الصلة بين الإنسان وبين التفكر الديني صلة مرتبطة كل الارتباط بوجود الإنسان نفسه، بحيث نستطيع أن نقول إن الدين أو إن التفكير الديني يعد غريزة من الغرائز التي يتصف بها الإنسان، فأينما وجد الإنسان وجد هذا اللون من التفكير والفهم والتفسير.
ومحاولة الوصول إلى الكائن أو الكائنات السامية التي أوجدت هذا الكون وتتحكم فيه، فضلًا عن اتباع تعليماتها فيما يتعلق بالسلوك البشري وتحديد العلاقة بين الإنسان وأخيه الإنسان من جهة، وبينه وبين المجتمع من جهة أخرى، فإن الغريزة الدينية موجودة بالفطرة لدى البشر، فإن الشعوب التي أقرت بوجود كائن ما أو كائنات متميزة عن العالم، إلا أنها هذه الشعوب مختلفة فيما بينها في تحديد «الألوهية»، فمن قائل بوجود إله واحد ومن قائل بوجود إلهين ومن قائل بوجود ثلاثة آلهة، ومن قائل بوجود مجموعة من الآلهة.
ليس هذا فحسب، بل نجد أن بعضهم عبدوا مظاهر الطبيعة، بل وبعضهم الكائنات الطبيعية، ولذلك لا توجد أمة من الأمم إلا ولديها فهم كامل وتصور، قد يكون واضحًا أو غير واضح، عن الإله أو الرب أو الألوهية.
لذلك آثرنا أن يكون موضوع مقالنا حول تصور الألوهية عند واحدة من الديانات الشرقية القديمة السابقة على الإسلام، هذه الديانة التي كانت ومازالت حديث الكثير، حتى وصل الأمر إلى بلوغ أتباعها 7% من سكان العالم، وهي الديانة البوذية نسبة إلى «غوتاما بوذا»، وهو من أشهر فلاسفة الهند وزعيم واحدة من أكبر الديانة العالمية منذ القرن السادس قبل الميلاد وحتى وقتنا هذا.
يرى البوذيون، كما جاء في إنجيل بوذا (صفحة رقم 273)، أن الحقائق الخالدة تكتنف العالم بأسره، متصرفة بالطبيعة بحسب القوانين الموضوعة لها منذ البدء.
والعالم المحموم بما تراكم فيه من مظاهر، قد أغمض عينيه عن النظر والتأمل، وأصم أذنيه عن سماع التعاليم، فلم يفكر في السبب الذي وجد من أجله.
والسؤال الآن، ما هو مفهوم الألوهية عند بوذا؟ وهل الأمر غامض كل الغموض، كما يُقال أم ماذا؟.
يصعب على الباحث في هذا الصدد أن ما بقى من أقوال لبوذا لا يحسم هذه المسألة، فإن الأمر غامض كل الغموض، فمن قائل إن بوذا كان قائلًا بوجود إله، ومن قائل إنه نفى الإله، ومن قائل إنه قد تجنب الحديث عن هذا المفهوم، وإن كانت طبيعة الاتجاه تشير إلى أنه منع البحث في مفهوم الألوهية، ذلك أنه كان يركز على مشكلة أساسية ووحيدة وهي خلاص الإنسان من الألم، والقضاء على الشقاء الذي يشعر به الفرد، أي أن الطابع الخلقي هو السمة التي تميز فلسفه بوذا، ويدعم هذا الرأي أيضًا إن بوذا لم ينصب نفسه نبيًا، ومن ثم لم يقل أن كلامه أو حكمته جاءت له عن طريق إلهام أو وحي إلهي.
بل لم يكن بوذا يسمح لنفسه أن يصرح بأن أقواله التي أملاها على طلابه ومريديه أقوالًا مقدسة تتجاوز نطاق البشر، بل إنه إنسان عادي خبرة الحياة بحلوها ومرها بيرها وشرها علمته الكثير، وقدم هذه التجربة الفريدة إلى الآخرين علهم أن يفيدوا منها، أي أن بوذا يرشد أتباعه إلى نظام يضمن الرقي الخلقي، دون أن يدعوهم إلى دين كسائر الأديان.
إنه يقدم لهم طريقًا للخلاص لكنه لا يقدم لهم عقيدة للإيمان، وذلك لأنه كان يعتقد أن عقيدة الإيمان قد تحول بين المرء وبين قبول الحقائق الجديدة.
يرى بوذا أن خلاص الإنسان متوقف عليه هو لا على الإله، ويرى بوذا أيضًا أن الإنسان صانع مصيره، أي أن بوذا لم يعن بالحديث عن الإله، ولم يشغل نفسه بالكلام عنه إثباتا أو إنكارًا، وتحاشى كل ما يتصل بالبحوث اللاهوتية وما وراء الطبيعة أو عن القضايا الدقيقة في الكون.
إن بوذا أنكر فكرة وحدة الوجود، وإنكار فكرة وحدة الوجود – وهي الفكرة القائلة بأن الله والطبيعة شيئًا واحدًا – تؤدي بطبيعة الحال إلى إنكار فكرة الألوهية، كما كان فهم الناس لها آنذاك.
يوضح هذا من جهة أخرى، أن مفهوم الإله بحسبانه ليس كمثله شيء، ولم يلد ولم يولد، هذا الفهم المتميز للوجود الإلهي لم يكن يدور بخلد واحد من الهنود بما في ذلك كل زعمائهم الروحيين.
وعلى ذلك، فإن بوذا بلغة الدين لا يعد موحدًا بأي حال من الأحوال، بل يعد كافرًا لأنه أنكر الإله أو الآلهة، ولم يجعل لها دورًا يذكر لا في حياته ولا في هذا العالم، ليس هذا فحسب، بل أن بوذا أيضًا قد صرح بأن طهارة الذات والقضاء على الولادة خير ألف مرة من عبادة الآلهة والتضحية لها، يقول بوذا: «أن تضحية الذات أعظم بكثير من تقديم الأضاحي والمحرقات، فالذي يقدم للآلهة "الذات" ومشتهياتها خير من الذبيحة الباطلة. وأعلم أن ليس للدم قوة التطهير، ولكن جلد الشهوة يطهر القلب ويبعده عن كل خطيئة، والانقياد إلى شرعية البرابرة والتسليم المطلق أصبح من عبادة الآلهة والتضحية لها».
إذاً ليس ثمة عند بوذا وحي أو إلهام إلهي لأنه لا يوجد إله، لذلك على الإنسان أن يعتمد في خلاصه وتطهره على عقله لا على السماء وما تجود به من معجزات ربانية، لأن هذه ليست موجودة لدى البوذية.
أضف إلى ذلك عزيز القارئ، إنه من خلال مطالعتنا لإنجيل بوذا وما كُتِّبَ حول العقيدة البوذية، فما تكون لدينا هو «إذا كانت الآلهة موجودة فإن البوذا فوقها، وهو معلمها»، كما أن الإنسان قادر على أن يصير إلهًا إذا تقيد بوسائط ثلاث وهي: قول الحقيقة، عدم تسليم النفس إلى الغضب، وإذا أعطي ما طلب منه».
كما أن انسياق بوذا مع الاتجاه الخلقي والعملي دفعه إلى التقليل من قيمة الآلهة والخوض في أعمالها وصفاتها، حتى أننا نراه يعلن بوضوح «بأن طاعة قوانين العدالة أفضل بكثير من عبادة الآلهة»، ولهذا نستطيع الآن أن نستدل على موقف بوذا من الدين، وذلك لأنه قد أكد أنه لا يعرف شيئًا عن طبيعة الإله؛ إذ إن هذه المشكلة كانت من وجهة نظره فوق طاقة العقل البشري.
كما أن بوذا لم يدَّعِ قط أنه يحمل رسالة من الإله، لكن ذلك لا يعني أن البوذية ملحدة، ليست هي ملحدة ولا مؤمنة بسبب أنها ليست دينًا كما قلنا بقدر ما هي نظام، وخطة سلوك، ومنهج لاكتساب الانعتاق من الألم، وبالتالي التناسخ المتكرر.
كما أن البوذية لا تهتم بإله بسبب انكبابها لا على التعبد وإنما على تعبيد طرق النفس للحصول على الخلاص، ولهذا وجد أتباع بوذا أنه ترك المكان الذي يحتله الإله في الدين فارغًا.
وقبل أن نُنهي حديثنا لدينا عدة تساؤلات، هل يوجد حُجَج وَمُسْلِمَات تركها لنا بوذا استطاع أن يُدَلِلُ بها على الوجود الإلهي؟ وما هو موقف بوذا من الديانة البراهمية؟ وأخيراً، هل لقت الديانة البوذية تطورًا، وهل كان مؤثراً بالسلب عليها أم بالإيجاب، من ناحية شعبيتها وفهمها؟ ستكون هذه التساؤلات هي محور حديثنا في المقال القادم، وسيكون الجزء الثاني والأخير من موضوعنا.