدبلوماسي على مصر للعدول عن قرارها، وضعت كل من بريطانيا وفرنسا وإسرائيل خطة لاستخدام القوة العسكرية ضد مصر، فعلى الصعيد البريطاني كان الهدف هو التخلص من عبد الناصر الذي هدد النفوذ البريطاني بتحقيق الجلاء، وتحالف مع السوفييت، وأمم القناة التي تمر منها المصالح البريطانية.
وعلى الصعيد الفرنسي كانت فرصة للانتقام من عبد الناصر الذي ساند ثورة الجزائر، وأمم القناة التي كانت تحت إدارة فرنسية، في حين وجدت إسرائيل فرصتها لفك الخناق المحكم على سفنها في قناة السويس وخليج العقبة، وتدمير القوات المصرية في سيناء والتي كانت تشكل تهديداً صريحاً لها.
فهبطت قوات إسرائيلية في عمق سيناء، واتجهت إلى القناة لإقناع العالم بأن قناة السويس مهددة، وفي 30 أكتوبر أصدرت كل من بريطانيا وفرنسا إنذاراً يطالب بوقف القتال بين مصر وإسرائيل، ويطلب من الطرفين الانسحاب عشرة كيلومترات عن قناة السويس، وقبول احتلال مدن القناة بواسطة قوات بريطانية فرنسية بغرض حماية الملاحة في القناة، وإلا تدخلت قواتهما لتنفيذ ذلك بالقوة.
أعلنت مصر بدورها رفضها احتلال إقليم القناة، وفي اليوم التالي 31 أكتوبر هاجمت الدولتان مصر وبدأت غاراتهما الجوية على القاهرة ومنطقة القناة والإسكندرية، ونظراً لتشتت القوات المصرية بين جبهة سيناء وجبهة القناة وحتى لا تقوم القوات المعتدية بحصارها وإبادتها، أصدر عبد الناصر أوامره بسحب القوات المصرية من سيناء إلى غرب القناة، وبدأ الغزو الأنجلو-فرنسي على مصر من بورسعيد التي ضربت بالطائرات والقوات البحرية تمهيداً لعمليات الإنزال الجوي بالمظلات.
قاومت المقاومة الشعبية ببورسعيد الاحتلال بضراوة واستبسال حرك العالم ضد القوات المعتدية، ومع الضغط الدولي الداعي إلى وقف التغلغل الإنجليزي الفرنسي، وقبول الدولتين وقف إطلاق النار ابتداءً من 7 نوفمبر تلاها دخول قوات طوارئ دولية تابعة للأمم المتحدة، تم إنزال العلم البريطاني في 19 ديسمبر من فوق مبنى هيئة قناة السويس ببورسعيد، تلا ذلك انسحاب القوات الفرنسية والإنجليزية من بورسعيد في 22 ديسمبر، وفي 23 ديسمبر تسلمت السلطات المصرية مدينة بورسعيد واستردت قناة السويس، وهو التاريخ الذي اتخذته محافظة بورسعيد عيداً قومياً لها أطلق عليه "عيد النصر".
هي واحدة من أهم الأحداث العالمية التي ساهمت في تحديد مستقبل التوازن الدولي بعد الحرب العالمية الثانية، وكانت حاسمة في انطفاء نجم القوى الاستعمارية التقليدية، وتألق نجوم جديدة على الساحة الدولية، ويرى المؤرخون أن تلك الحرب مثلت نهاية وضع بريطانيا العظمى كواحدة من القوى العظمى في العالم.
ناهيك عن التاريخ الحديث ودورها البارز من قلب لندن "المالك والحاكم" في التخطيط لثورات الخراب العربي وغيرها، والتي قطعاً سيكتبها التاريخ الحق من الآن، تماماً كما فعلت قوانا الناعمة في مسلسلات الاختيار وهجمة مرتدة والقاهرة كابول والعائدون، وأفلام كالممر وحروب كرموز وكيرة والجن وفي الطريق إلينا فيلم "السرب".
عذراً أيها التاج الملكي، فنحن لا ننسى، من خطط ومن موّل ومن أدار ومن قام بالتنفيذ، لا يعنينا في هذا هالة الملكية ولا بريق تاج الملكة الذي سُرقت أكبر ماسة فيه وتزن 3 آلاف قيراط من جنوب أفريقيا عام 1905، وسرقت باقي ماساته من الهند، بخلاف ما تم نهبه من باقي الدول التي كانت خاضعة للسيطرة البريطانية، وتتباهى بها بريطانيا أمام العالم وكأنها المالكة وهي السارقة، ولا عجب في ذلك فلصوص الأوطان لا تمنعهم سرقة ثرواتها، وتاريخها، ومستقبل أجيالها.
عذراً يا أبناء جيلي ممن لم يحصل على جرعة تاريخية لا من إعلام ولا من نخبة ولا من مؤسسات تعليمية، ولا حتى من كتاب الثانوية العامة، بالشكل الذي تحصنه ضد إبداء مشاعر تعاطف مزيفة، ومُهينة، بل وتحمل ملامح خيانة عظمى حتى ولو كونها على سبيل المشاعر التي لا ترقى لمستوى السلوك.
فالسياسة لها مسالكها ومسؤولياتها المحنكة في إدارة الأمور، أما الشعوب فعليها واجب الوعي الوطني والتحصن بالمعلومة والمبادرة بالسلوك الحكيم المعتدل الذي يبث للآخر دوماً رسائل صريحة لا تحمل مواراة ولا تذبذب، فنحن الشعب الذي لا ينسى، ولن ننسى، وسنعلم أبنائنا ألا ينسوا، ولن ننهزم خلافاً لما قاله الشاعر الإغريقي "هزمناهم ليس حين غزوناهم بل حين أنسيناهم تاريخهم وحضارتهم".